الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( حكمة النصوص في كفر بعض أرحام الرسل الأقربين ) .

                          إن الذين اتخذوا استنباطهم البعيد من الروايات الضعيفة والمنكرة أصلا في إثبات إيمان آباء الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويؤولون لأجله الآيات الكثيرة والأحاديث الصحيحة الصريحة - قد غفلوا عن أمر عظيم ، وهو الحكمة والفائدة في الإكثار من التصريح بكفر والد إبراهيم في القرآن ، وما في معناه كقصة ابن نوح الذي أصر على كفره ، ولم يرض أن يركب السفينة مع والده وأهله ، وفي تصريح الرسول - صلى الله عليه وسلم - بما يكون من أمر إبراهيم الخليل مع والده يوم القيامة ، وتصريحه أيضا بأن أباه في النار ، وبعدم إذن الله تعالى له في الاستغفار لأمه ولا لعمه الذي رباه وله عليه أعظم الحقوق . ومثل ذلك - فيما يظهر - إنزال سورة في سوء حال أبي لهب ومصيره إلى النار وهو عم الرسول - صلى الله عليه وسلم .

                          إن الحكمة البالغة والفائدة الظاهرة من هذه النصوص هي تقرير أصل التوحيد الهادم لقاعدة الوثنية بالفصل بين ما هو لله وما هو لرسله ، وهو أن الرسل - عليهم الصلاة والسلام - لم يرسلوا إلا مبشرين ومنذرين ، ما عليهم إلا تبليغ دين الله وإقامته ، وليس لهم من الأمر شيء ، ولا يملكون لأحد ضرا ولا نفعا ، وليس عليهم هدى أحد ولا رشده بالفعل ، وإنما عليهم هداية التعليم والحجة ، فلا يهدون من أحبوا ، ولا يغنون عنه من الله شيئا وإن كان أقرب الناس وأحبه إليهم في النسب والمعاملة الدنيوية . وأما قاعدة وثنية العرب وغيرهم فهي اتخاذ [ ص: 455 ] أولياء من العباد يزعمون أنهم وسطاء بين الله وبين عباده في شئون الخلق والإيجاد ، والإشقاء والإسعاد ، والسلب والإمداد ، لا في مجرد التبليغ والإرشاد قياسا على ما يعهدون من الأقربين والمقربين عند الملوك المستبدين ، فهم لذلك يدعونهم مع الله أو من دون الله ( ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ) ( 10 : 18 ) وكانوا يعبرون عنهم بالأولياء والشركاء كما قال تعالى : ( والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ) ( 39 : 3 ) الآية . وكانوا يقولون في طوافهم : لبيك لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك .

                          وأصل عبادة أصنامهم وأوثانهم الغلو في تعظيم الصالحين ، فهي مأخوذة عن قوم نوح ؛ كان فيهم رجال صالحون هلكوا ، فأوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم أنصابا ، وسموها بأسمائهم ، ففعلوا فلم تعبد ، حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت ( راجع سورة نوح من كتاب التفسير في " صحيح البخاري " وقد هدم القرآن جميع قواعد شرك العرب وغيرهم من الوثنيين وأهل الكتاب الذين جعلوا مدار السعادة والنجاة على شفاعة أنبيائهم وأوليائهم ، لا على اتباعهم في الإيمان والعمل وفضل الله تعالى ، ولما كان إبراهيم أعلى البشر مقاما في أنفس العرب - ومقامه الأعلى في الرسل عند أهل الكتاب مقامه - كرر الله تعالى في كتابه ذكر كفر والده واجتهاده هو في هدايته وعنايته بالاستغفار له ، وأن ذلك كله لم يفده شيئا ، وزاد الرسول الأعظم - صلى الله عليه وسلم - فبين لنا ما أطلعه الله عليه من عاقبته السوأى في الآخرة . وذكر أيضا عن أبويه ما علمت من روايات الصحيحين وغيرهما ليعلم الناس أن مدار النجاة في الآخرة على الإيمان الصحيح الإذعاني المستلزم للعمل بما جاء به الرسل عليهم السلام ، لا بأشخاص الرسل وتأثيرهم الشخصي عند الله ، كتأثير الأقربين والمقربين عند الملوك المستبدين ، إذ يحملونهم بالشفاعة أو الإقناع على عفو عن مذنب أو إحسان إلى غير مستحق ، وهذه هي نظرية الوثنيين في الشفاعة التي نفاها القرآن المجيد ، وأثبت أن الشفاعة لله جميعا ، لا يشفع عنده أحد إلا من بعد إذنه للشافع ورضاه عن المشفوع له . وقد تقدم تفصيل ذلك في تفسير هذه السورة من هذا الجزء وفي غيرها .

                          ولا يرد على حصر وظيفة الرسل في التبليغ بالقول والفعل ما يؤيدهم الله تعالى به من الآيات ، فإنها وإن كان بعضها يحصل بقول أو فعل منهم لا يصح أن تعد من جملة كسبهم وتصرفهم ، ولا أن يترتب على ذلك أن يدعوا أحياء وأمواتا لفعلها ، كإبراء الأكمه ، وإحياء الميت ، بل هي من تصرف الله تعالى وحده ، سواء منها ما لا دخل لهم فيه بقول ولا فعل كإعجاز القرآن ، وما يجري عقب قول كقول الرسول للميت : " قم بإذن الله " ، أو فعل كإلقاء موسى لعصاه أو ضربه البحر بها ، [ ص: 456 ] قال تعالى : ( وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين ) ( 29 : 50 ) وهذه الآية نص في الموضوع ، وفي معناها آيات تقدم بعضها فيما فسرتا من هذه السورة ( الأنعام ) وسيأتي في آخر هذا الجزء منها ( قل إنما الآيات عند الله ) ( 109 ) ومما هو بمعناها قوله تعالى بعد حكاية ما اقترحه كفار مكة على الرسول في سورة الإسراء ( قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا ) ( 17 : 93 ) أي فأنا لا أقدر على ذلك بصفتي البشرية ; لأنني مثلكم فيها ، وليس من شأن الرسول ذلك من حيث هو رسول مبلغ عن الله تعالى .

                          لولا تقرير هذه القاعدة لما ظهرت حكمة تلك العناية بتكرار ذكر كفر أبي إبراهيم في القرآن الحكيم ، كالآيات التي في سورة مريم ( 19 : 41 - 48 ) وكذكر أبيه قبل قومه في خبر بعثته في هذه السورة ( الأنعام ) وفي سورة الأنبياء ( 21 : 52 ) إلخ . وسورة الشعراء ( 26 : 70 ) إلخ . وسورة الصافات ( 37 : 85 . إلخ . وسورة الزخرف ( 43 : 26 ) فمن تأمل في هذه الآيات وما في معناها كآية الاستغفار له في سورة براءة ( 9 : 114 ) - وتقدمت آنفا - وقوله تعالى في سورة الممتحنة : ( لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم والله بما تعملون بصير قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء ) ( 60 : 3 ، 4 ) من تأمل ذلك كله جزم بما قلناه . وأجدر بنا - وقد وفقنا الله تعالى إلى إظهار الحق بهذه الشواهد والبينات - أن ندعو الله تعالى بالدعاء المتمم لهذه الآيات ، فنقول : ( ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم ) ( 60 : 4 ، 5 ) .

                          هذا وإن كلام بعض الذين حاولوا إثبات إيمان جميع آباء الخليلين ، أو جميع الأنبياء وإيمان أبي طالب يدور على ما يقابل هذا الأصل ، وهو الغلو فيهم بدعوى أن كرامتهم تنفع أولي القربى منهم ، فتكون سببا لهدايتهم إلى الإيمان ولا سيما من يسوءهم ويؤذيهم بقاؤه على الكفر ، ومن يدعوهم أو يدعو بعض الصالحين من أتباعهم لجلب النفع أو لكشف الضر ، يظنون أنهم ينالون سعادة الدنيا والآخرة بالتوسل بذواتهم ، لا بما أمر الله من اتباعهم ، ومنهم من يعتقد أنهم يخرجون من قبورهم ، ويقضون الحوائج التي تطلب منهم بأشخاصهم ، وذلك مصادم لتلك النصوص كلها ولما في معناها من قواعد التوحيد ، وكون الدعاء عبادة لا يكون إلا لله تعالى : ( قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا ) ( 17 : 56 ، 57 ) .

                          [ ص: 457 ] وإذا كانت هذه الأمة لم تسلم من وجود أناس قد اتبعوا سنن من قبلهم في الغلو في الأنبياء والصالحين مع هذه النصوص الكثيرة الصريحة في الكتاب والسنة ، ومع تحذير النبي للأمة من اتباع سننهم ، فكيف لو لم توجد هذه النصوص بهذه الصراحة وهذا التحذير ؟ .

                          نعم إن من الناس الراسخين في التوحيد من يحمله حب الرسول - عليه صلوات الله وسلامه - على تقوية كل قول يمكن أن يستنبط منه نجاة أبويه الطاهرين أو جميع أصوله ، وإنما يحسن هذا بشرط ألا يكون في ذلك تحريف لكلامه أو كلام الله تبارك وتعالى ، ولا إخلال بمقاصد الرسالة وأصول الدين ، فإن الحب الصحيح لله ولرسوله الذي هو آية الإيمان إنما يثبت ويتحقق بالاتباع وإقامة الدين ، ومن يرجح قرابة الرسول على رسالته فإنما حبه له ولهم حب هوى للعصبية والنسب ، لا حب هدى باتباع ما أوجب الله على لسانه أو استحب ، وقد كان أبو طالب أشد الناس حبا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - عصبية لقرابته ، لا اتباعا لرسالته ، وكل مؤمن يتمنى لو كان آمن به ، كما روي عن الصديق من تفضيل إيمانه على إيمان والده ، ولكن ثبت في صحيح البخاري أنه بعد أن كان أعظم وأقوى ظهير ومانع للرسول - صلى الله عليه وسلم - من أعدائه لقرابته ، قد أبى أن يقر عينه عند الوفاة بالنطق بكلمة " لا إله إلا الله " .

                          ولم يمنع ذلك بعض الغلاة من القول بإسلامه ، ولا ما رواه البخاري ومسلم في الصحيحين أيضا من حديث أخيه العباس بن عبد المطلب قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : " ما أغنيت عن عمك فوالله كان يحوطك ويغضب لك ؟ قال : هو في ضحضاح من نار ، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار " . ورويا من حديث أبي سعيد الخدري أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكر عنده عمه ، فقال : " لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه ، يغلي منه دماغه " فهذا رجاء والذي قبله خبر ، وفي هذا الحديث من الإشكال أنه معارض بقوله تعالى : ( فما تنفعهم شفاعة الشافعين ) ( 74 : 48 ) وما في معناها من الآيات كقوله تعالى في الملائكة والمسيح : ( ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ) ( 21 : 28 ) أي لأهل التوحيد كما روي عن مفسري السلف ، وبحديث عدم نفع شفاعة إبراهيم لأبيه - إن صح أن يسمى ذلك شفاعة - وأحاديث أخرى . وقد يجاب عن حديث أبي سعيد على طريقة العلماء في مثله بأن هذا الرجاء ليس اعتقادا جازما ولا خبرا عن الله تعالى ، فيحتمل أن يكون وقع منه - صلى الله عليه وسلم - قبل إعلام الله تعالى إياه بما ذكر في الآيات ، وليس في حديث العباس ذكر الشفاعة ، ولكنه بمعناها . ويشير كلام الحافظ بن حجر في شرح الحديث في باب قصة أبي طالب من الفتح إلى أن ذلك خصوصية له - صلى الله عليه وسلم - ولم يصرح بالإشكال . ويمكن أن يجاب بأن الشفاعة المنفية هي ما كان يعتقد المشركون من تأثير الشفعاء في إرادة الباري سبحانه وتعالى كتأثير الشفعاء عند الملوك وعظماء الدنيا ، وبأن الشفاعة لا تنفع الكافر بإنقاذه [ ص: 458 ] من النار وجعله من أهل الجنة ، كما أن أعماله الصالحة في الدنيا لا تنفعه هذا النوع من النفع ; لأن تأثير الكفر يغلب تأثيرها ، ولكنها قد تنفع بجعل عذاب المشفوع له بفضيلة فيه وعمل صالح له أخف من عذاب الكافر الذي ليس له فضائل ولا أعمال صالحة مثلها ، كما يدل عليه ما ورد في تفاوت عذاب أهل النار . وما أجدر أبا طالب بأن يكون أخف الكفار عذابا بأعماله الصالحة التي أجلها كفالة الرسول وحفظه وحياطته ، بل روي عنه أنه كان مصدقا له ولكنه أصر على الشرك استكبارا وحمية لما كان عليه أبوه وقومه ، وقد أثار هذه الحمية فيه أبو جهل - لعنه الله - وكذا عبد الله بن أبي أمية - رضي الله عنه ؛ فقد آمن بعد ذلك - إذ كانا لديه في وقت تلك الدعوة كما تقدم . وروى أحمد من حديث أبي هريرة أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : لولا أن تعيرني قريش يقولون ما حمله على ذلك إلا جزع الموت لأقررت بها عينك . فكان جل كفره غلبة الحمية الجاهلية ، وتعظيم الآباء بتقليدهم وإيثار ذلك على الشهادة بالحق ، فأين هو من كفر المعاندين الذين آذوا الرسول والمؤمنين بكل ما استطاعوا من أنواع الأذى ، وأخرجوهم من ديارهم وأموالهم ، وما زالوا يحاربونهم ويحرضون الناس عليهم إلى أن خذلهم الله تعالى ، ونصر رسوله والمؤمنين عليهم ؟ ولكن يرد على ذلك أن من كان مستحقا لأخف العذاب وجوزي به لا يكون منتفعا بالشفاعة ، والتخفيف بسببها بعد الاستحقاق معارض بقوله تعالى : ( ولا يخفف عنهم من عذابها ) ( 35 : 36 ) وبنصوص أخرى ، فلا يظهر معنى للشفاعة إلا على قول من يقول : إن كل الشفاعات تكريم صوري للشفعاء بما يجزيه الله تعالى عقب شفاعتهم لا بها ، كما يقول الأشعرية في جميع الأسباب .

                          بعد كتابة ما تقدم وجمعه للطبع راجعت شرح الحافظ للحديث في كتاب الرقاق من البخاري ، فإذا هو قد ذكر الإشكال وأجوبة عنه بمعنى ما تقدم من الخصوصية وتخصيص العموم ، وكون التخفيف من عذاب المعاصي دون الكفر ، والتجوز في لفظ الشفاعة . فنقل عن ( المفهم شرح صحيح مسلم ) للقرطبي أن أبا طالب لما بالغ في إكرام النبي - صلى الله عليه وسلم - والذب عنه جوزي على ذلك بالتخفيف ، فأطلق على ذلك شفاعة لكونها بسببه . اهـ .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية