الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 476 ] ( المسألة الرابعة : إشارات الصوفية في الآيات ) .

                          أورد نظام الدين الحسن بن محمد النيسابوري في تأويلات تفسيره عبارتين في الآيات ، قال في الأولى : إن إبراهيم رأى نور الرشد في صورة الكوكب ، ونور الربوبية في صورة القمر ، ونور الهداية في صورة الشمس ، وسبك ذلك بعبارة شعرية متكلفة . وأما العبارة الثانية فزعم أنها دارت في خلده ، وما هي إلا ما نقله الرازي ( الذي لخص هو تفسيره وزاد عليه هذه التأويلات ) عن الغزالي - وذكرناه آنفا - إلا أنه تصرف فيه فجعله أقرب إلى التصوف . وقد نقل الألوسي هذه العبارة الأخيرة عن النيسابوري في إشاراته ، وذكر قبلها إشارة جعل فيها الكواكب إشارة إلى النفس التي هي الروح الحيوانية ، والقمر إشارة إلى القلب ، والشمس إشارة إلى الروح ، وأنها أفلت بعد تجليها بتجلي أنوار الحق ، وهو أقل تكلفا مما قبله ، وإن كان باطلا مثله .

                          وأمثل ما قيل في باب الإشارة ما شرحه الغزالي في بحث فرق المغرورين من الصوفية في كتاب الغرور من الإحياء ، فإنه بعد أن ذكر الذين اغتروا بأول ما انفتح لهم من أبواب المعرفة وما شموا من رائحتها فوقفوا عنده ، قال :

                          ( وفرقة أخرى ) جاوزوا هؤلاء ، ولم يلتفتوا إلى ما يفيض عليهم من الأنوار في الطريق ، ولا إلى ما تيسر لهم من العطايا الجزيلة ، ولم يعرجوا على الفرح بها والالتفات إليها ، جادين في السير حتى قاربوا فوصلوا إلى حد القربة إلى الله تعالى ، فظنوا أنهم قد وصلوا إلى الله فوقفوا وغلطوا ; فإن لله تعالى سبعين حجابا من نور ، لا يصل السالك إلى حجاب من تلك الحجب في الطريق إلا يظن أنه قد وصل . وإليه الإشارة بقول إبراهيم عليه السلام ، إذ قال تعالى إخبارا عنه : ( فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي ) ( 6 : 76 ) وليس المعني به هذه الأجسام المضيئة ; فإنه كان يراها في الصغر ويعلم أنها ليست آلهة ، وهي كثيرة وليست واحدا ، والجهال يعلمون أن الكوكب ليس بإله ، فمثل إبراهيم - عليه السلام - لا يغره الكوكب الذي لا يغر السوادية ، ولكن المراد به أنه نور من الأنوار التي هي من حجب الله عز وجل ، وهي على طريق السالكين ، ولا يتصور الوصول إلى الله تعالى إلا بالوصول إلى هذه الحجب ، وهي حجب من نور بعضها أكبر من بعض ، وأصغر النيرات الكوكب ، فاستعير له لفظه ، وأعظمها الشمس ، وبينهما رتبة القمر ، فلم يزل إبراهيم - عليه السلام - لما رأى ملكوت السماوات حيث قال الله تعالى : [ ص: 477 ] ( وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض ) يصل إلى نور بعد نور ، ويتخيل إليه في أول ما كان يلقاه أنه قد وصل ، ثم كان يكشف له أن وراءه أمرا فيترقى إليه ويقول قد وصلت ، فيكشف له ما وراءه حتى وصل إلى الحجاب الأقرب الذي لا وصول إلا بعده ، فقال : ( هذا أكبر ) فلما ظهر له أنه مع عظمه غير خال عن الهوى في حضيض النقص والانحطاط عن ذروة الكمال ( قال لا أحب الآفلين . . . . إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات ) . وسالك هذه الطريق قد يغتر في الوقوف على بعض هذه الحجب ، وقد يغتر بالحجاب الأول ، وأول الحجب بين الله وبين العبد هو نفسه ، فإنه أيضا أمر رباني ، وهو نور من أنوار الله تعالى ، أعني سر القلب الذي تتجلى فيه حقيقة الحق كله حتى إنه ليتسع لجملة العالم ويحيط به ، وتتجلى فيه صورة الكل ، وعند ذلك يشرق نوره إشراقا عظيما ، إذ يظهر فيه الوجود كله على ما هو عليه ، وهو في أول الأمر محجوب بمشكاة هي كالساتر له ، فإذا تجلى نوره وانكشف جمال القلب بعد إشراق نور الله ربما التفت صاحب القلب إلى القلب فيرى من جماله الفائق ما يدهشه ، وربما يسبق لسانه في هذه الدهشة فيقول : أنا الحق ، فإن لم يتضح له ما وراء ذلك اغتر به ، ووقف عليه وهلك ، وكان قد اغتر بكوكب صغير من أنوار الحضرة الإلهية ، ولم يصل بعد إلى القمر فضلا عن الشمس فهو مغرور . وهذا محل الالتباس ، إذ المتجلي يلتبس بالمتجلى فيه كما يلتبس لون ما يتراءى في المرآة بالمرآة ، فيظن أنه لون المرآة ، وكما يلتبس ما في الزجاج بالزجاج كما قيل :


                          رق الزجاج وراقت الخمر فتشابها فتشاكل الأمر     فكأنما خمر ولا قدح
                          وكأنما قدح ولا خمر

                          .

                          وبهذه العين نظر النصارى إلى المسيح ، فرأوا إشراق نور الله قد تلألأ فيه فغلطوا فيه ، كمن رأى كوكبا في مرآة أو في ماء فيظن أن الكوكب في المرآة أو في الماء ، فيمد يده إليه ليأخذه وهو مغرور " . اهـ .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية