الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( استطراد في المتكلمين وتفسير إمامهم الرازي )

                          اعلم أن الفخر الرازي كان إمام نظار المتكلمين والأصوليين في عصره ، وأن علماء النظر اعترفوا له بهذه الإمامة من بعده ، ولكنه كان من أقلهم حظا من علم السنة وآثار الصحابة والتابعين ، وأئمة السلف من المفسرين والمحدثين ، بل وصفه الحافظ الذهبي إمام علم الرجال في عصره بالجهل بالحديث ، فلم يجد التاج السبكي ما يدافع به عنه لأنه من أئمة الأشعرية الشافعية إلا الاعتراف بأنه لم يشتغل بهذا العلم وليس من أهله ، فلا معنى لطعن عليه بجهله ولا بذكره في رجاله المجروحين ولا العدول .

                          أما علمه بالكلام فقد قال بعض العارفين في وصف كتابه ( محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين من الفلاسفة والمتكلمين ) ما ينبئك بحقيقته عند المحققين وهو :

                          [ ص: 309 ]

                          محصل في أصول الدين حاصله من بعد تحصيله علم بلا دين




                          رأس الغواية في العقل السقيم     فما فيه فأكثره وحي الشياطين



                          ولشيخ الإسلام ابن تيمية مصنف مستقل في نقض كتابه ( أساس التقديس ) وفيه . ولولا أن تصدى لإحياء شبهاته في هذا العهد اثنان من مكثري النشر في الصحف للمباحث الدينية أحدهما شيخ أزهري ، وثانيهما كاتب مدني ، لما أبدينا وأعدنا في تفنيد بدعه الكلامية المخالفة لنصوص الكتاب والسنة التي يجهلانها ; لأن بضاعة الأول نظريات متكلمي القرون الوسطى على قلة من يفهمها منهم اليوم وبضاعة الثاني نظريات بعض الإفرنج ، ولما رأيا نظرية الرازي في التأويل تؤيد فهمهما الباطل ، أراد الثاني ترويجها في سوق العامة بتسميته إمام المفسرين ، وما كان إلا إمام المتكلمين .

                          وأما تفسيره فقد اشتهر قول بعض العلماء فيه : إن فيه كل شيء إلا التفسير كما في كتاب الإتقان والحق أن هذه مبالغة في الإنكار على ما هو الغرض الذي امتاز به تفسيره وهو نقل آراء الفلاسفة والمتكلمين ، وحجج المعتزلة والأشاعرة .

                          فلينظر القارئ المستقل الفهم كيف فعل تقليد المسلمين لهؤلاء المتكلمين في دينهم : ينقل لهم متكلم مفسر عن متكلم مجهول زعم أنه من أهل التحقيق ، أن هذه الآية من القرآن التي لم يعرف لغتها ولا معناها الناقل ولا المنقول عنه ( ( تدل على أن من كان غير عارف بالتأويلات ( التي ابتدعوها ) وقع في الكفر والبدعة ) ) وعلل ذلك بما هو باطل من وجوه نكتفي منها بما لا يخفى على عامي ذكي ولا بليد ، وهو أن المؤمن بالنصوص إذا رأى فيها ما هو متعارض ; فإنه إما أن يبحث عن وجوه الترجيح بين المتعارضات بمقتضى القواعد التي وضعها علماء الأصول في ( كتاب التعارض والترجيح ) إذا رأى أنه أهل لذلك وفي حاجة إليه ، وإما أن يترك هذا البحث إلى أهله معتقدا أنهم أعرف به ، ولا يكون هذا التعارض الصوري سببا لشكه في القرآن أو أنه ليس بحق مما يكون به مبتدعا أو كافرا ، ولو صح قول هذا القائل لوجب تحريم قراءة كتاب الله وكتب السنة على كل من لم يأخذ بقاعدتهم هذه ، وبتعلم علم الكلام وعلم أصول الفقه قبل تلاوته لأجلها ، وإن كان عالما بهدي السلف وأقوال أئمته ، وهذا تقييد لكتاب الله تعالى وصد عنه بتأويلاتهم المبتدعة بعد عصر النور الأول لهذه الأمة ، ويلزم به أن يحكموا على أكثر من يقرءونه بالكفر والبدعة ، والحق أن هذه التأويلات التي فتنوا بها هي المثار الأكبر للشكوك والبدع التي هي بريد الكفر ، وأن كتاب الله كله هدى ونور ، وأصح بيان له سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وخير المهتدين بها سلف الأمة وحفاظ السنة .

                          وجملة القول : أن مذهب السلف الصالح وجوب الإيمان بكل ما وصف الله تعالى به [ ص: 310 ] نفسه في كتابه ، وما صح من وصف رسوله - صلى الله عليه وسلم - له على ظاهره من غير تعطيل للمعنى اللغوي يجعله كاللغو ، ولا تمثيل بتشبيه لله بخلقه يعد من النقص ، ولا تأويل يخرج الظاهر المتبادر عن معناه بمحض الرأي .

                          واعلم أيها القارئ أن الخواطر التي تعرض لبعض الناس مما لا يليق به تعالى ، لا تنقص إيمان الموقن بكتابه وصدق رسوله المتبع لهما ، كما ورد في الأحاديث الصحيحة فيمن يوسوس له الشيطان : من خلق الله ؟ وفيمن أوصى بحرق جثته لئلا يبعثه الله ويعذبه . قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - : سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الوسوسة فقالوا إن أحدنا ليجد في نفسه ما لأن يحترق حتى يصير حممة ) أي فحمة ) أو يخر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يتكلم به ؟ قال ( ( ذلك محض الإيمان ) ) رواه مسلم ، يعني أن الوسوسة لا يسلم أحد منها ، وأن كراهة المؤمن لها دليل على إيمانه المحض الخالص .

                          هذا وإن أكثر كبار النظار من المتكلمين قد رجعوا إلى مذهب السلف في الإيمان بظاهر النصوص ، وفي مقدمتهم إمام الحرمين كما نقله عنه الحافظ ابن حجر في شرحه للبخاري ( من كتاب التوحيد ) ومن قبله والده الإمام الجويني الذي نقل السبكي في ترجمته أن علماء عصره قالوا : لو بعث الله تعالى نبيا في هذا العصر لكان الجويني ، ومن بعدهما أبو حامد الغزالي في آخر عمره ، ونقل مثل هذا عن الفخر الرازي أيضا رحمهم الله ورحمنا وعفا عنهم وعنا ، وقد صرح الغزالي من قبل رجوعه إلى مذهب السلف أن علم الكلام ليس من علوم الدين ، وإنما هو لحراسة العقيدة كالحرس للحاج ( وأقول ) إنما راجت كتبه في عصرهم ; لأنها وضعت للرد على ملاحدتهم ومبتدعتهم ولا تنفع في الرد على ملاحدة هذا العصر ولا مبتدعته كما بيناه مرارا .

                          وأما تلقين المسلمين أنفسهم للعقائد وقواعد الإسلام ، فيجب أن يعتمد فيها على آيات القرآن ، والمأثور في الأحاديث ، وسيرة الصحابة وعلماء التابعين وأئمة الهدى قبل ظهور البدع ، ومن أكبر الضلال أن يعتمد فيها على أقوال المتكلمين ، فتجعل أصلا ترد إليها آيات القرآن المبين ، إيثارا لبيانهم على بيانه .

                          وإن تعجب فعجب جعلهم عقيدة السنوسية الصغرى الأساس الأول لتعليم التوحيد في الأزهر وغيره ، وإنما هي نظريات كلامية غير شرعية ، وقد أخطأ محشوها وشراحها في جعل التوحيد عبارة عن نفي الكم المتصل والكم المنفصل في ذات الله وصفاته وأفعاله ، أو المنفصل في أفعاله فقط ، وهي فلسفة مبتدعة لا يعرفها الشرع ولا تدل عليها اللغة ، كما أخطأ مؤلفها في تفسير كلمة التوحيد ( ( لا إله إلا الله ) ) بلازم من لوازمها لا يتضمن معناها الذي لأجله جعلت عنوان الدعوة إلى الإسلام ، وتحكم في صفات الله بالظن الذي ذمه الله بأنه لا يغني [ ص: 311 ] من الحق شيئا ، فزعم أن السمع والبصر يتعلقان بجميع الموجودات ، يعني أنه تعالى يسمع ذوات الجواهر وأعراضها كالألوان والصفات ، ويرى الأصوات ويبصر اللغات . غافلا عن ذلك وعن قوله : ( وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ) ( 2 : 169 ) ومع هذا زعم بعض علماء الأزهر أن إبراهيم خليل الرحمن - صلى الله عليه وسلم - يقرأ هذه العقيدة في الآخرة لأولاد المسلمين ، وهو إمام الموحدين ، الذي آتاه حجته في الدنيا على قومه وهم علماء عصره وعلى سائر العالمين ، واطمئنان القلب بكيفية إحيائه تعالى للميتين ، فكيف يحتاج بعد كشف الحجب في الآخرة إلى نظريات السنوسي ومن فوقه من نظار المتكلمين ؟ ؟

                          وقد صرح السيد الألوسي تبعا لغيره من المحققين العارفين ، بما حققناه هنا في علم الكلام والمتكلمين ، عند الكلام على آية الظن في باب الإشارة من هذا السياق فقال ما نصه : ( وما يتبع أكثرهم إلا ظنا ) ( 36 ) ذم لهم بعدم العلم بما يجب لمولاهم وما يمتنع وما يجوز ، ولا يكاد ينجو من هذا الذم إلا قليل ، ومنهم الذين عرفوه جل شأنه به لا بالفكر ، بل يكاد يقصر العلم عليهم ، فإن أدلة أهل الرسوم من المتكلمين وغيرهم متعارضة ، وكلماتهم متجاذبة ، فلا تكاد ترى دليلا سالما من قيل وقال ، ونزاع وجدال ، والوقوف على علم من ذلك مع ذلك أمر أبعد من العيوق ، وأعز من بيض الأنوق .


                          لقد طفت في تلك المعاهد كلها     وسرحت طرفي بين تلك المعالم




                          فلم أر إلا واضعا كف حائر     على ذقن أو قارعا سن نادم



                          فمن أراد النجاة فليفعل ما فعل ليحصل له ما حصل لهم ، أولا فليتبع السلف الصالح فيما كانوا عليه في أمر دينهم ، غير مكترث بمقالات الفلاسفة ومن حذا حذوهم من المتكلمين التي لا تزيد طالب الحق إلا شكا ) ) ا ه .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية