الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ثم قال تعالى : ( قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين ) أي قد سأل هذه المسألة أي هذا النوع منها أو هذه المسائل أي أمثالها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بعد إبدائها لهم كافرين بها ، فإن الذين أكثروا السؤال عن الأحكام التشريعية من الأمم قبلكم لم يعملوا بما بين لهم منها بل فسقوا عن أمر ربهم ، وتركوا شرعه لاستثقالهم العمل به ، وأدى ذلك إلى استنكاره واستقباحه أو إلى جحود كونه من عند الله تعالى ، وكل ذلك من الكفر به ، والذين سألوا الآيات كقوم صالح لم يؤمنوا بعد إعطائهم إياها بل كفروا واستحقوا الهلاك في الدنيا قبل الآخرة ، والأخبار الغيبية كالآيات أو منها ، وقد اقتصر ابن جرير في هذه الآية على تفسير المسائل التي سألوها وكفروا بها بالآيات التي يؤيد الله بها الرسل عليهم السلام ، وذكر ابن كثير المعنيين اللذين قررناهما آنفا واستشهد للأول بمسألة السؤال عن الحج لا بد من الجمع بينهما لتكون هذه الآية تتمة لما قبلها وبيانا لسبب ذلك النهي الجامع للمعنيين كما تقدم ، ويؤيد الأول ما ورد في حديث السؤال عن الحج من كون فرضه كل عام يفضي إلى الكفر ، وإنما يظهر ذلك بالوجه الذي قررنا وبيناه ولم نر أحدا سبقنا إليه ، وقد يكون مما لم نره وهو الأكثر .

                          والعبرة في هذه الآية أن كثيرا من الفقهاء وسعوا بأقيستهم دائرة التكاليف وانتهوا بها إلى العسر والحرج المرفوع بالنص القاطع ، فأفضى ذلك إلى ترك كثير من أفراد المسلمين وحكوماتهم للشريعة بجملتها ، وفتح لهم أبواب انتقادها والاعتراض عليها ، فاتبعوا بذلك سنن من قبلهم ، ولا بد لنا من عقد فصل خاص في تفصيل هذا البحث . [ ص: 117 ] ( علاوة في بيان )

                          كون كثرة الزيادة على نصوص الشارع والتنطع في الدين باستعمال الرأي في العبادات وأحكام الحلال والحرام مخلا بيسر الإسلام ومنافيا لمقصده .

                          نفتتح هذا الفصل بمقدمات من المسائل أكثرهن مقاصد لا وسائل ، يتجلى بهن المراد ويتميز الحق من الباطل .

                          ( 1 ) إن الله سبحانه وتعالى قد أكمل دينه وأتم به نعمته على المؤمنين بما أنزله من القرآن على خاتم رسله وبما قام به الرسول صلى الله عليه وسلم أكمل القيام من بيان مراد الله تعالى من تنزيله ، فهذه مسألة قطعية ثابتة بالنقل والعقل ، وقد تقدم تفصي القول فيها في تفسير : ( اليوم أكملت لكم دينكم ) ( 5 : 3 ) من هذه السورة .

                          ( 2 ) إن هذا الدين يسر قد رفع الله تعالى منه الحرج كما نطق به النص في آية الوضوء من هذه السورة وفي سياق آيات الصيام من سورة البقرة ، وتقدم تفسير النصين ، وسيأتي نص آخر في معنى نص آية الوضوء في آخر سورة الحج ، وقال تعالى في سورة الأعلى : ( ونيسرك لليسرى ) ( 87 : 8 ) أي الشريعة التي تفضل غيرها باليسر ، ولذلك سماها الرسول صلى الله وعليه وسلم بالحنيفية السمحة ، ووصفها بقوله : " ليلها كنهارها " وجعل الدين عين اليسر مبالغة في يسره فقال : " إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه " إلخ ، رواه البخاري وابن حبان من حديث أبي سعيد المقبري ، وقال صلى الله عليه وسلم : " أحب الدين وفي لفظ : الأديان إلى الله الحنيفية السمحة " رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد ، وذكره البخاري في ترجمة أحد أبواب الصحيح تعليقا ، والطبراني من حديث ابن عباس وقال صلى الله عليه وسلم : " يسروا ولا تعسروا ، وبشروا ولا تنفروا " رواه الشيخان من حديث أنس وقال : ( لقد تركتكم على مثل البيضاء ليلها ونهارها سواء " رواه ابن ماجه من حديث لأبي الدرداء .

                          ( 3 ) إن القرآن الحكيم هو أصل الدين وأساسه ، وقد قال الله تعالى : ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) ( 6 : 38 ) وقال : ( تبيانا لكل شيء ) ( 16 : 89 ) وأما الرسول صلى الله عليه وسلم فهو المبلغ له والمبين لمراد الله تعالى مما جاء فيه مجملا ، قال تعالى مخاطبا له : ( إن عليك إلا البلاغ ) ( 42 : 48 ) وقال : ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ) ( 16 : 44 ) وقال : ( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ) ( 4 : 105 ) .

                          [ ص: 118 ] واختلف العلماء فيما جاء في السنة من الأحكام التي لا ذكر لها في القرآن ، هل هي من رأي النبي صلى الله عليه وسلم واجتهاده فيه ؟ أم بوحي آخر غير القرآن ؟ أم أذن الله له باستئناف التشريع ؟ والخلاف مشهور ، ورجح الإمام الشافعي القول الثاني ، وفي صحيح البخاري : ( باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل بما لم ينزل عليه الوحي ، فيقول : " لا أدري " أو لم يجب حتى ينزل عليه الوحي ، ولم يقل برأي ولا قياس لقوله تعالى : ( بما أراك الله ) ( 4 : 105 ) ويليه في ( باب تعليم النبي صلى الله عليه وسلم أمته من الرجال والنساء مما علمه الله ليس برأي ولا تمثيل ) .

                          ونقول : لا يتجه الخلاف إلا في الأحكام الدينية المحضة ، وأما المصالح المدنية والسياسية والحربية فقد أمر بالمشاورة فيها ، وكان يرى الرأي فيرجع عنه لرأي أصحابه ، وعاتبه الله تعالى على بعض الأعمال التي عملها برأيه صلى الله عليه وسلم ، كما ثبت ذلك في غزوات بدر وأحد وتبوك ، ولا يتأتى شيء من ذلك فيما كان بوحي .

                          ( 4 ) الرسول صلى الله عليه وسلم معصوم من الخطأ فيما يبلغه عن الله عز وجل ، وفيما بينه للناس من أمر دينه ، ولذلك قال في مسألة تلقيح النخل حين ظن أنه لا ينفع فتركه بعضهم لظنه فخسر موسمه : " إنما ظننت ظنا فلا تؤاخذوني بالظن ، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به ، فإني لن أكذب على الله " وقال أيضا : " إنما أنا بشر مثلكم إذا أمرتكم بشيء من أمر دينكم فخذوا به ، وإذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر " وقال أيضا : " أنتم أعلم بأمر دنياكم " رواه مسلم .

                          ( 5 ) إن الله تعالى قد فوض إلى المسلمين أمور دنياهم الفردية والمشتركة الخاصة والعامة ، بشرط ألا تجني دنياهم على دينهم وهدي شريعتهم فجعل الأصل في الأشياء الإباحة بمثل قوله : ( هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ) ( 2 : 29 ) وقوله : ( وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه ) ( 45 : 13 ) وجعل أمور سياسة الأمة وحكومتها شورى ، إذ قال في وصف المؤمنين : ( وأمرهم شورى بينهم ) ( 42 : 38 ) وأمر بطاعة أولي الأمر وهم أهل الحل والعقد ورجال الشورى بالتبع لطاعة الله ورسوله وأرشد إلى رد أمور الأمن والخوف المتعلقة بالسياسة والحرب والإدارة إلى رسول الله وإلى أولي الأمر ، كما تقدم بيان ذلك في سورة النساء راجع تفسير : ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) ( 4 : 59 ) وتفسير : ( ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) ( 4 : 83 ) [ ص: 119 ] وآتى هذه الأمة الميزان مع القرآن كما آتاه الأنبياء من قبل ، والميزان : ما يقوم به العدل والمساواة في الأحكام من الدلائل والبينات التي يستخرجها أهل العلم والبصيرة باجتهادهم في تطبيق الأقضية على النص والعدل والمصلحة .

                          وأما أدلة ذلك من السنة فأعظمها وأظهرها سيرته صلى الله عليه وسلم في تدبير أمر الأمة في الحرب والسلم والسياسة العامة بمشاورة أولي الرأي والفهم والمكانة المحترمة من المؤمنين ، وهم كبراء المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم ، ومنها إذنه لمعاذ عند إرساله إلى اليمن بالاجتهاد في القضاء ، وحديث : " إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران ، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر " رواه البخاري من حديث عمرو بن العاص وذكر أن أبا هريرة وأبا سلمة تابعاه عليه .

                          ( 6 ) إن الله تعالى جعل الإسلام صراطه المستقيم لتكميل البشر ، في أمورهم الروحية والجسدية ، ليكون وسيلة للسعادة الدنيوية والأخروية ، ولما كانت الأمور الروحية التي تنال بها سعادة الآخرة من العقائد والعبادات لا تختلف باختلاف الزمان والمكان أتمها الله تعالى وأكملها أصولا وفروعا وقد أحاطت بها النصوص ، فليس لبشر بعد الرسول أن يزيد فيها ولا أن ينقص منها شيئا .

                          وأما الأمور الدنيوية من قضائية وسياسية ، فلما كانت تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة بين الإسلام أهم أصولها ، وما مست إليه الحاجة في عصر التنزيل من فروعها ، وكان من إعجاز هذا الدين وكماله أن ما جاءت به النصوص من ذلك يتفق مع مصالح البشر في كل زمان ومكان ، ويهدي أولي الأمر إلى أقوم الطرق لإقامة الميزان ، بما تقدم ذكره من الشورى والاجتهاد .

                          ( 7 ) من تدبر ما تقدم تظهر له حكمة ما كان من كراهة النبي صلى الله عليه وسلم لكثرة سؤال المؤمنين له عن المسائل التي تقتضي أجوبتها كثرة الأحكام ، والتشديد في الدين ، أو بيان أحكام دنيوية ربما توافق ذلك العصر ولا توافق مصالح البشر بعده ، وقد [ ص: 120 ] تقدم بسط ذلك في تفسير الآيتين ، وسنورد قريبا أحاديث أخرى وآثارا في معنى ما أوردناه في سياق تفسيرهما .

                          ( 8 ) من أجل ذلك الذي تقدم كان السلف الصالح يذمون الإحداث والابتداع ، ويوصون بالاعتصام والاتباع ، وينهون عن الرأي والقيام في الدين ، ويتدافعون الفتوى ويتحامونها ولا سيما إذا سئلوا عما لم يقع ، ولكن بعض الذين انقطعوا لعلم الشريعة فتحوا باب القياس والرأي فيها ، وأكثروا من استنباط الفروع الكثيرة في العبادات والمعاملات جميعا ، فجاء بعض الفروع مخالفا للسنة القولية أو العملية مخالفة بينة ، وبعضها غير موافق ولا مخالف ، إلا أنه يدخل فيما عفا الله عنه فسكت عن بيانه رحمة لا نسيانا كما ورد ، وقد وضعوا للاستنباط أصولا وقواعد منها الصحيح الذي تقوم عليه الحجة ، ومنها ما لا تقوم عليه حجة ألبتة ومنهم من لم يلتزم تلك الأصول والقواعد في استنباطه للأحكام ، وقوله هذا حلال وهذا حرام ، وذهبوا في ذلك مذاهب بددا ، وسلكوا إليه طرائق قددا ، فكثرت التكاليف حتى تعسر تعلمها ، فما القول في عسر العمل بها ؟ فتسلل منها الأفراد والجماعات ، ونقصت من عقلها الحكومات ، وكثرت على المسلمين بها الشبهات ، وكانت في طريق الدعوة إلى الإسلام أصعب العقبات ، ولو سلك المتأخرون طريق السلف حتى أئمة أهل الرأي منهم في منع التقليد والرجوع إلى صحيح المأثور ، ورد المتنازع فيه إلى الله والرسول لما وصلنا إلى هذا الحد الذي وصفناه .

                          ( 9 ) إن الإسلام دين توحيد واجتماع ، وقد نهى أشد النهي عن التفريق والاختلاف قال تعالى : ( واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ) ( 3 : 103 ) وقال : ( ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات ) ( 3 : 105 ) وقال : ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء ) ( 6 : 159 ) وقال : ( ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون ) ( 30 : 31 ، 32 ) ولم تكن هذه النصوص من الكتاب وأمثالها منه ومن السنة برادعة للمسلمين عن التفرق ، وما كان التفرق إلا من الرأي الذي اتبعوا فيه سنن من قبلهم ، شبرا بشبر وذراعا بذراع ، حتى دخلوا جحر الضب الذي دخلوه قبلهم ، مصداقا للحديث المتفق عليه ، وروى ابن ماجه والطبراني من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لم يزل أمر بني إسرائيل معتدلا حتى نشأ فيهم المولدون وأبناء سبايا الأمم التي كانت بنو إسرائيل تسبيها فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا " وقد علم عليه السيوطي بالحسن ، ونقل هذا المعنى غير مرفوع عن غير واحد من علماء التابعين من أهل الكتاب عامة ، كما رواه الحافظ ابن عبد البر في كتاب العلم .

                          [ ص: 121 ] ولما كثر القول بالرأي قام أهل الأثر يردون على أهل الرأي وينفرون الناس منهم ، فكان علماء الأحكام قسمين : أهل الأثر والحديث ، وأهل الرأي ، وكان أئمة الفريقين من المؤمنين المخلصين ، الناهين عن تقليد غير المعصوم في الدين ، ثم حدثت المذاهب ، وبدعة تعصب الجماعة الكثيرة للواحد ، وفشا بذلك التقليد بين الناس ، فضاع العلم من الجمهور بترك الاستقلال في الاستدلال ، فكان هذا أصل كل شقاء وبلاء لهذه الأمة في دينها ودنياها .

                          ( 10 ) ما اجتمعت هذه الأمة على ضلالة قط ، أما أهل الصدر الأول فلم يفتتن بالبدع التي ظهرت في عصرهم إلا القليل منهم ، وكان السواد الأعظم على الحق ، ولما ضعف الحق وارتفع العلم بكثرة الموت في العلماء المستقلين ، وفشو الجهل بتقليد الجماهير حتى لأمثالهم من المقلدين ، كان يوجد في كل عصر طائفة ظاهرة على الحق مقيمة للسنة خاذلة للبدعة ولغربة الإسلام صار هؤلاء غرباء في الناس ، وكانوا في اعتصامهم بالحق وفي غربتهم في الإسلام مصداقا للأحاديث الصحيحة ، ولو خلت الأرض منهم وانفرد بتعليم الدين والتصنيف فيه المقلدون المتعصبون للمذاهب ، الذين جعلوا كلام مقلديهم أصلا في الدين ، يردون إليه أو لأجله نصوص الكتاب والسنة حتى بالتحريف والتأويل ويضعفون الصحيح ويصححون السقيم ، لعميت السبيل الموصلة إلى دين الله القويم .

                          إنما أعني بأهل الحق وأنصار السنة من عرفوا الحق ودعوا إليه وأنكروا على مخالفيه وقرروه بالتدريس والتأليف ، فهؤلاء هم الذين يصدق عليهم حديث الصحيحين وغيرهما : " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله " ، وفي لفظ : " حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون " وحديث مسلم وغيره : " بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء " وفي رواية للترمذي زيادة في تفسير الغرباء وهي : " الذين يصلحون ما أفسد الناس بعدي من سنتي " وقد وجد كثير من العلماء في كل عصر عرفوا الحق في أنفسهم ولكنهم ما دعوا إليه ، ولا أنكروا على مخالفيه لضعف في عزائمهم ، أو خوف على جاههم وكرامتهم عند الناس ، ومنهم من عرف بعض الحق ولم يوفق لتمحيصه ، وكتبوا في ذلك كتبا خلطوا فيها عملا صالحا وآخر سيئا .

                          وجملة القول أن أنصار السنة ثلة من الأولين وقليل من الآخرين ، منهم القوي والضعيف ولين القول وخشنه ، والمبالغ والمقتصد ، وقد فضلت الأندلس الشرق بعد خير القرون بإمام جليل منهم قوي العارضة شديد المعارضة ، بليغ العبارة ، بالغ الحجة ألا وهو الإمام المحدث الفقيه الأصولي مجدد القرن الخامس أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم ، ألف كتبا في أصول الفقه وفروعه ، هدم بها القياس ، وبين إحاطة النصوص بالأحكام أبلغ بيان ، [ ص: 122 ] وأنحى بها على أهل الرأي أشد الإنحاء ، ولكنه جاء في القرن الخامس الذي تمكنت فيه المذاهب القياسية في جميع الأقطار ، بتقليد الجماهير وتأييد الحكومات لها وما حبس على أهلها من الأوقاف ، حتى صار المنتسبون إلى كل مذهب منها يقدمون قول كل مؤلف منتسب إليها ، على نصوص الشارع التي اتفق نقلة الدين على صحتها ، فما استفاد من كتب ابن حزم إلا الأقلون . وعندي أن الصارف الأكبر للناس عن كتبه هو شدة عبارته في تجهيل فقهاء القياس حتى الأئمة المتبوعين منهم وقد كان أكابر العلماء في كل يستفيدون من كتبه وينسخونها بأقلامهم ويتنافسون فيها ، ولكن قلما كانوا ينقلون عنها إلا ما يجدونه من هفوة يردون عليها; ولذلك بعد من مناقب الشيخ عز الدين بن عبد السلام الذي اعترفوا له بالاجتهاد المطلق ولقب بسلطان العلماء ، قوله لمن سأل عن خير كتب الفقه في الإسلام ( المحلى ) لابن حزم ، و ( المغني ) للشيخ الموفق . وفي دار الكتب الكبرى بمصر نسخة من كتاب ( الإحكام في أصول الأحكام ) لابن حزم من خط علامة الشافعية في عصره ابن أبي شامة ، فهذا الأثر وذلك القول يدلان على عناية كبار العلماء بكتب ابن حزم وحرصهم على الاستفادة منها .

                          لم يجئ ‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌بعد الإمام ابن حزم من يساميه أو يساويه في سعة علمه وقوة حجته وطول باعه وحفظه للسنة وقدرته على الاستنباط إلا شيخ الإسلام مجدد القرن السابع أحمد تقي الدين بن تيمية ، وهو قد استفاد من كتب ابن حزم واستدرك عليها وحرر ما كان من ضعف فيها ، وكان على شدته في الحق مثله أنزه منه قلما أو أكثر أدبا مع أئمة الفقهاء من أهل الرأي والقياس ، على أنه لم ينف القياس ألبتة ، ولكنه فرق بين القياس الصحيح الموافق للنصوص والقياس الباطل المخالف لها بما لم يسبقه إليه أحد من علماء الأمة فيما نعلم .

                          وكان الإمام أبو عبد الله محمد بن القيم وارث علم أستاذه ابن تيمية وموضحه ، وكان أقرب من أستاذه إلى اللين والرفق بالمبطلين والمخطئين ، فلذلك كانت تصانيفه أقرب إلى القبول ، ولم يلق من المقاومة والاضطهاد ما لقي أستاذه بتعصب مقلدة المتفقهين ، وجهل الحكام الظالمين .

                          وإن أنفع ما كتب بعدهم لأنصار السنة كتاب ( فتح الباري ) شرح صحيح البخاري لقاموس السنة المحيط الحافظ أحمد بن حجر العسقلاني شيخ الحفاظ والفقهاء بمصر في القرن التاسع ، فإنه هو الكتاب الذي لا يكاد يستغني عنه أحد يخدم السنة في هذا العصر; لأنه جامع لخلاصة كتب السنة وزبدة أقوال العلماء في العقائد والفقه والآداب ، ومن أنفعها في كتب فقه الحديث كتاب ( نيل الأوطار ) شرح منتقى الأخبار ، ومن كتب أصول الفقه كتاب ( إرشاد الفحول في تحقيق الحق من علم الأصول ) كلاهما للإمام [ ص: 123 ] الجليل المجدد مجتهد اليمن في القرن الثاني عشر : محمد بن علي الشوكاني رحمهم الله ونفع بهم أجمعين .

                          فهؤلاء أشهر أعلام المصلحين في الإسلام من علماء الحديث والفقه الذين تعد كتبهم أعظم مادة للإصلاح فيما نحن بصدده ، ومن دونهم كثير من العلماء والحفاظ في كل عصر وكل قطر ، وقد اكتفينا بذكر من اعتمدنا على كتبهم في هذا البحث وهي أمتع الكتب فيه ، وإن حسن اختيار الكتب نصف العلم .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية