الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ما حرره الشاطبي في مسألة المصالح :

                          وأما الشاطبي ، فإنه جعل الباب الثامن من كتابه الاعتصام في التفرقة بين البدع والمصالح المرسلة والاستحسان ؛ فأما الاستحسان فإذا لم يرجع إلى قياس صحيح أو إلى رعاية المصالح ودفع المفاسد فليس بشيء ، وأما المصالح المرسلة فقد وافق الشاطبي الأصوليين على عدها مما يسمونه المعنى المناسب ، ووضحها بعشرة أمثلة منها :

                          ( 1 ) اتفاق الصحابة على كتابة القرآن في الصحف التي سمي مجموعها المصحف .

                          ( 2 ) اتفاقهم على حد شارب الخمر ثمانين جلدة ، كذا قال .

                          ( 3 ) قضاء الخلفاء الراشدين بتضمين الصناع ، وقول علي ( رضي الله عنه ) في ذلك : لا يصلح الناس إلا ذاك .

                          ( 4 ) ما ذهب إليه بعض العلماء من الضرب في التهم ، وما ذهب إليه مالك من السجن في التهم ، مع أن السجن نوع من العذاب .

                          ( 5 ) ما قرره ونقل مثله عن الغزالي وابن العربي من جواز وضع الإمام العادل ضرائب وإعانات مؤقتة عند الضرورة ; لتكثير الجنود لسد الثغور وحماية الملك إذا لم يوجد في بيت المال ما يفي بذلك .

                          ( 6 ) اختلاف العلماء في العقاب على بعض الجنايات بأخذ المال .

                          ( 7 ) الزيادة على سد الرمق إذا توالت ضرورة الأكل من المحرم كالميتة في المجاعات ، أو عم الحرام بلدا أو قطرا في جميع الأموال ، فحينئذ لا ينظر إلى أصل المال ، بل يؤخذ من الوجه الشرعي ، كما لو كان أصله حلالا . هذا ملخص معنى ما ذكره ، وعزى القول به إلى ابن العربي وأحال في بسطه على الغزالي في الإحياء; أي في كتاب الحلال والحرام من الجزء الثاني منه . [ ص: 164 ] ( 8 ) قتل الجماعة بالواحد ، قال : والمستند فيه المصلحة المرسلة; إذ لا نص على عين المسألة ، ولكنه منقول عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وهو مذهب مالك والشافعي .

                          ( 9 ) إقامة إمام للمسلمين ( خليفة ) غير مجتهد في الشرع إذا فقد المجتهد . قال : " إن العلماء نقلوا الاتفاق على أن الإمامة الكبرى لا تنعقد إلا لمن نال رتبة الاجتهاد والفتوى في علوم الشرع ، كما أنهم اتفقوا أيضا أو كادوا يتفقون على أن القضاء بين الناس لا يحصل إلا لمن رقي في رتبة الاجتهاد . وهذا صحيح على الجملة ، ولكن إذا فرض خلو الزمان عن مجتهد يظهر بين الناس وافتقروا إلى إمام يقدمونه; لجريان الأحكام وتسكين ثورة الثائرين والحياطة على دماء المسلمين وأموالهم ، فلا بد من إقامة الأمثل ممن ليس بمجتهد .

                          ثم بين وجه ذلك وصرح بأنه لا يتجه إلا على فرض خلو الزمان عن مجتهد ، وهذه مسألة فيها بحث ، وقد صرح المحققون بأنه لا يجوز خلو الزمان عن مجتهد ، وليس هذا محل بيان هذه المسألة ، بل هو لا يتسع لتحقيق مسألة المثال المفروضة أيضا .

                          ( 10 ) بيعة من لم تتوفر فيه شروط الإمامة ابتداء أو استدامتها بعد وجود الكفء لها كالقرشي المجتهد . . . إلخ; خوفا من الفتنة وتفرق الكلمة . وقد ذكر من الشواهد على هذا المثال مبايعة ابن عمر ليزيد ولعبد الملك بن مروان على كونهما من أئمة الجور ، وأخذهما الملك بالسيف لا باختيار الأمة ، ونهي مالك عن الخروج على أبي جعفر المنصور . وفي هذه المسألة أبحاث من وجوه كثيرة; فلا تؤخذ على إطلاقها ، وقد سبق في تفسير آية المحاربين ( البغاة ) قول وجيز فيها ، وإشارة إلى بعض مسائلها; منه أن تحريرها لا يمكن إلا بمصنف خاص ، ومنه أن الرأي الغالب على الأمم في هذا العصر أن المصلحة في الخروج على الملوك المستبدين الجائرين ; كما فعلت الأمة العثمانية إذ كونت قوة خرجت بها على سلطانها عبد الحميد فسلبت السلطة منه ، وخلعته بفتوى من شيخ الإسلام فيها .

                          ومن دقق النظر في الأمثلة التي أوردها الشاطبي لمسألة المصالح المرسلة تبين له أن بعضها تدل عليه النصوص أو السنة العملية ، ومنها ما يدل عليه القياس . فمن الأول كتابة القرآن في مصحف يجمعه كله ، فإن تسمية الله تعالى إياه كتابا يدل على وجوب كتابته ، واتخاذ النبي صلى الله عليه وسلم الكتاب له يكتبون بأمره كل ما نزل في وقته يدل على ذلك ، وسبب عدم جمع النبي صلى الله عليه وسلم له في المصحف ظاهر لا يحتاج إلى إطالة الفكرة ، وهو احتمال المزيد في كل سورة ما دام حيا ، ولا يمكن أن يتصور أحد ولا أن يجد شبهة [ ص: 165 ] على كون كتابته في صحف متفرقة هو مطلوب الشارع ، وإنما تلبث أبو بكر رضي الله عنه في الأمر أولا على عادة أهل الروية في الأمور العظيمة ، وناهيك بأوائل الأعمال التي تعرض على أصحاب المناصب العليا في مناصبهم . ومن الثاني حد السكر ، قيل : إنه قياس على القذف ، وقيل : إنه تعزير لا يجب التزام العدد فيه .

                          والحق الجلي الظاهر أن مسائل المعاملات التي يرجع فيها إلى الحكام من قضائية وسياسية وحربية ترجع كلها إلى الأصل الذي بينه حديث : " لا ضرر ولا ضرار " بالتبع لآيات رفع المضارة في الإرث والزوجية أي رفع الضرر الفردي والمشترك ، ومنه أخذت قاعدة دفع المفاسد وحفظ المصالح مع مراعاة ما علم من نصوص الشارع ومقاصده ، وأمثلة هذا في أعمال الخلفاء الراشدين المالية والإدارية والحربية كثيرة جدا ، على أن جماهير الفقهاء يصرحون دائما بإرجاع جميع الأحكام إلى القاعدة المذكورة آنفا ، فقواعد العز بن عبد السلام الشافعي المشهود له بالاجتهاد المطلق أكثرها يدور على هذه القاعدة .

                          إنما فر أكثر علماء الأمة من تقرير هذا الأصل تقريرا صريحا مع اعتبارهم كلهم له كما قال القرافي خوفا من اتخاذ أئمة الجور إياه حجة لاتباع أهوائهم وإرضاء استبدادهم في أموال الناس ودمائهم ، فرأوا أن يتقوا ذلك بإرجاع جميع الأحكام إلى النصوص ولو بضرب من الأقيسة الخفية ، فجعلوا مسألة المصالح المرسلة من أدق مسالك العلة في القياس ولم ينوطوها باجتهاد الأمراء والحكام . وهذا الخوف في محله ، ولكن لم يق الأمة من أهواء الحكام كما ينبغي ، إذ كان يوجد في عهد كل ظالم من علماء السوء من يمهد له الطريق ولو لبعض ما يريد من اتباع الهوى .

                          والطريقة المثلى لحفظ الحق وإقامة ميزان العدل : هي رفع قواعد الحكم على الأساس الذي شرعه الله تعالى للمسلمين بقوله : ( وأمرهم شورى بينهم ) ( 42 : 38 ) وقوله : ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) ( 4 : 59 ) كما فصلناه في تفسير هذه الآية في الجزء الخامس من التفسير لا بإنكار أصل المصالح ولا بالتضييق في تفريع الأحكام عليها . فإذا نيط ذلك بأولي الأمر أي أهل الحل والعقد الذين ينصبون الإمام ( الخليفة ) ويكونون أهل الشورى له ويكون هو مقيدا بما يقررونه فحينئذ لا يخشى من جعل مراعاة المصالح ذريعة للمفاسد ما يخشى منه في حال إقرار كل متغلب على الحكم مع التضييق في مسالك استنباط الأحكام ، الذي جرى عليه جماهير الفقهاء . وإنما مثار المفاسد كلها أن يوسد الأمر إلى غير أهله . وأن يقر على الملك كل متغلب ، ويرضى بتقليده كل جائر جاهل . فهذا هو الذي أضاع على المسلمين دينهم ودنياهم .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية