الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                                      فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

                                                                                                                                                                                                                                      الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : اتقوا الله أي قوا أنفسكم من عقابه واتركوا البقايا التي بقيت لكم من الربا ، وظاهره أنه أبطل من الربا ما لم يكن مقبوضا .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : إن كنتم مؤمنين قيل : هو شرط مجازي على جهة المبالغة ، وقيل : إن " إن " في هذه الآية بمعنى " إذ " .

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن عطية : وهو مردود لا يعرف في اللغة ، والظاهر أن المعنى : إن كنتم مؤمنين على الحقيقة ، فإن ذلك يستلزم امتثال أوامر الله ونواهيه .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : فإن لم تفعلوا يعني ما أمرتم به من الاتقاء وترك ما بقي من الربا فأذنوا بحرب من الله ورسوله أي فاعلموا بها ، من أذن بالشيء إذا علم به ، قيل : هو من الإذن بالشيء وهو الاستماع لأنه من طرق العلم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ أبو بكر عن عاصم وحمزة " فآذنوا " على معنى فأعلموا غيركم أنكم على حربهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد دلت هذه على أن أكل الربا والعمل به من الكبائر ، ولا خلاف في ذلك ، وتنكير الحرب للتعظيم ، وزادها تعظيما نسبتها إلى اسم الله الأعظم وإلى رسوله الذي هو أشرف خليقته .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : فإن تبتم أي من الربا فلكم رءوس أموالكم تأخذونها لا تظلمون غرماءكم بأخذ الزيادة ولا تظلمون أنتم من قبلهم بالمطل والنقص ، والجملة حالية أو استئنافية .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي هذا دليل على أن أموالهم مع عدم التوبة حلال لمن أخذها من الأئمة ونحوهم ممن ينوب عنهم .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : وإن كان ذو عسرة لما حكم سبحانه لأهل الربا برءوس أموالهم عند الواجدين للمال حكم في ذوي العسرة بالنظر إلى يسار ، والعسرة : ضيق الحال من جهة عدم المال ، ومنه جيش العسرة .

                                                                                                                                                                                                                                      والنظرة : التأخير ، والميسرة مصدر بمعنى اليسر ، وارتفع " ذو " بكان التامة التي بمعنى وجد ، وهذا قول سيبويه وأبي علي الفارسي وغيرهما .

                                                                                                                                                                                                                                      وأنشد سيبويه :


                                                                                                                                                                                                                                      فدى لبني ذهل بن شيبان يا فتى إذا كان يوم ذو كواكب أشهب



                                                                                                                                                                                                                                      وفي مصحف أبي : " وإن كان ذا عسرة " على معنى : وإن كان المطلوب ذا عسرة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الأعمش " وإن كان معسرا " قال أبو عمرو الداني عن أحمد بن موسى : وكذلك في مصحف أبي بن كعب .

                                                                                                                                                                                                                                      وروى المعتمر عن حجاج الوراق قال : في مصحف عثمان : وإن كان ذو عسرة قال النحاس ومكي والنقاش : وعلى هذا يختص لفظ الآية بأهل الربا ، وعلى من قرأ " ذو " فهي عامة في جميع من عليه دين ، وإليه ذهب الجمهور .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الجماعة فنظرة بكسر الظاء .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ مجاهد وأبو رجاء والحسن بسكونها وهي لغة تميم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ نافع وحده " ميسرة " بضم السين والجمهور بفتحها ، وهي اليسار .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : وأن تصدقوا بحذف إحدى التاءين ، وقرئ بتشديد الصاد : أي وأن تصدقوا على معسري غرمائكم بالإبراء خير لكم ، وفيه الترغيب لهم بأن يتصدقوا برءوس أموالهم على من أعسر وجعل ذلك خيرا من إنظاره ، قاله السدي وابن زيد والضحاك .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الطبري : وقال آخرون : معنى الآية وأن تصدقوا على الغني والفقير خير لكم .

                                                                                                                                                                                                                                      والصحيح الأول ، وليس في الآية مدخل للغني .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : إن كنتم تعلمون جوابه محذوف : أي إن كنتم تعلمون أنه خير لكم عملتم به .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : واتقوا يوما هو يوم القيامة وتنكيره للتهويل وهو منصوب على أنه مفعول به لا ظرف .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : ترجعون فيه إلى الله وصف له .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ أبو عمرو بفتح التاء وكسر الجيم ، والباقون بضم التاء وفتح الجيم ، وذهب قوم إلى أن هذا اليوم المذكور هو يوم الموت .

                                                                                                                                                                                                                                      وذهب الجمهور إلى أنه يوم القيامة كما تقدم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : " إلى الله " فيه مضاف محذوف تقديره إلى حكم الله ثم توفى كل نفس من النفوس المكلفة ما كسبت أي جزاء ما عملت من خير أو شر ، وجملة وهم لا يظلمون حالية ، وجمع الضمير لأنه أنسب بحال الجزاء كما أن الإفراد أنسب بحال الكسب ، وهذه الآية فيها الموعظة الحسنة لجميع الناس .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن السدي في قوله : ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا قال : نزلت في العباس بن عبد المطلب ورجل من بني المغيرة كانا شريكين في الجاهلية يسلفان الربا إلى ناس من ثقيف ، فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا ، فأنزل الله هذه الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير عن ابن جريج قال : كانت ثقيف قد صالحت النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أن ما لهم من ربا على الناس ، وما كان للناس عليهم من ربا فهو موضوع ، فلما كان الفتح استعمل عتاب بن أسيد على مكة ، وكانت بنو عمرو بن عوف يأخذون الربا من بني المغيرة ، وكان بنو المغيرة يربون لهم في الجاهلية ، فجاء الإسلام ولهم عليهم مال كثير فأتاهم بنو عمرو يطلبون رباهم ، فأبى بنو المغيرة أن يعطوهم في الإسلام ، ورفعوا ذلك إلى عتاب بن أسيد ، فكتب عتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فنزلت ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا فكتب بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى عتاب وقال : إن رضوا وإلا فأذنهم بحرب .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : " فأذنوا بحرب " قال : من كان مقيما [ ص: 192 ] على الربا لا ينزع منه فحق على إمام المسلمين أن يستتيبه ، فإن نزع وإلا ضرب عنقه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرجوا أيضا عنه في قوله : " فأذنوا بحرب " قال : استيقنوا بحرب .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أهل السنن وغيرهم عن عمرو بن الأحوص أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : ألا إن كل ربا في الجاهلية موضوع ، لكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون ، وأول ربا موضوع ربا العباس .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن منده عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في ربيعة بن عمرو وأصحابه وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : وإن كان ذو عسرة قال : نزلت في الربا .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد عن شريح نحوه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن الضحاك في الآية قال : وكذلك كل دين على مسلم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير نحوه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد وردت أحاديث صحيحة في الصحيحين وغيرهما في الترغيب لمن له دين على معسر أن ينظره .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أبو عبيد وعبد بن حميد والنسائي وابن جرير والطبراني وابن المنذر والطبراني وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال : آخر آية نزلت من القرآن على النبي صلى الله عليه وآله وسلم : واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي شيبة عن السدي وعطية العوفي مثله .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن الأنباري عن أبي صالح وسعيد بن جبير مثله أيضا .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنها آخر آية نزلت ، وكان بين نزولها وبين موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم إحدى وثمانون يوما .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير : أنه عاش النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد نزولها تسع ليال ثم مات .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية