الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون ) .

                          هاتان الآيتان في بيان شأن من شئون البشر وغرائزهم فيما يعرض لهم في حياتهم الدنيا [ ص: 255 ] من خير وشر ، ونفع وضر ، وشعورهم فيه بالحاجة إلى الله تعالى واللجوء إلى دعائه لأنفسهم وعليها ، واستعجالهم الأمور قبل أوانها ، وهو تعريض بالمشركين وحجة على ما يأتون من شرك ، وما ينكرون من أمر البعث ، متمم لما قبله ولذلك عطفه عليه .

                          تعجيل الشيء تقديمه على أوانه المضروب أو المقدر له أو الموعود به ، والاستعجال به طلب التعجيل ، والعجل من غرائز الإنسان القابلة للتأديب والتثقيف ، كي لا تطغى به فتورده الموارد . قال تعالى : ( ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا ) ( 17 : 11 ) وقال تعالى : ( خلق الإنسان من عجل سأريكم آياتي فلا تستعجلون ) ( 21 : 37 ) فأما استعجاله بالخير والحسنة فلشدة حرصه على منافعه وقلة صبره عنها ، وأما استعجاله بالضر والسيئة فلا يكون لذاته ، بل لسبب عارض كالغضب والجهل والعناد والاستهزاء والتعجيز ، وقلما يكون مقصودا بنفسه إلا للنجاة مما هو شر منه ، كما يفعل اليائسون من الحياة ، أو النجاة من ذل وخزي أو ألم لا يطاق ، إذ يتقحمون المهالك أو يبخعون أنفسهم انتحارا .

                          قال تعالى : ولو يعجل الله للناس الشر الذي يستعجلونه به ، كاستعجال مشركي مكة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعذاب الذي أنذرهم نزوله بهم إجمالا ، بما قصه عليهم في هذه السورة وغيرها من سنة الله تعالى في أقوام الرسل المعاندين وهو عذاب الاستئصال وفيما دونه من عذاب الدنيا كخزيهم والتنكيل بهم ونصره عليهم ، أو قيام الساعة ، وعذاب الآخرة . وقد حكى الله تعالى كل ذلك عنهم كقوله : ( ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات ) ( 13 : 6 ) الآية ( ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة ) ( 29 : 53 ) وتقدم قوله : ( وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ) ( 8 : 32 ) وقال في الساعة : ( يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق ) ( 42 : 18 ) وفي العذاب : ( يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين ) ( 29 : 54 ) وكل هذه الضروب من الاستعجال كانوا يقصدون بها تعجيز الرسول - صلى الله عليه وسلم - مبالغة في التكذيب ، واستهزاء بالوعيد ، وقوله : ( استعجالهم بالخير ) معناه كاستعجالهم بالخير الذي يطلبونه لذاته بدعاء الله تعالى أو بمحاولة الأسباب التي يظنون أنها قد تأتي به قبل أوانه لقضي إليهم أجلهم ، قرأ ابن عامر ويعقوب الجملة بالبناء للفاعل أي لقضى الله إليهم أجلهم ، وقرأها الجمهور بالبناء للمفعول للعلم بالفاعل وقضاء الأجل إليهم انتهاؤه إليهم بإهلاكهم قبل وقته الطبيعي كما هلك الذين كذبوا الرسل واستعجلوهم بالعذاب من قبلهم . ولكن الله تعالى [ ص: 256 ] أرحم بهم من أنفسهم ، وقد بعث رسوله محمدا خاتم النبيين رحمة للعالمين ، بالهداية الدائمة إلى يوم الدين ، وقضى بأن يؤمن به قومه من العرب ، ويحملوا دينه إلى جميع أمم العجم وأن يعاقب المعاندين من قومه في الدنيا بما يكون تأديبا لسائرهم ، بما بينه بقوله : ( قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ) ( 9 : 14 ) الآية ، ويؤخر سائر الكافرين منهم ومن غيرهم إلى يوم القيامة ، فهو لا يقضي إليهم أجلهم بإهلاكهم واستئصالهم ؛ لأن هذا العذاب إذا نزل يكون عاما ، بل يذرهم وما هم فيه إلى نهاية آجالهم وذلك قوله : ( فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون ) الطغيان : مجاوزة الحد في الشر من كفر وظلم وعدوان ، هذا هو الأصل ، وطغيان السيل والبحر والدم مستعار منه ، والعمه ( كالتعب ) : التردد والتحير في الأمر أو في الشر ، والمعنى : فنترك الذين لا يرجون لقاءنا ممن تقدم ذكرهم فيما هم فيه من طغيان في الكفر والتكذيب ، يترددون فيه متحيرين لا يهتدون سبيلا للخروج منه ، لا نعجل لهم العذاب في الدنيا باستئصالهم ، حتى يأتي أمر الله تعالى في جماعتهم بنصر رسوله عليهم ، وفي أفرادهم بقتل بعضهم وموت بعض ، ومأواهم النار وبئس المصير ، إلا من تاب وآمن منهم ، أي هذه سنتنا فيهم لا نعجل شيئا قبل أوانه المقدر له بمقتضى علمنا وحكمتنا .

                          وفي الآية وجه عام غير خاص بالكافرين تقديره : ولو يعجل الله للناس الشر الذي يستعجلونه بذنوبهم المقتضية له من ظلم وفساد في الأرض وفسوق لأهلكهم ، كما قال في آية أخرى : ( ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى ) ( 35 : 45 ) الآية . ويدخل في المعنى هنا دعاؤهم على أنفسهم عند اليأس ودعاء بعضهم على بعض عند الغضب ، لو يعجله الله لهم لأهلكهم أيضا ( وما دعاء الكافرين ) ( 13 : 14 ) بربهم أو بنعمه عليهم فيما يخالف شرعه وسننه في خلقه إلا في ضلال ( 13 : 14 ) أي ضياع لا يستجيبه الله لهم ، لحلمه ورحمته بهم .

                          وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما ، هذا بيان لغريزة الإنسان العامة وشأنه فيما يمسه من الضر ، يعلم منه أن استعجال أولئك الناس بالشر ، تعجيزا لنبيهم ومبالغة في تكذيبه ، إنما هو من طغيانهم الذي خرجوا فيه عن مقتضى طبيعتهم ، فهو يقول : إن الإنسان إذا أصابه من الضر ما يشعر بشدة ألمه أو خطره من إشراف على غرق وغيره من أنواع التهلكة ، أو شدة مسغبة ، أو إعضال داء دعانا ملحا في كشفه عنه في كل حال يكون عليه : دعانا مضطجعا لجنبه ، أو قاعدا في كسر بيته ، أو قائما على قدميه حائرا في أمره ، فهو لا ينسى حاجته إلى رحمة ربه ، ما دام يشعر بمس الضر ولذعه له ، يعلم من نفسه العجز عن النجاة منه ، قدم من هذه الحالات الثلاث ما يكون الإنسان فيها أشد عجزا وأقوى شعورا بالحاجة إلى ربه فالتي تليها فالتي تليها ، وثم حالة رابعة هي سعيه لدفع الضر من طريق الأسباب ، فلم تذكر [ ص: 257 ] لأن الإنسان غير المؤمن قلما يتذكر ما أودع في فطرته من الإيمان بربه ذي السلطان الغيبي الذي هو فوق جميع الأسباب ، ويشعر بحاجته إلى اللجوء إليه ، ودعائه والاستغاثة به ، إلا عند عجزه عن الأسباب المسخرة له والمشركون بالله تعالى أقل الناس تذكرا لذلك ؛ لأنهم عند عجزهم عن الأسباب العامة المعلومة يلجئون إلى مظنة الأسباب الموهومة ، وهي المخلوقات المعبودة التي يعتقدون أن لها سلطانا غيبيا فوق الأسباب ، من جنس سلطان الرب الخالق عز وجل إما لذاتها وإما بما لها من المكانة عند الله ، والمثل مضروب هنا لهؤلاء .

                          فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه ، كان الظاهر أن يقال : ( ( فإذا كشفنا عنه ضره ) ) ؛ إذ هو المناسب للشرط في أول الآية ، وهو في جنس الإنسان ومقتضى طبعه لا في فرد من أفراده ، ونكتة هذا التعبير أن يتصور القارئ والسامع للآية كشف الضر بعد الدعاء واقعا مشاهدا من شخص معين ، ويرى ما يفعل بعده لأنه أبلغ في العبرة . أي فلما كشفنا عنه ضره الذي دعانا له في حال شعوره بعجزه عن كشفه بنفسه وبغيره من الأسباب ، مر ومضى في شئونه على ما كان من طريقته في الغفلة عن ربه والكفر به ، كأن الحال لم تتغير عليه ، فلم يدعنا إلى ضر مسه ، ولم نكشف عنه ضره كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون أي كهذا النحو من معرفة الله والإخلاص في دعائه وحده في الشدة ، ونسيانه والكفر به بعد كشفها ، زين للمسرفين من طغاة مكة وغيرهم ما كانوا يعملون من أعمال الشرك ، حتى بلغ من عنادهم للرسول واستهزائهم بما أنذرهم من عذاب أن استعجلوه بالعذاب ؛ والإسراف رديف الطغيان وأخوه ، وسيأتي مثل هذه الآية بعد عشر آيات ببيان أبلغ .

                          وقد أسند التزيين هنا إلى المفعول لأنه المقصود بالعبرة دون فاعله ، وسبق مثله في آل عمران 3 : 14 والأنعام 6 : 43 والتوبة 9 : 37 وقد أسند إلى الشيطان في سورة الأنعام والأنفال ، وأسند إلى الله تعالى في الأنعام أيضا بقوله : ( زينا لكل أمة عملهم ) ( 108 ) وبينا في تفسير هذه نكتة اختلاف الإسناد في كل موضع راجع ص 557 وما بعدها ج 7 ط الهيئة .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية