الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          القول بأن كل موجود حي :

                          ( قال ) : وأغرب الغريب عند أهل الظاهر أن الصوفية - قدس الله تعالى أسرارهم - جعلوا كل شيء في الوجود حيا دراكا يفهم الخطاب ، ويتألم كما يتألم الحيوان ، وما يزيد الحيوان على الجماد إلا بالشهوة ، ويستندون في ذلك إلى الشهود ، وربما يستدلون بقوله سبحانه [ ص: 335 ] وتعالى : ( وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ) ( 17 : 44 ) وبنحو ذلك من الآيات والأخبار .

                          والذي ذهب إليه الأكثرون من العلماء أن التسبيح حالي لا قالي ونظير ذلك :

                          "

                          شكا إلي جملي طول السرى

                          " و "

                          امتلأ الحوض وقال قطني

                          " وما يصدر عن بعض الجمادات من تسبيح قولي كتسبيح الحصى في كفه الشريف - صلى الله عليه وسلم - مثلا إنما هو عن خلق إدراك إذ ذاك ، وما يشاهد من الصنائع العجيبة لبعض الحيوانات ليس كما قال الشيخ الرئيس مما يصدر عن استنباط وقياس ، بل عن إلهام وتسخير ; ولذلك لا تختلف ولا تتنوع ، والنقض بالحركة الفلكية لا يرد بناء على قواعدنا ، وعدم افتراس الأسد المعلم مثلا صاحبه ليس عن اعتقاد ، بل هناك هشة أخرى نفسانية ، وهي أن كل حيوان يحب بالطبع ما يلذه ، والشخص الذي يطعمه محبوب عنده فيصير ذلك مانعا عن افتراسه ، وربما يقع هذا العارض عن إلهام إلهي مثل حب كل حيوان ولده . وعلى هذا الطراز يخرج الخوف مثلا الذي يعتري بعض الحيوانات .

                          ( قال ) : وقد أطالوا الكلام في هذا المقام ، وأنا لا أرى مانعا من القول بأن للحيوانات نفوسا ناطقة ، وهي متفاوتة الإدراك حسب تفاوتها في أفراد الإنسان ، وهي مع ذلك كيفما كانت لا تصل في إدراكها وتصرفها إلى غاية يصلها الإنسان والشواهد على هذا كثيرة ، وليس في مقابلتها قطعي يجب تأويلها لأجله ، وقد صرح غير واحد أنها عارفة بربها جل شأنه .

                          ( قال ) : وأما أن لها رسلا من جنسها فلا أقول به ولا أفتي بكفر من قال به . وأما أن الجمادات حية مدركة فأمر وراء طور عقلي ، والله تعالى على كل شيء قدير ، وهو العليم الخبير . اهـ .

                          نقول : أما مذهب التناسخ ، فهو من الأساطير الخرافية ، التي ولدتها الخيالات الشعرية ، فلا نضيع الوقت بالخوض في بيان بطلانها .

                          وأما قول من قال : إن للحيوانات أنفسا ناطقة ، فإن أريد به أنها كنفس الإنسان فتحقيقه يتوقف على معرفة كنه هذه النفس . وأين من يدعي هذا ويثبت دعواه ؟ ولا ينكر من له أدنى إلمام بعلم الحيوان ما أوتيه بعض أنواعه من أنواع الإدراك الذي يفوق ببعضه إدراكات الناس ، ولكنها تنحصر في مناطق ضيقة جدا ؛ لأنها متعلقة بحفظ حياته الفردية والنوعية ، وهي محدودة ضيقة . ولعلنا نفصل القول فيها في تفسير آية أخرى . وإدراك البشر لا تنحصر أنواعه ولا أفراده ، وإنما كان استعداده العلمي غير محدود بحد ؛ لأنه خلق لحياة غير محدودة بحد ، وهي حياة الآخرة ، ودعوى تكليف الحيوان الأعجم وبعثة رسل منه في كل أمة من أممه [ ص: 336 ] لا يدل عليها عقل ولا نقل ، وقوله تعالى : ( وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ) ( 35 : 24 ) نزل في سياق الكلام عن البشر .

                          وأما القول بحياة الجماد فهو منقول عن بعض الفلاسفة المتقدمين والمتأخرين ، وعن بعض الطبيعيين والكيماويين ، ولهم عليه دلائل علمية ونظرية ، ويتوقف بيان ذلك على تعريف الحياة ومظاهرها وخواصها كالتغذي والنمو والتولد والموت ، وفي تلك الجمادات ولا سيما الأجسام المتبلورة شيء من ذلك . وكان شيخنا الأستاذ الإمام يعتقد أن الحياة منبثة في العالم كله ، ولعلنا نعود إلى هذا البحث بعد .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية