الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 375 ] المسألة السادسة

                                                                                                                                                                                                                                      اعلم أن العلماء اختلفوا في طواف القارن والمتمتع إلى ثلاثة مذاهب :

                                                                                                                                                                                                                                      الأول : أن على القارن طوافا واحدا وسعيا واحدا ، وأن ذلك يكفيه لحجه وعمرته ، وأن على المتمتع طوافين وسعيين ، وهذا مذهب جمهور العلماء ; منهم مالك والشافعي ، وأحمد في أصح الروايات .

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني : أن على كل واحد منهما سعيين وطوافين ، وهذا مذهب أبي حنيفة وأصحابه .

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث : أنهما معا يكفيهما طواف واحد وسعي واحد ، وهو مروي عن الإمام أحمد . أما الجمهور المفرقون بين القارن والمتمتع القائلون بأن القارن يكفيه لحجه وعمرته طواف زيارة واحد ، وهو طواف الإفاضة ، وسعي واحد ، فاحتجوا بأحاديث صحيحة ليس مع مخالفيهم ما يقاومها .

                                                                                                                                                                                                                                      منها : ما ثبت في صحيح مسلم بن الحجاج رحمه الله : حدثني محمد بن حاتم ، حدثنا بهز ، حدثنا وهب ، حدثنا عبد الله بن طاوس ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها : أنها أهلت بعمرة ، فقدمت ولم تطف بالبيت حتى حاضت ، فنسكت المناسك كلها ، وقد أهلت بالحج ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : " يسعك طوافك لحجك وعمرتك " الحديث . ففي هذا الحديث الصحيح التصريح بأنها كانت محرمة أولا ، ومنعها الحيض من الطواف فلم يمكنها أن تحل بعمرة فأهلت بالحج مع عمرتها الأولى فصارت قارنة ، وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح بأنها قارنة حيث قال : " لحجك وعمرتك " ، ومع ذلك صرح بأنها يكفيها لهما طواف واحد .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال مسلم رحمه الله أيضا في صحيحه : وحدثني حسن بن علي الحلواني ، حدثنا زيد بن الحباب ، حدثني إبراهيم بن نافع ، حدثني عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن عائشة رضي الله عنها : أنها حاضت بسرف ، فتطهرت بعرفة ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يجزئ عنك طوافك بالصفا والمروة عن حجك وعمرتك " . اهـ منه .

                                                                                                                                                                                                                                      فهذا الحديث الصحيح صريح في أن القارن يكفيه لحجه وعمرته طواف واحد وسعي واحد .

                                                                                                                                                                                                                                      ومنها : حديث ابن عمر المتفق عليه الذي قدمناه ، قال البخاري رحمه الله في [ ص: 376 ] صحيحه في بعض رواياته لهذا الحديث : حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن علية ، عن أيوب عن نافع : أن ابن عمر رضي الله عنهما دخل ابنه عبيد الله بن عبد الله وظهره في الدار فقال : إني لا آمن أن يكون العام بين الناس قتال . فقال : فيصدوك عن البيت ، فلو أقمت ؟ فقال : قد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فحال كفار قريش بينه وبين البيت ، فإن حيل بيني وبينه أفعل كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة [ 33 \ 21 ] ، ثم قال : أشهدكم أني أوجبت مع عمرتي حجا ، قال : ثم قدم فطاف لهما طوافا واحدا .

                                                                                                                                                                                                                                      حدثنا قتيبة ، حدثنا الليث ، عن نافع أن ابن عمر رضي الله عنهما أراد الحج عام نزل الحجاج بابن الزبير فقيل له : إن الناس كائن بينهم قتال ، وإنا نخاف أن يصدوك ؟ فقال : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة [ 33 \ 21 ] إذا أصنع كما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إني أشهدكم أني قد أوجبت عمرة ، ثم خرج حتى إذا كان بظاهر البيداء قال : ما شأن الحج والعمرة إلا واحد ، أشهدكم أني قد أوجبت حجا مع عمرتي ، وأهدى هديا اشتراه بقديد ، ولم يزد على ذلك ، فلم ينحر ، ولم يحل من شيء حرم منه ، ولم يحلق ولم يقصر حتى كان يوم النحر فنحر وحلق ، ورأى أن قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول ، وقال ابن عمر رضي الله عنهما : كذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم . انتهى منه ، وفي هذا الحديث الصحيح التصريح من ابن عمر باكتفاء القارن بطواف واحد وأن النبي صلى الله عليه وسلم كذلك فعل . وبعض العلماء حمل الطواف المذكور ، على طواف الإفاضة ، وبعضهم حمله على الطواف بين الصفا والمروة . أما حمله على طواف القدوم فباطل بلا شك ; لأن النبي لم يكتف بطواف القدوم ، بل طاف طواف الإفاضة الذي هو ركن الحج بإجماع المسلمين .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الكرماني في شرح الحديث المذكور ، فإن قلت : ما المقصود من الطواف الأول إذ لا يجوز أن يراد به طواف القدوم ؟

                                                                                                                                                                                                                                      قلت : يعني أنه لم يكرر الطواف للقران ، بل اكتفى بطواف واحد ، وقد أخرج حديث ابن عمر هذا مسلم في صحيحه من طرق متعددة ، وفي لفظ منها : أشهدكم أني قد أوجبت حجة مع عمرة ، فانطلق حتى ابتاع بقديد هديا ، ثم طاف لهما طوافا واحدا بالبيت ، وبين الصفا والمروة ، ثم لم يحل منهما حتى حل منهما بحجة يوم النحر . اهـ .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال النووي : معناه : حتى حل منهما يوم النحر بعمل حجة مفردة . وفي بعض روايات مسلم لحديث ابن عمر هذا : أشهدكم أني أوجبت حجا مع عمرتي ، وأهدى هديا اشتراه بقديد ، ثم انطلق يهل بهما جميعا حتى قدم مكة ، فطاف بالبيت وبالصفا والمروة ، ولم [ ص: 377 ] يزد على ذلك ، ولم ينحر ، ولم يحلق ، ولم يقصر ، ولم يحلل من شيء حرم منه حتى كان يوم النحر فنحر وحلق ، ورأى أنه قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول . وقال ابن عمر : كذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم . انتهى منه ، وهو صريح في أن القارن يكفيه لحجه وعمرته طواف واحد .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لي والله تعالى أعلم : أن مراد ابن عمر في قوله : ورأى أنه قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول ، في مسلم والبخاري ، هو الطواف بين الصفا والمروة ، ويدل على ذلك أمران :

                                                                                                                                                                                                                                      الأول منهما : هو ما قدمنا في بعض روايات مسلم في صحيحه مما لفظه : ثم طاف لهما طوافا واحدا بالبيت ، وبين الصفا والمروة ، ثم لم يحل منهما حتى حل منهما بحجة ، ومعلوم أن الحل بحجة لا يمكن بدون طواف الإفاضة . أما السعي في الحجة ، فيكفي فيه السعي الأول بعد طواف القدوم ، فيتعين أن الطواف الأول الذي رأى إجزاءه عن حجه وعمرته هو الطواف بين الصفا والمروة ، بدليل الرواية الصحيحة بأنه لم يحل منهما إلا بحجة يوم النحر ، وحجة يوم النحر أعظم أركانها طواف الإفاضة ، فبدونه لا تسمى حجة ; لأنه ركنها الأكبر المنصوص على الأمر به في كتاب الله في قوله تعالى : وليطوفوا بالبيت العتيق [ 22 \ 29 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      الأمر الثاني الدال على ذلك هو : أن ابن عمر رضي الله عنهما قال : كذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم الثابت عنه في الروايات الصحيحة أنه اكتفى بسعيه بين الصفا والمروة بعد طواف القدوم لحجه وعمرته ، وأنه بعد إفاضته من عرفات طاف طواف الإفاضة يوم النحر على التحقيق ، فحديث ابن عمر هذا نص صحيح متفق عليه ، على أن القارن يعمل كعمل المفرد ، وعلى هذا يحمل الطواف الواحد في حديث عائشة الآتي ، فيفسر بأنه الطواف بين الصفا والمروة ؛ لأن القارن لا يسعى لحجه وعمرته إلا مرة واحدة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن حجر في الفتح في كلامه على الروايتين اللتين أخرج بهما البخاري حديث ابن عمر المذكور - أعني اللتين سقناهما آنفا - ما نصه : والحديثان ظاهران في أن القارن لا يجب عليه إلا طواف واحد كالمفرد ، وقد رواه سعيد بن منصور من وجه آخر عن نافع عن ابن عمر أصرح من سياق حديثي الباب في الرفع ، ولفظه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من جمع بين الحج والعمرة كفاه لهما طواف واحد وسعي واحد " وأعله الطحاوي بأن [ ص: 378 ] الدراوردي أخطأ فيه ، وأن الصواب أنه موقوف ، وتمسك في تخطئته بما رواه أيوب ، والليث ، وموسى بن عقبة وغير واحد عن نافع نحو سياق ما في الباب ، من أن ذلك وقع لابن عمر ، وأنه قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك ، لا أنه روى هذا اللفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو إعلال مردود ، فالدراوردي صدوق ، وليس ما رواه مخالفا لما رواه غيره ، فلا مانع من أن يكون الحديث عند نافع على الوجهين . انتهى كلام ابن حجر في الفتح .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : هذا الحديث الذي نحن بصدده ليس بموقوف على كلا التقديرين ; لأن ابن عمر لما طاف لهما طوافا واحدا ، أخبر بأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل كذلك ، وهذا عين الرفع ، فلا وقف البتة كما ترى ، وحديث ابن عمر هذا الذي ذكر ابن حجر في الفتح ، أن سعيد بن منصور أخرجه - أصرح من حديثي الباب عند البخاري ، قال فيه المجد في المنتقى : رواه أحمد وابن ماجه ، وفي لفظ : من أحرم بالحج والعمرة أجزأه طواف واحد وسعي واحد منهما حتى يحل منهما جميعا . رواه الترمذي ، وقال : هذا حديث حسن غريب . وفيه دليل على وجوب السعي ، ووقوف التحلل عليه .

                                                                                                                                                                                                                                      ومنها : ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما ، عن عروة ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ، فأهللنا بعمرة ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة ثم لا يحل منهما جميعا " الحديث ، وفيه : وأما الذين جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا واحدا . انتهى . وهو نص صريح متفق عليه دال على اكتفاء القارن بطواف واحد لحجه وعمرته .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال بعض أهل العلم : إن المراد بالطواف في حديث عائشة هذا هو الطواف بين الصفا والمروة ، وله وجه من النظر ، كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      ومنها : حديث جابر الذي قدمناه عند مسلم ، وفيه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " دخلت العمرة في الحج . مرتين " وتصريحه صلى الله عليه وسلم بدخولها فيه يدل على دخول أعمالها في أعماله حالة القران ، وإن أوله جماعات من أهل العلم بتأويلات أخر متعددة .

                                                                                                                                                                                                                                      والأحاديث الدالة على أن القارن يكفيه طواف واحد وسعي واحد كفعل المفرد كثيرة ، وفيما ذكرنا هنا من الأحاديث الصحيحة كفاية لمن يريد الحق ، وهذا الذي ذكرناه بعض أدلة القائلين بالفرق بين القران والتمتع ، وأن القارن يكفيه طواف واحد وسعي واحد لعمرته وحجه . وقد رأيت ما ذكر من أدلتهم على أن القارن يكفيه طواف واحد وسعي واحد .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 379 ] أما أدلة هذه الطائفة على أن المتمتع لا بد له من طوافين وسعيين ، طواف وسعي لعمرته ، وطواف وسعي لحجه . فمنها : ما رواه البخاري في صحيحه قال : وقال أبو كامل فضيل بن حسين البصري : حدثنا أبو معشر ، حدثنا عثمان بن غياث ، عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما : أنه سئل عن متعة الحج ؟ فقال : أهل المهاجرون والأنصار وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وأهللنا ، فلما قدمنا مكة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدي " ، طفنا بالبيت وبالصفا والمروة ، وأتينا النساء ، ولبسنا الثياب ، وقال : " من قلد الهدي فإنه لا يحل له حتى يبلغ الهدي محله " ، ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج ، فإذا فرغنا من المناسك ، جئنا فطفنا بالبيت ، وبالصفا والمروة ، وقد تم حجنا وعلينا الهدي . الحديث .

                                                                                                                                                                                                                                      فهذا الحديث الثابت في صحيح البخاري فيه الدلالة الواضحة على أن الذين تمتعوا وأحلوا من عمرتهم طافوا وسعوا لعمرتهم ، وطافوا وسعوا مرة أخرى لحجهم ، وهو نص في محل النزاع .

                                                                                                                                                                                                                                      واعلم أن دعوى من ادعى من العلماء أن رواية البخاري في هذا الإسناد ، عن أبي كامل فضيل بن حسين البصري بلفظ : " وقال أبو كامل " لها حكم التعليق - غير مسلمة ، بل الذي عليه الجمهور من المتأخرين أن الراوي إذا قال : قال فلان ، فحكم ذلك كحكم ( عن فلان ) ونحو ذلك ، فالرواية بذلك متصلة ، لا معلقة إن كان الراوي غير مدلس ، وكان معاصرا لمن روى عنه بـ " قال " ونحوها ؛ ولذا غلطوا ابن حزم في حديث المعازف حيث قال : إن قول البخاري في أول الإسناد : وقال هشام بن عمار ، تعليق وليس الحديث بمتصل ، فغلطوه وحكموا للحديث بالاتصال ; لأن هشام بن عمار من شيوخ البخاري ، والبخاري غير مدلس ، فقوله عن شيخه : قال فلان ، كقوله : عن فلان ، وكل ذلك موصول لا معلق .

                                                                                                                                                                                                                                      واعلم أن قول ابن حجر في تهذيب التهذيب : إن البخاري روى عن فضيل المذكور تعليقا ، مخالف لمذهب الجمهور من المتأخرين ; لأن قوله : وقال أبو كامل في حكم ما لو قال : عن أبي كامل ، وكل ذلك يحكم بوصله عند المحققين ، فقول ابن حجر في الفتح أقرب إلى الصواب من قوله في التهذيب . وقد قال في فتح الباري في كلامه على الحديث المذكور : ويحتمل أن يكون البخاري أخذه عن أبي كامل نفسه ، فإنه أدركه وهو من الطبقة الوسطى من شيوخه ، ولم نجد له ذكرا في كتابه غير هذا الموضع . انتهى منه .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 380 ] ومعلوم أن أبا كامل مات سنة سبع وثلاثين ومائتين . وله أكثر من ثمانين سنة والبخاري مات سنة ست وخمسين ومائتين ، وله اثنان وستون سنة ، وبذلك تعلم معاصرتهما زمنا طويلا ، وقد قال العراقي في ألفيته :


                                                                                                                                                                                                                                      وإن يكن أول الإسناد حذف مع صيغة الجزم فتعليقا ألف     ولو إلى آخره أما الذي
                                                                                                                                                                                                                                      لشيخه عزا بـ " قال " فكذي     عنعنة كخبر المعازف
                                                                                                                                                                                                                                      لا تصغ لابن حزم المخالف

                                                                                                                                                                                                                                      وإذا علمت أنه في هذه الأبيات صرح بأن قوله : قال فلان ، كقوله : عن فلان ، تبين لك أن كل ذلك من قبيل المتصل ، لا من قبيل المعلق ، وقد قال العراقي في ألفيته أيضا :


                                                                                                                                                                                                                                      وصححوا وصل معنعن سلم     من دلسه راويه واللقا علم
                                                                                                                                                                                                                                      وبعضهم حكى بذا إجماعا     ومسلم لم يشرط اجتماعا
                                                                                                                                                                                                                                      لكن تعاصرا وقيل يشترط     طول صحابة وبعضهم شرط
                                                                                                                                                                                                                                      معرفة الراوي بالأخذ عنه     وقيل كل ما أتانا منه
                                                                                                                                                                                                                                      منقطع حتى يبين الوصل     وحكم أن حكم عن فالجل
                                                                                                                                                                                                                                      سووا وللقطع نحا البرديجي     حتى يبين الوصل في التخريج
                                                                                                                                                                                                                                      قال ومثله رأى ابن شيبة     كذا له ولم يصوب صوبه
                                                                                                                                                                                                                                      قلت الصواب أن من أدرك ما     رواه بالشرط الذي تقدما
                                                                                                                                                                                                                                      يحكم له بالوصل كيفما     روى بقال أو عن أو بأن فوا
                                                                                                                                                                                                                                      وما حكى عن أحمد بن حنبل     وقول يعقوب على ذا نزل
                                                                                                                                                                                                                                      وكثر استعمال عن في ذا الزمن     إجازة وهو بوصل ما قمن


                                                                                                                                                                                                                                      انتهى منه .

                                                                                                                                                                                                                                      فترى العراقي رحمه الله جزم في الأبيات المذكورة باستواء : قال فلان ، و : عن فلان ، وأن فلانا قال كذا ، وأن الجميع من قبيل الوصل ، لا من قبيل المعلق بالشروط المذكورة . وحكى مقابله بصيغة التمريض في قوله :

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل كل ما أتانا عنه منقطع . . . إلخ

                                                                                                                                                                                                                                      وبه تعلم أن قول البخاري : وقال أبو كامل فضيل بن حسين . . . إلخ من قبيل المتصل لا من قبيل المعلق .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 381 ] وقال صاحب تدريب الراوي : أما ما عزاه البخاري لبعض شيوخه بصيغة : قال فلان ، و : زاد فلان ، ونحو ذلك ، فليس حكمه حكم التعليق عن شيوخ شيوخه ومن فوقهم ، بل حكمه حكم العنعنة من الاتصال بشرط اللقاء والسلامة من التدليس ، كذا جزم به ابن الصلاح ، قال : وبلغني عن بعض المتأخرين من المغاربة أنه جعله قسما من التعليق ثانيا ، وأضاف إليه قول البخاري : وقال فلان ، وزاد فلان ، فوسم كل ذلك بالتعليق ، قال العراقي : وما جزم به ابن الصلاح هاهنا هو الصواب ، وقد خالف ذلك في نوع الصحيح فجعل من أمثلة التعليق : قال عفان كذا ، وقال القعنبي كذا ، وهما من شيوخ البخاري . والذي عليه عمل غير واحد من المتأخرين كابن دقيق العيد ، والمزي ، أن لذلك حكم العنعنة ، قال ابن الصلاح هنا : وقد قال أبو جعفر بن حمدان النيسابوري ، وهو أعرف بالبخاري : كل ما قال البخاري : قال لي فلان أو قال لنا فلان ، فهو عرض ومناولة . انتهى محل الغرض منه . والنيسابوري المذكور هو المراد بالحيري في قول العراقي في ألفيته .

                                                                                                                                                                                                                                      ناولة

                                                                                                                                                                                                                                      واعلم أن البخاري رحمه الله تعالى قد يقول : قال فلان مع سماعه منه لغرض غير التعليق .

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن حجر في فتح الباري في شرح حديث المعازف المذكور ناقلا عن ابن الصلاح ، ولا التفات إلى أبي محمد بن حزم الظاهري الحافظ في رد ما أخرجه البخاري من حديث أبي عامر ، أو أبي مالك الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف " من جهة أن البخاري أورده قائلا : قال هشام بن عمار ، وساقه بإسناده ، فزعم ابن حزم أنه منقطع فيما بين البخاري وهشام ، وجعله جوابا عن الاحتجاج به على تحريم المعازف ، وأخطأ في ذلك في وجوه . والحديث صحيح معروف الاتصال بشرط الصحيح ، والبخاري قد يفعل مثل ذلك لكونه قد ذكر ذلك الحديث في موضع آخر من كتابه مسندا متصلا ، وقد يفعل ذلك لغير ذلك من الأسباب التي لا يصحبها خلل الانقطاع . انتهى منه .

                                                                                                                                                                                                                                      وكون البخاري رحمه الله يعبر بـ " قال فلان " لأسباب كثيرة غير التعليق يدل دلالة واضحة على أن الجزم في مثل ذلك بالتعليق بلا مستند ، دعوى لم يعضدها دليل .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن حجر في الفتح أيضا في شرح الحديث المذكور : وحكى ابن الصلاح في [ ص: 382 ] موضع آخر : أن الذي يقول البخاري فيه : قال فلان ، ويسمي شيخا من شيوخه ، يكون من قبيل الإسناد المعنعن . وحكي عن بعض الحفاظ أنه يفعل ذلك فيما تحمله عن شيخه مذاكرة . وعن بعضهم أنه فيما يرويه مناولة . اهـ . وهو صريح في أن قوله : قال فلان لا يستلزم التعليق .

                                                                                                                                                                                                                                      فإن قيل : توجد في صحيح البخاري أحاديث يرويها عن بعض شيوخه بصيغة : قال فلان ، ثم يوردها في موضع آخر بواسطة بينه وبين ذلك الشيخ .

                                                                                                                                                                                                                                      فالجواب من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                      الأول : أنه لا مانع عقلا ولا عادة ، ولا شرعا من أن يكون روى ذلك الحديث عن الشيخ مباشرة ورواه عنه أيضا بواسطة مع كون روايته عنه مباشرة تشتمل على سبب من الأسباب المؤدية للتعبير بلفظة : قال ، المشار إليها آنفا ، والرواية عن الواسطة سالمة من ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      الوجه الثاني : أنا لو سلمنا تسليما جدليا أن الصيغة المذكورة تقتضي التعليق ولا تقتضي الاتصال ، فتعليق البخاري بصيغة الجزم حكمه عند علماء الحديث حكم الصحيح ، كما هو معروف .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد قال ابن حجر في الفتح في الكلام على حديث المعازف ما نصه : وقد تقرر عند الحفاظ أن الذي يأتي به البخاري من التعاليق كلها بصيغة الجزم ، يكون صحيحا إلى من علق عنه ، ولو لم يكن من شيوخه . انتهى محل الغرض منه .

                                                                                                                                                                                                                                      فتبين بما ذكرنا أن حديث ابن عباس المذكور الدال على أن المتمتع يسعى ويطوف لحجه بعد الوقوف بعرفة ، ولا يكتفي بطواف العمرة السابق وسعيها - نص صحيح على كل تقدير في محل النزاع .

                                                                                                                                                                                                                                      ومنها : ما رواه الشيخان عن عائشة رضي الله عنها مما يدل على أن المتمتع يطوف لحجه بعد رجوعه من منى ، قال البخاري في صحيحه : حدثنا عبد الله بن مسلمة ، حدثنا مالك ، عن ابن شهاب ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ، فأهللنا بعمرة ، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا " الحديث ، وفيه قالت : فطاف الذين كانوا أهلوا بالعمرة بالبيت ، وبين الصفا والمروة ، ثم حلوا ، ثم طافوا طوافا [ ص: 383 ] آخر بعد أن رجعوا من منى ، وأما الذين جمعوا الحج والعمرة ، فإنما طافوا طوافا واحدا . اهـ منه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال مسلم بن الحجاج في صحيحه : حدثنا يحيى بن يحيى التميمي ، قال : قرأت على مالك عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع . الحديث ، وفيه : فطاف الذين أهلوا بالعمرة بالبيت ، وبالصفا والمروة ، ثم حلوا ، ثم طافوا طوافا آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم : وأما الذين كانوا جمعوا الحج والعمرة ، فإنما طافوا طوافا واحدا . انتهى منه .

                                                                                                                                                                                                                                      فهذا نص صريح متفق عليه ، يدل على الفرق بين القارن والمتمتع ، وأن القارن يفعل كفعل المفرد ، والمتمتع يطوف لعمرته ويطوف لحجه ، فلا وجه للنزاع في هذه المسألة بعد هذا الحديث ، وحديث ابن عباس المذكور قبله عند البخاري ، وقول من قال : إن المراد بالطواف الواحد في حديث عائشة هذا : السعي له وجه من النظر ، واختاره ابن القيم ، وهو وجيه عندي .

                                                                                                                                                                                                                                      فهذه النصوص تدل على صحة هذا القول المفرق بين القارن والمتمتع ، وهو قول جمهور أهل العلم ، وهو الصواب إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      أما من قال : إن المتمتع كالقارن يكفيه طواف واحد وسعي واحد ، وهو رواية عن الإمام أحمد ، فقد استدل بما رواه مسلم في صحيحه ، قال : وحدثني محمد بن حاتم ، حدثنا يحيى بن سعيد ، عن ابن جريج ، ( ح ) ، وحدثنا عبد بن حميد ، أخبرنا محمد بن بكر ، أخبرنا ابن جريج قال : أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول : لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافا واحدا . زاد في حديث محمد بن بكر : طوافه الأول . انتهى منه .

                                                                                                                                                                                                                                      قال من تمسك بهذا الحديث : هذا نص صحيح ، صرح فيه جابر بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يطف هو ولا أصحابه إلا طوافا واحدا ، ومعلوم أن أصحابه فيهم القارن ، وهو من كان معه الهدي ، وفيهم المتمتع ، وهو من لم يكن معه هدي ، وإذا ففي هذا الحديث الصحيح الدليل على استواء القارن والمتمتع في لزوم طواف واحد وسعي واحد .

                                                                                                                                                                                                                                      وأجاب المخالفون عن هذا بأجوبة :

                                                                                                                                                                                                                                      الأول : هو أن الجمع واجب إن أمكن ، قالوا : وهو هنا ممكن بحمل حديث جابر [ ص: 384 ] هذا على أن المراد بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين لم يطوفوا إلا طوافا واحدا للعمرة والحج ، خصوص القارنين منهم ، كالنبي صلى الله عليه وسلم ; لأنه كان قارنا بلا شك ، وإن حمل حديث جابر على هذا كان موافقا لحديث عائشة وحديث ابن عباس المتقدمين ، وهذا واضح كما ترى . قال في مراقي السعود :


                                                                                                                                                                                                                                      والجمع واجب متى ما أمكنا     إلا فللأخير نسخ بينا



                                                                                                                                                                                                                                      وإنما كان قول العلماء كافة : أن الجمع إن أمكن وجب المصير إليه ; لأن إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما ، كما هو معروف في الأصول .

                                                                                                                                                                                                                                      الجواب الثاني : أنا لو سلمنا أن الجمع غير ممكن هنا في حديث جابر المذكور مع حديث عائشة وحديث ابن عباس كما جاء في بعض الروايات عن جابر عند مسلم بلفظ لا يمكن فيه الجمع المذكور ، وذلك ما أخرجه مسلم في صحيحه : حدثنا أحمد بن يونس ، حدثنا زهير ، حدثنا أبو الزبير ، عن جابر رضي الله عنه قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلين بالحج معنا النساء والولدان ، فلما قدمنا مكة طفنا بالبيت وبالصفا والمروة ، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من لم يكن معه هدي فليحلل ، قال : قلنا : أي الحل ؟ قال : الحل كله . قال : فأتينا النساء ولبسنا الثياب ومسسنا الطيب ، فلما كان يوم التروية أهللنا بالحج ، وكفانا الطواف الأول بين الصفا والمروة ، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر ; كل سبعة منا في بدنة " . انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      ولفظ جابر في حديث مسلم هذا في هذه الرواية لا يمكن حمله على القارنين بحال ; لأنه صرح بأنهم حلوا الحل كله ، وأتوا النساء ولبسوا الثياب ومسوا الطيب ، وأنهم أهلوا يوم التروية بحج ، ومع هذا كله صرح بأنهم كفاهم طوافهم الأول بين الصفا والمروة ، فإن حديث جابر ينفي طواف المتمتع بعد رجوعه من منى ، وحديث عائشة وحديث ابن عباس يثبتانه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد تقرر في الأصول وعلوم الحديث أن المثبت مقدم على النافي ، فيجب تقديم حديث ابن عباس وعائشة - لأنهما مثبتان - على حديث جابر النافي .

                                                                                                                                                                                                                                      الجواب الثالث : أن عدم طواف المتمتع بعد رجوعه من منى الثابت في الصحيح رواه جابر وحده ، وطوافه بعد رجوعه من منى رواه في الصحيح ابن عباس وعائشة ، وما رواه اثنان أرجح مما رواه واحد . [ ص: 385 ] قال في مراقي السعود ، في مبحث الترجيح باعتبار حال المروي :


                                                                                                                                                                                                                                      وكثرة الدليل والروايه     مرجح لدى ذوي الدرايه



                                                                                                                                                                                                                                      وأما من قالوا : إن القارن والمتمتع يلزم كل واحد منهما طوافان وسعيان ، طواف وسعي للعمرة ، وطواف وسعي للحج كأبي حنيفة ، ومن وافقه ، فقد استدلوا لذلك بأحاديث ، ونحن نذكرها إن شاء الله هنا ، ونبين وجه رد المخالفين لها من وجهين .

                                                                                                                                                                                                                                      فمن الأدلة التي استدلوا بها على أن القارن يسعى سعيين ويطوف طوافين لحجه وعمرته ، ما أخرجه النسائي في سننه الكبرى ، ومسند علي ، عن حماد بن عبد الرحمن الأنصاري ، عن إبراهيم بن محمد ابن الحنفية قال : طفت مع أبي ، وقد جمع بين الحج والعمرة فطاف لهما طوافين ، وسعى لهما سعيين ، وحدثني أن عليا فعل ذلك ، وحدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك . انتهى بواسطة نقل صاحب نصب الراية ، ثم قال بعد أن ساق الحديث كما ذكرنا : قال صاحب التنقيح : وحماد هذا ضعفه الأزدي ، وذكره ابن حبان في الثقات . قال بعض الحفاظ : هو مجهول ، والحديث من أجله لا يصح . انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن أدلتهم على الطوافين والسعيين للمتمتع والقارن معا : ما أخرجه الدارقطني ، عن الحسن بن عمارة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، عن ابن عمر : أنه جمع بين حجته وعمرته معا ، وقال سبيلهما واحد ، قال : فطاف لهما طوافين ، وسعى لهما سعيين . وقال : هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع كما صنعت . انتهى ، وأخرجه عن الحسن بن عمارة ، عن الحكم ، عن ابن أبي ليلى ، عن علي قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم قرن وطاف طوافين ، وسعى سعيين . انتهى منه بواسطة نقل صاحب نصب الراية . ثم قال بعد أن ساقهما كما ذكرنا .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الدارقطني : لم يروهما غير الحسن بن عمارة ، وهو متروك ، ثم هو قد روى عن ابن عباس ضد هذا ، ثم أخرجه ، عن الحسن بن عمارة ، عن سلمة بن كهيل ، عن طاوس قال : سمعت ابن عباس يقول : لا والله ما طاف لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا طوافا واحدا ، فهاتوا من هذا الذي يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف لهما طوافين . انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      وبالسند الثاني رواه العقيلي في كتاب الضعفاء فقال : حدثنا عبد الله بن محمد بن صالح السمرقندي ، ثنا يحيى بن حكيم المقوم قال : قلت لأبي داود الطيالسي : إن محمد بن الحسن صاحب الرأي ، حدثنا عن الحسن بن عمارة ، عن الحكم عن ابن أبي [ ص: 386 ] ليلى ، عن علي قال : فذكره . فقال أبو داود : من هذا كان شعبة يشق بطنه من الحسن بن عمارة ، وأطال العقيلي في تضعيف الحسن بن عمارة ، وأخرجه الدارقطني أيضا ، عن حفص بن أبي داود ، عن ابن أبي ليلى ، عن الحكم ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن علي بنحوه ، قال : وحفص هذا ضعيف ، وابن أبي ليلى رديء الحفظ كثير الوهم . وأخرجه أيضا عن عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن جده ، عن علي : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا ، فطاف طوافين ، وسعى سعيين . انتهى . قال : وعيسى بن عبد الله ، يقال له : مبارك ، وهو متروك الحديث . انتهى من نصب الراية لأحاديث الهداية للزيلعي رحمه الله .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن أدلتهم على ذلك : ما أخرجه الدارقطني ، عن أبي بردة عمرو بن يزيد ، عن حماد ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله قال : طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرته . وحجه طوافين وسعى سعيين ، وأبو بكر ، وعمر ، وعلي ، وابن مسعود . قال الدارقطني : وأبو بردة متروك ، ومن دونه في الإسناد ضعفاء .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن أدلتهم أيضا : ما أخرجه الدارقطني أيضا ، عن محمد بن يحيى الأزدي ، ثنا عبد الله بن داود ، عن شعبة ، عن حميد بن هلال ، عن مطرف ، عن عمران بن الحصين : أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف طوافين وسعى سعيين . انتهى . قال الدارقطني : يقال إن محمد بن يحيى الأزدي حدث بهذا من حفظه ، فوهم في متنه ، والصواب بهذا الإسناد : أن النبي صلى الله عليه وسلم قرن الحج ، والعمرة ، وليس فيه ذكر الطواف ولا السعي ، ويقال : إنه رجع عن ذكر الطواف والسعي ، وحدث به على الصواب . كما حدثنا به محمد بن إبراهيم بن نيروز ، ثنا محمد بن يحيى الأزدي به : أن النبي صلى الله عليه وسلم قرن . انتهى قال : وقد خالفه غيره فلم يذكر فيه الطواف ، ولا السعي ، كما حدثنا به أحمد بن عبد الله بن محمد بن الوكيل ، ومحمد بن مخلد قالا : ثنا القاسم بن محمد بن عباد المهلبي ، ثنا عبد الله بن داود ، عن شعبة بهذا الإسناد : أن النبي صلى الله عليه وسلم قرن ا هـ . انتهى كله من نصب الراية .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد علمت منه أن جميع هذه الأحاديث الدالة على طوافين وسعيين للقارن ، ليس فيها حديث قائم كما رأيت .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن حجر في فتح الباري واحتج الحنفية بما روي عن علي : أنه جمع بين الحج والعمرة ، فطاف لهما طوافين ، وسعى لهما سعيين ، ثم قال : هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ، وطرقه عن علي عند عبد الرزاق ، والدارقطني ، وغيرهما ضعيفة ، [ ص: 387 ] وكذا أخرج من حديث ابن مسعود بإسناد ضعيف نحوه ، وأخرج من حديث ابن عمر نحو ذلك ، وفيه الحسن بن عمارة ، وهو متروك ، والمخرج في الصحيحين ، وفي السنن عنه من طرق كثيرة الاكتفاء بطواف واحد . وقال البيهقي : إن ثبتت الرواية أنه طاف طوافين ، فيحمل على طواف القدوم ، وطواف الإفاضة . وأما السعي مرتين فلم يثبت ، وقال ابن حزم : لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا عن أحد من أصحابه شيء في ذلك أصلا . انتهى محل الغرض منه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد : وأما من قال : إنه حج قارنا قرانا طاف له طوافين وسعى سعيين ، كما قاله كثير من فقهاء الكوفة ، فعذره ما رواه الدارقطني من حديث مجاهد ، عن ابن عمر : أنه جمع بين حج ، وعمرة معا ، وقال : سبيلهما واحد . قال : وطاف لهما طوافين ، وسعى لهما سعيين ، وقال : هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع ، كما صنعت . وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : أنه جمع بينهما ، وطاف لهما طوافين ، وسعى لهما سعيين ، وقال : هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع كما صنعت . وعن علي رضي الله عنه أيضا : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا ، فطاف طوافين ، وسعى سعيين ، وعن علقمة ، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم لحجته وعمرته طوافين ، وسعى سعيين ، وأبو بكر ، وعمر ، وعلي ، وابن مسعود . وعن عمران بن حصين رضي الله عنهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف طوافين ، وسعى سعيين ، وما أحسن هذا العذر لو كانت هذه الأحاديث صحيحة ، بل لا يصح منها حرف واحد . أما حديث ابن عمر ففيه الحسن بن عمارة ، وقال الدارقطني : لم يروه عن الحكم غير الحسن بن عمارة ، وهو متروك الحديث . وأما حديث علي الأول ففيه حفص بن أبي داود ، وقال أحمد ، ومسلم : حفص متروك الحديث . وقال ابن خراش : هو كذاب يضع الحديث ، وفيه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ضعيف . وأما حديثه الثاني : فيرويه عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن جده قال الدارقطني : عيسى بن عبد الله يقال له مبارك ، وهو متروك الحديث . وأما حديث علقمة ، عن عبد الله فيرويه أبو بردة عمرو بن يزيد ، عن حماد ، عن إبراهيم ، عن علقمة . قال الدارقطني : وأبو بردة ضعيف ، ومن دونه في الإسناد ضعفاء . انتهى . وفيه عبد العزيز بن أبان . قال يحيى : هو كذاب خبيث ، وقال الرازي ، والنسائي : متروك الحديث . وأما حديث عمران بن حصين : فهو مما غلط فيه محمد بن يحيى الأزدي وحدث به من حفظه فوهم فيه ، وقد حدث به على الصواب مرارا ، ويقال : إنه رجع عن ذكر [ ص: 388 ] الطواف والسعي . انتهى محل الغرض من كلام ابن القيم .

                                                                                                                                                                                                                                      فإذا عرفت أن أحاديث السعيين ، والطوافين ليس فيها شيء قائم كما رأيت ، فاعلم أن الذين قالوا : بأن القارن يطوف طوافا ، ويسعى سعيا كفعل المفرد ، أجابوا عن الأحاديث المذكورة من وجهين .

                                                                                                                                                                                                                                      الأول : هو ما بيناه الآن بواسطة نقل الزيلعي ، وابن حجر ، وابن القيم ، عن الدارقطني ، وغيره من أوجه ضعفها .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : أنا لو سلمنا تسليما جدليا أن بعضها يصلح للاحتجاج وضعافها يقوي بعضها بعضا ، فلا يقل مجموع طرقها عن درجة القبول فهي معارضة بما هو أقوى منها ، وأصح ، وأرجح ، وأولى بالقبول من الأحاديث الثابتة في الصحيح ، الدالة على أن النبي لم يفعل في قرانه . إلا كما يفعل المفرد كحديث عائشة المتفق عليه ، وحديث ابن عباس عند البخاري ، وكالحديث المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة : " يكفيك طوافك بالبيت ، وبالصفا ، والمروة لحجك وعمرتك " كما قدمناه واضحا ، وقد اتضح من جميع ما كتبناه في هذه المسألة : أن التحقيق فيها أن القارن يفعل كفعل المفرد لاندراج أعمال العمرة في أعمال الحج ، وأن المتمتع يطوف ، ويسعى لعمرته ، ثم يطوف ويسعى لحجته ، ومما يوضح من جهة المعنى : أنه يطوف ويسعى لحجه بعد رجوعه من منى أنه يهل بالحج بالإجماع .

                                                                                                                                                                                                                                      والحج يدخل في معناه دخولا مجزوما به الطواف والسعي ، فلو كان يكفيه طواف العمرة التي حل منها وسعيها ، لكان إهلاله بالحج إهلالا بحج ، لا طواف فيه ولا سعي ، وهذا ليس بحج في العرف ولا في الشرع ، والعلم عند الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية