الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          بعد أن فرض الله سبحانه الإحسان على من اختار التسريح حرم عليهم أخذ شيء من المرأة فقال : ( ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا ) ويدخل في ذلك المهر وغيره مما يعطيه الرجل امرأته على سبيل التمليك ، بل يجب أن يمتعها بشيء من ماله زائدا على ذلك ( فمتعوهن وسرحوهن ) ( 33 : 49 ) .

                          قال الأستاذ الإمام ( رضي الله عنه ) : إن أخذ الرجل شيئا من مال مطلقته مناف للإحسان فالأمر بالإحسان يستلزمه ، وإنما صرح به لمزيد رأفته سبحانه بالنساء ، وتأكيده تحذير الرجال الأقوياء من ظلمهن حقوقهن ، وقد كرر هذا النهي ، ومنه قوله في سورة النساء : ( وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا مه شيئا ) ( 4 : 20 ) إلخ ، الآيتين ، ومحل هذا الحكم إذا كان الزوج هو الذي اختار فراق المرأة ورغب عنها ، وأما إذا كانت هي الراغبة عنه الطالبة لفراقه ، وخيف أن تتوسل إليه بالنشوز وسوء العشرة لكراهتها إياه أو لسوء خلقها ، لا لمضارته لها; فلا جناح عليهما حينئذ فيما يأخذه منها لإطلاق سراحها ، إذ لا يكلف خسارة امرأته وماله بغير ذنب منه; ولذلك قال تعالى : ( إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله ) التي حدها للزوجين من حسن المعاشرة والمماثلة في الحقوق مع ولاية الرجل ، والتعاون على القيام بأمر المنزل وتربية الأولاد وعدم المضارة لقوله : ( ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن ) ( 65 : 6 ) وغير ذلك ، وذلك بأن تخاف المرأة أن تعصي [ ص: 308 ] الله في أمر زوجها فتكفره أو تخونه ، ويخاف هو أن يخرج عن الحد المشروع في مؤاخذة الناشز ، ويخافا معا سوء العشرة ( فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به ) الجناح : الإثم ، أي لا جناح عليها فيما تعطيه إياه ليخلعها; لأن طلبها الطلاق إنما يحظر لغير هذا العذر ، ولا جناح عليه فيما يأخذ لأجل ذلك; لأنه برضاها واختيارها من غير إكراه منه ولا مضارة ، والخوف هنا على ظاهره وهو توقع المكروه ، وفسره بعضهم بالظن وبعضهم بالعلم ، وتوقع الشيء لا يكون إلا بوجود ما يدل عليه ، فإن كان الدليل قطعيا فهو من العلم وإلا فهو من الظن ، وقد جعل بعض المفسرين الخطاب الأول للأزواج والثاني للحكام ، وجعل بعضهم الخطاب للحكام أولا وآخرا لتناسق النظم بتناسق الضمائر .

                          ويقول الأستاذ الإمام : إن الخطاب في مثل هذا للأمة; لأنها متكافلة في المصالح العامة ، وأولو الأمر هم المطالبون أولا وبالذات بالقيام بالمصالح ، والحكام منهم وسائر الناس رقباء عليهم . وقرأ حمزة ويعقوب ( يخافا ) بضم الياء; أي : يتوقع الناس منهما ذلك لظهور أماراته وآياته .

                          وظاهر الآية أنه لا فرق في الخوف من عدم إقامة حدود الله بين أن يكون مثاره الرجل أو المرأة ، وخصه بعض المفسرين بما إذا كان المانع من إقامتها من جانب المرأة ، واختاره الأستاذ الإمام على ما تقدم آنفا ، وهذا هو الذي يتفق مع عدل الإسلام ويدل عليه السياق ، إذ جعل هذا استثناء من تحريم أخذ الرجل المطلق شيئا ما مما أعطاه امرأته .

                          وينجلي هذا بعرض حالات الزوجين الثلاث على العقل والعدل : فهما إن أقاما حدود الله تعالى بحسن المعاشرة وأداء كل منهما حق الآخر إلا ما كان من شذوذ يتسامح فيه عادة فلا خوف ولا فراق ، وإن عرض لها ما يمنع إقامتها فلا بد أن يكون العارض المانع من قبل أحدهما أو كليهما ، فإن كان من قبل الرجل بأن أبغض المرأة أو فتن بغيرها وأحب فراقها لغير ذنب منها أوجب ذلك وخاف ألا يعاملها بما يجب من المعروف ، وأن تقابله بمثل ذلك فله أن يسرحها بإحسان; لأن عقدة الزوجية بيده ، وليس له أن يأخذه في هذه الحالة مما كان أعطاها شيئا بالنص ، وهو ( وإن أردتم استبدال زوج ) الآية ، فإن التحريم فيها مبني على ما إذا كان الرجل هو الذي أراد الطلاق .

                          وإن كان المانع من قبلها كأن أبغضته بغضا لا تستطيع الصبر عليه والقيام معه بحقوق الزوجية ، وخافت أن تقع في النشوز ، ويسرف هو في العقوبة ، فمن العدل أن تعطيه ما كانت أخذت منه باسم الزوجية ليحل عقدتها ، فلا يخسر ماله وزوجته معا . عملا بالرخصة في الآية ، إذ تعين حمله عليها ، ونفي الجناح عنهما في هذه الحالة ظاهر في الرجل ، وجعله بعضهم بمعنى المفرد لخفائه عليهم في جانب المرأة ، وما هو بخفي ، فإن المرأة يذم منها شرعا [ ص: 309 ] وعرفا أن تطلب الطلاق ، وقد رفع عنها الجناح فيه بهذا العذر ، وهو علمها بتعذر إقامة حدود الله في الزوجية .

                          وقد يقال : إن هناك حالة ثانية وهي أن يكره كل منهما الآخر ويود فراقه . ويقول : إن المطلوب في هذه الحال الصبر لقوله تعالى : ( فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ) ( 4 : 19 ) فإن صبر أحدهما دون الآخر جاء الوجهان السابقان ، وإن اتفقا على الفراق خوفا من الشقاق ، ورضيت المرأة بأن تعطيه شيئا صدق عليها أنها هي الطالبة للفسخ .

                          وجملة القول أنه لا يجوز للرجل أن يأخذ منها شيئا إلا برضاها واختيارها من غير إيذاء منه ولا مضارة ، ويدل على هذا ما ورد في نزول الآية .

                          أخرج البخاري والنسائي وابن ماجه وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس ( ( أن جميلة بنت عبد الله ابن سلول امرأة ثابت بن قيس بن شماس أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت : يا رسول الله ثابت بن قيس ما أعتب عليه في خلق ولا دين ، ولكني لا أطيقه بغضا ، وأكره الكفر في الإسلام ( أي : كفر نعمة العشير وخيانته ) قال : أتردين عليه حديقته ؟ قالت : نعم ، قال : أقبل الحديقة ، وطلقها تطليقة ) ) ولفظ ابن ماجه ( ( فأمره أن يأخذ منها حديقته ولا يزداد ) ) وذكر السيوطي في أسباب النزول من رواية ابن جرير عن ابن جريج أن قوله : ( ولا يحل لكم أن تأخذوا ) إلخ ، نزل في ذلك . وقد زعم بعض العلماء أن هذه الآية منسوخة بآية النساء التي لا استثناء فيها ، ولا دليل على ذلك ، والجمهور على خلافه .

                          وهذا الفراق المبني على الافتداء يسمى الخلع . وقد اختلف فيه العلماء : هل هو طلاق أم فسخ ؟ ولكل مذهب أدلة ليس التفسير بمحل لها ، ويترتب على هذا الاختلاف في عده من الطلقات الثلاث أم لا ، وفي عدة المختلعة . فالجمهور على أنها كعدة المطلقة ، وفي حديث ابن عباس عند أبي داود والترمذي والنسائي والحاكم ( ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر امرأة ثابت بن قيس أن تعتد بحيضة ) ) مثله حديث الربيع بنت معوذ عند الترمذي .

                          ثم ختم الآية بوعيد من يخالف هذه الأحكام فقال : ( تلك حدود الله فلا تعتدوها ) أي : هذه الأوامر والنواهي هي حدود الله للمعاملة الزوجية فلا تتجاوزوها بالمخالفة ( ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون ) الذين صار الظلم وصفا لازما لهم متمكنا من أنفسهم دون الملتزمين لها ، والظلم آفة العمران ومهلك الأمم ، وإن ظلم الأزواج للأزواج أعرق في الإفساد ، وأعجل في الإهلاك من ظلم الأمير للرعية ; لأن رابطة الزوجية أمتن الروابط وأحكمها فتلافي الفطرة ، فإذا فسدت الفطرة فسادا انتكث به هذا القتل ، وانقطع هذا [ ص: 310 ] الحبل ، فأي رجاء في الأمة من بعده يمنع عنها غضب الله وسخطه ؟ ثم إن هذا الظلم ظلم للنفس يؤدي إلى الشقاء في الآخرة ، كما أنه مشق بطبيعته في الدنيا ، وقد بلغ التراخي والانفصام في رابطة الزوجية لعهدنا هذا مبلغا لم يعهد في عصر من العصور الإسلامية ، فأسرف الرجال في الطلاق ، وكثر نشوز النساء وافتداؤهن من الرجال بالخلع ، لفساد الفطرة في الزوجين ، واعتداء حدود الله من الجانبين ، وقد ورد في كراهة الطلاق في الشرع ما هو مشهور وورد مثله أيضا في طلب المرأة له كحديث ثوبان عند أحمد وأبي داود والترمذي وابن ماجه وابن جرير والحاكم والبيهقي قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ( أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة ) ) فطلب الطلاق والخلع محظور في غير حال الضرورة المنصوصة في الآية ، ولكنه يقع ، قال البيضاوي : والجمهور استكرهوه ولكن نفذوه .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية