الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
1303 [ ص: 299 ] حديث خامس لنافع عن ابن عمر .

مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها ، نهى البائع والمشتري .

التالي السابق


قد مضى القول في فقه هذا الحديث في باب حميد الطويل من كتابنا هذا ، ورواه أيوب عن نافع فزاد فيه ألفاظا .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا بكر بن حماد قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا عبد الوارث عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع النخل حتى تزهي ، وعن السنبل حتى يبيض ، نهى البائع والمشتري .

[ ص: 300 ] وأخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي قال : حدثنا ابن عيينة عن أيوب عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع النخل حتى تزهو ، وعن السنبل حتى يبيض وتأمن العاهة ، نهى البائع والمشتري .

وقد روى حماد بن سلمة عن حميد عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع العنب حتى يسود ، وعن بيع الحب حتى يشتد ، وقد كان الشافعي مرة يقول : لا يجوز بيع الحب في سنبله ، وإن اشتد واستغنى عن الماء ، ثم بلغه هذا الحديث فرجع إلى القول به ، وأجاز بيع الحنطة زرعا في سنبله قائما على ساقه إذا يبس ، واستغنى عن الماء كقول سائر العلماء ، وهو ما لا خلاف فيه عن جماعة فقهاء الأمصار ، وأهل الحديث .

وقد روي عن ابن شهاب أنه أجاز بيعه فريكا قبل أن يشتد ، وخالفه مالك وغيره ، ومالوا إلى ظاهر الحديث " حتى يبيض ويشتد ويستغني عن الماء " .

ومن قول الشافعي أن كل ثمرة وزرع دونها حائل من قشر أو أكمام ، وكانت إذا صارت إلى مالكيها أخرجوها من قشرها وأكمامها ، ولم تفسد بإخراجهم لها ، قال : فالذي أختار فيها أن لا يجوز بيعها في شجرها ، ولا موضوعة بالأرض للحائل دونها ، وحجته في ذلك الإجماع على لحم الشاة المذبوحة غير المسلوخة [ ص: 301 ] أنه لا يجوز بيعه حتى تسلخ ، ويخرج من الجلد قال : ولم أجد أحدا من أهل العلم التابعين أخذ عشر الحنطة في أكمامها ، ولا عشر الحبوب ذوات الأكمام ، ولا بيعها محصودة مدروسة في التبن غير منقاة .

قال أبو عمر : لم يجمعوا على كراهية بيع الشاة المذبوحة قبل السلخ ; لأن أبا يوسف يجيز بيعها كذلك ، ويرى السلخ على البائع ، وأجاز بيع الطعام في سنبله ، وجعل على البائع تخليصه من تبنه وتمييزه ، والذي حكى الشافعي عليه الجمهور .

وذكر ابن وهب في موطئه عن مالك أنه سئل عن الدالية تكون على واحدة فيطيب منها العنقود والعنقودان فقال مالك : إذا كان طيبه متتابعا فاشيا فلا بأس بذلك قال : ، وربما أزهى بعض الثمر واستأخر بعضه جدا فهو الذي يكره . قال : وسئل مالك عن الرجل يبتاع الحائط فيه أصناف من الثمر قد طاب بعضه ، وبعضه لم يطب فقال : ما يعجبني قال : وسئل مالك عن بيع الأعناب والفواكه من الثمار فقال : إذا طاب أولها وأمن عليها العاهة فلا بأس ببيعها قال : وسئل عن الحائط الذي تزهي فيه أربع نخلات أو خمس ، وقد تعجل زهوه قبل الحوائط أترى أن تباع ثمرته ؟ قال : نعم لا بأس به ، وإن [ ص: 302 ] تعجل قبل الحوائط قال : وسئل عن الحائط ليس فيه زهو ، وما حوله قد أزهى أترى أن تباع ثمره وليس فيه زهو ؟ قال : نعم لا أرى به بأسا إذا كان الزمن قد أمنت فيه العاهات فأزهت الحوائط حوله ، وإن لم يزه هذا ; لأن منها ما يتأخر قال : وسئل عن الرجل يبيع الثمار من النخيل والأعناب بعد أن تطيب على من سقيها فقال : سقيها على البائع قال : ولولا أن السقي على البائع ما اشتراه المشتري قال : وقال مالك : توضع الجائحة في الثمرة إذا كانت من قبل الماء قليلة كانت أو كثيرة ، وإن كانت أقل من الثلث قال : وليس الماء كغيره ; لأن ما جاء من قبل الماء فكأنه جاء من قبل البائع .

وقال الشافعي : لو كان لرجل حائط آخر فأزهى حائط جاره إلى جنبه ، فأزهى حائط جاره إلى جنبه ، وبدا صلاحه حل بيعه ، ولم يحل بيع هذا الحائط الذي لم يبد صلاح أوله ، قال : وأقل ذلك أن تزهي في شيء منه الحمرة أو الصفرة ، ويؤكل شيء منه .

قال أبو عمر : قد مضى القول في هذا الباب مستوعبا ، وفي الجائحة فيه ، وفي أكثر معانيه في باب حميد الطويل من كتابنا هذا ، وجرى منه ذكر صالح في باب أبي الرجال منه أيضا ، وذكرنا منه هاهنا ما لم يقع ذكره في ذينك البابين .

[ ص: 303 ] وأما الآثار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب فمختلفة الألفاظ متفقة المعاني متقاربة الحكم ، بعضها فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها ، وفي بعضها حتى تطعم ، وفي بعضها حتى تزهي ، وفي بعضها حتى تحمر وتصفر ، وفي بعضها حتى تشقح ، ومعنى تشقح عندهم تحمر أو تصفر ويؤكل منها ، وفي بعضها طلوع الثريا ، وهي ثابتة محفوظة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث ابن عمر وأبي هريرة وجابر وابن عباس وأبي سعيد الخدري ، وغيرهم .

ولا خلاف بين العلماء أن جميع الثمار داخل في معنى تمر النخل ، وأنه إذا بدا صلاحه ، وطاب أوله حل بيعه ، وإنما اختلف مالك والشافعي في الحائط إذا أزهى غيره قربه ، ولم يزه هو ، هل يحل بيعه ؟ على ما ذكرنا عنهما ، وقد روي عن مالك مثل قول الشافعي ، والأول عنه أشهر .

وتحصيل مذهب مالك في ذلك أن الزمن إذا جاء منه ما يؤمن معه على الثمار العاهة ، وبدا صلاح جنس ونوع منها جاز بيع ذلك الجنس ، والنوع حيث كان من تلك البلدة ، وكان يلزم الشافعي أن يقول مثل قول مالك هذا ، قياسا على قوله في الحائط إذا تأخر إباره وأبر غيره ، فإنه راعى الوقت في ذلك دون الحائط ، وراعى في بيع الثمار الحائط بنفسه ، وهو أمر متقارب واحد منهما وجه تدل عليه ألفاظ الأحاديث لمن تدبرها ، وذلك واضح يغني عن القول فيه .

[ ص: 304 ] حدثنا أحمد بن قاسم ، وعبد الوارث بن سفيان قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال : حدثنا روح قال : حدثنا زكرياء بن إسحاق قال : حدثنا عمرو بن دينار أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها .

حدثنا خلف بن القاسم قال : حدثنا عبد الله بن محمد الخصيبي قال : حدثنا جعفر بن محمد بن الحسن الفريابي قال : حدثنا حامد بن يحيى البلخي بطرطوس سنة ثلاث وثلاثين ( ومائتين ) قال : أنبأنا عبد الله بن الحارث المخزومي قال : حدثنا شبل بن عباد المكي عن عمرو بن دينار عن جابر بن عبد الله ، وابن عباس ، وابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها .

وحدثنا عبد الله بن محمد ( قال ) : حدثنا محمد بن بكر ( قال ) : حدثنا سليمان بن الأشعث ( قال ) : حدثنا أبو بكر محمد بن خلاد الباهلي قال : حدثنا يحيى بن سعيد عن سليمان بن حبان عن سعيد ( بن ) مينا قال : [ ص: 305 ] سمعت جابر بن عبد الله يقول : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تباع الثمرة حتى تشقح ، قيل : وما تشقح ؟ قال : تحمار وتصفار ويؤكل منها .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، وسعيد بن نصر قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا إسماعيل بن إسحاق قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم قال : حدثنا هشام الدستوائي قال : حدثنا أبو الزبير عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع النخل حتى تطعم .

ويجوز عند مالك ، وأصحابه بيع المغيب في الأرض نحو الفجل والجزر واللفت حين يبدو صلاحه ويؤكل منه ، ويكون ما قام منه ليس بفساد ، وكذلك البقول يجوز فيها بيعها إذا بدا صلاحها وأكل منها ، وكان ما قلع منها ليس بفساد ، ولا يجوز عند الشافعي بيع شيء مغيب في الأرض حتى يقلع وينظر إليه .

وجائز عند أبي حنيفة بيع الفجل والجزر والبصل ونحوه مغيبا في الأرض ، وله الخيار إذا قلعه ورآه .

[ ص: 306 ] هذا إذا قلعه البائع فإن خلى بينه ، وبين المشتري فقلعه المشتري فلم يرضه فإن كان القلع لم ينقصه فله الخيار ، وإن كان نقصه القلع بطل خيار الرؤية ، ولا خلاف بين العلماء في بيع الثمار والبقول والزرع على القلع ، وإن لم يبد صلاحه إذا نظر إلى المبيع منه وعرف قدره .




الخدمات العلمية