الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1220 [ ص: 50 ] [ ص: 51 ] حديث سابع وأربعون لنافع ، عن ابن عمر

مالك ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر أنه طلق امرأته ، وهي حائض على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأل عمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : مره فليراجعها ، ثم يمسكها حتى تطهر ، ثم تحيض ، ثم تطهر ، ثم إن شاء أمسك ، وإن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء .

[ ص: 75 ]

التالي السابق


هذا حديث مجتمع على صحته من جهة النقل ، ولم يختلف أيضا في ألفاظه عن نافع ، وقد رواه عنه جماعة أصحابه كما رواه مالك سواء قالوا فيه : حتى تطهر ، ثم تحيض ، ثم تطهر ، ثم [ ص: 52 ] إن شاء طلق قبل أن يجامع ، وإن شاء أمسك فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء .

وممن قال ذلك ، أيوب وعبيد الله بن عمر ، وابن جريج بن سعد ومحمد بن إسحاق ويحيى بن سعيد كلهم ، عن نافع ، عن ابن عمر ، وكذلك رواه الزهري ، عن سالم ، عن ابن عمر لم يختلفوا أيضا عليه فيه مثل رواية نافع سواء حتى تطهر ، ثم تحيض ، ثم تطهر . الحديث .

وكذلك رواه عطاء الخراساني ، عن الحسن ، عن ابن عمر سواء مثل رواية نافع والزهري ، قاله أبو داود .

( قال أبو عمر : وكذلك رواه علقمة ، عن ابن عمر ) ، ورواه يونس بن جبير وعبد الرحمن بن أيمن ، وأنس ابن سيرين ، وسعيد بن جبير ، وزيد بن أسلم ، وأبو الزبير كلهم عن ابن عمر بمعنى واحد أن النبي - عليه السلام - أمره أن يراجعها حتى تطهر ، ثم إن شاء طلق ، وإن شاء أمسك ، لم يذكروا : ثم تحيض ، ثم تطهر .

قال أبو داود : وكذلك رواه عن أبي وائل ، عن ابن عمر .

[ ص: 53 ] وكذلك أيضا رواه محمد بن عبد الرحمن ، عن سالم ، عن ابن عمر لا أنه زاد ذكر الحامل ، وذهب إلى هذا طائفة من أهل العلم منهم أبو حنيفة ، وبه قال المزني قالوا : إنما أمر المطلق في الحيض بالمراجعة ، لأنه كان طلاقا خطأ فأمر أن يراجعها ليخرجها من أسباب الطلاق الخطأ ، ثم يتركها حتى تطهر من تلك الحيضة ، ثم يطلقها طلاقا صوابا إن شاء طلاقها ، ولم يروا للحيضة الأخرى بعد ذلك معنى على ظاهر ما روى هؤلاء .

قال أبو عمر : للحيضة الثانية والطهر الثاني وجوه عند أهل العلم منها : أن المراجعة لا تكاد تعلم صحتها إلا بالوطء ، لأنه المبتغى من النكاح في الأغلب فكان ذلك الطهر موضعا للوطء ( الذي ) تستيقن به المراجعة ، فإذا مسها لم يكن له سبيل إلى طلاقها في طهر قد مسها فيه لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : وإن شاء طلق قبل أن يمس ، ولإجماعهم على أن المطلق في طهر قد مس فيه ليس بمطلق للعدة كما أمر الله سبحانه فقيل له : دعها حتى تحيض أخرى ، ثم تطهر ، ثم طلق إن شئت قبل أن تمس ، وقد جاء هذا المعنى [ ص: 54 ] منصوصا في هذا الحديث ، حدثناه عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا إبراهيم بن عبد الرحيم ، قال : حدثنا معلى بن عبد الرحمن الواسطي ، قال : حدثنا عبد الحميد بن جعفر ، قال : حدثني نافع ومحمد بن قيس ، عن عبد الله بن عمر أنه طلق امرأته ، وهي في دمها حائض فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يراجعها ، فإذا طهرت مسها حتى إذا طهرت أخرى ، فإن شاء طلقها ، وإن شاء أمسكها ، وقد قال بعض أصحابنا : إن الذي يمس في الطهر إنما نهي عن الطلاق فيه ، لأنها لا تدري أعدة حامل تعتد أم عدة حائل ؟ .

قال أبو عمر : قد جاء في هذا خبر كفانا انتحال التعليل والنظر ذكره عبد الرزاق ، عن عمه وهب بن نافع ، قال : حدثني عكرمة ، عن ابن عباس أنه سمعه يقول : الطلاق الحلال أن يطلقها طاهرا من غير جماع ، أو يطلقها حاملا مستبين حملها ، وأما الطلاق الحرام ، فأن يطلقها حائضا ، أو يطلقها حين يجامعها ، فلا تدري ، أيشتمل الرحم على ولد أم لا ، وأما الطلاق فقد قيل فيه ما ذكرنا وقيل إن المطلق في الحيض إنما أمر [ ص: 55 ] بالمراجعة ليستباح بالرجعة طلاق السنة ، فإذا لم يحقق الرجعة بالوطء لم يكن لها معنى ، وقيل إنما نهي عن الطلاق في الحيض لئلا تطول عدة المرأة وأمره بمراجعتها لوقوع طلاقه فاسدا ، ثم لم يجز أن يباح له طلاقها في الطهر الذي يلي تلك الحيضة ، لأنه لو أبيح له أن يطلقها إذا طهرت من تلك الحيضة كانت في معنى المطلقة قبل الدخول ، وكانت تبني على عدتها الأولى ، فأراد الله أن ينقطع حكم الطلاق الأول بالوطء ، فإذا وطئها في الطهر لم يتهيأ له أن يطلقها فيه حتى تحيض ، ثم تطهر ، فإذا طلقها بعد ذلك استأنفت عدتها من ذلك الوقت ، ولم تبن وقيل إنه لما طلق في وقت لم يكن له أن يطلق فيه أدب بأن منع الطلاق في وقت كان له أن يوقعه فيه .

وقد قيل إن الطهر الثاني جعل للإصلاح الذي ، قال الله - عز وجل - : وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا ، لأن حق المرتجع أن لا يرتجع رجعة ضرر لقوله : ولا تمسكوهن ضرارا . [ ص: 56 ] قالوا : فالطهر الأول جعل للإصلاح ، وهو الوطء ، ثم لم يجز أن يطلق في طهر وطئ فيه لما ذكرنا ، وقد قيل إنه لو أبيح له أن يطلقها بعد الطهر من تلك الحيضة كان كأنه قد أمر بأن يراجعها ليطلقها فأشبه النكاح إلى أجل ونكاح المتعة ، فلم يجعل له ذلك حتى يطأ ( هذا كله مذهب الحجازيين الذين يذهبون إلى أن الأقراء الأطهار ) ، وفي هذه المسألة وجوه كثيرة واعتلالات للمخالفين المطلوب ذكرها .

واستدل قوم على أن الطلاق للعدة والسنة يكون ثلاثا مفترقات بهذا الحديث قالوا : طلاق السنة أن يكون بين كل تطليقتين حيضة لقوله : ثم تحيض ، ثم تطهر ، ثم إن شاء طلق ، وكانوا يستحبون أن يطلق الرجل امرأته في كل طهر تطليقة ، وسنذكر ما للعلماء في كيفية الطلاق للسنة ، وما أجمعوا عليه من ذلك ، وما اختلفوا فيه منه في هذا الباب - إن شاء الله - .

وفي هذا الحديث من الفقه أن الطلاق مباح ، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما كره له ذلك الطلاق ، لأنه طلق امرأته في الحيض فأمره بمراجعتها من ذلك والمطلق [ ص: 57 ] في الحيض مطلق لغير العدة ، والله - عز وجل - يقول : إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وقرئ ( فطلقوهن لقبل عدتهن ) ، وكذلك كان يقرأ ابن عمر ، وغيره ، ولو طلقها لعدتها في طهر لم يمسها فيه لم يكره له ذلك ألا ترى إلى قوله في هذا الحديث : ثم إن شاء طلق ، وإن شاء أمسك ، وهذا غاية في الإباحة والقرآن ورد بإباحة الطلاق وطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعض نسائه ، وهو أمر لا خلاف فيه .

وفيه أن الطلاق في الحيض مكروه وفاعله عاص لله - عز وجل - إذا كان عالما بالنهي عنه والدليل على أنه مكروه ، وإن كان شيئا لا خلاف فيه أيضا - والحمد لله - تغيظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ابن عمر حين طلق امرأته حائضا .

أخبرنا عبد الله بن محمد ، حدثنا محمد بن بكر ، حدثنا أبو داود ، حدثنا أحمد بن صالح ، حدثنا عنبسة ، حدثنا يونس ، عن ابن شهاب ، قال : أخبرني سالم بن عبد الله ، عن أبيه أنه طلق امرأته وهي حائض ، فذكر ذلك عمر لرسول الله [ ص: 58 ] - صلى الله عليه وسلم - فتغيظ رسول الله ، ثم قال : مره فليراجعها ، ثم ليمسكها حتى تطهر ، ثم تحيض فتطهر ، ثم إن شاء طلقها طاهرا قبل أن يمسها فذلك الطلاق للعدة كما أمره الله .

وفيه أن الطلاق في الحيض لازم لمن أوقعه ، وإن كان فاعله قد فعل ما كره له إذ ترك وجه الطلاق وسنته ، والدليل على أن الطلاق لازم في الحيض أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابن عمر بمراجعة امرأته إذ طلقها حائضا والمراجعة لا تكون إلا بعد لزوم الطلاق ، ولو لم يكن الطلاق في الحيض واقعا ، ولا لازما ما قال له : راجعها ، لأن من لم يطلق ، ولم يقع عليها طلاق لا يقال فيه راجعها ، لأنه محال أن يقال لرجل امرأته في عصمته لم يفارقها راجعها ألا ترى إلى قول الله - عز وجل - : في المطلقات وبعولتهن أحق بردهن في ذلك ولم يقل هذا في الزوجات اللاتي لم يلحقهن الطلاق ، وعلى هذا جماعة فقهاء الأمصار وجمهور علماء المسلمين ، وإن كان الطلاق عند جميعهم في الحيض بدعة غير سنة ، فهو لازم عند جميعهم ، ولا مخالف في ذلك إلا أهل البدع [ ص: 59 ] والضلال والجهل ، فإنهم يقولون : إن الطلاق لغير السنة غير واقع ، ولا لازم ، وروي مثل ذلك عن بعض التابعين ، وهو شذوذ لم يعرج عليه أهل العلم من أهل الفقه ، والأثر في شيء من أمصار المسلمين لما ذكرنا ولأن ابن عمر الذي عرضت له القضية احتسب بذلك الطلاق وأفتى بذلك ، وهو ممن لا يدفع علمه بقصة نفسه ، ومن جهة النظر قد علمنا أن الطلاق ليس من الأعمال التي يتقرب بها إلى الله - عز وجل - ، فلا تقع إلا على حسب سنتها ، وإنما هو زوال عصمة فيها حق لآدمي فكيفما أوقعه وقع ، فإن أوقعه لسنة هدي ، ولم يأثم ، وإن أوقعه على غير ذلك أثم ، ولزمه ذلك ، ومحال أن يلزم المطيع ، ولا يلزم العاصي ، ولو لزم المطيع الموقع له إلا على سنته ، ولم يلزم العاصي لكان العاصي أخف حالا من المطيع ، وقد احتج قوم من أهل العلم بأن الطلاق في الحيض لازم لقول الله - عز وجل - : ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه يريد أنه عصى ربه وفارق امرأته وحسبك بابن عمر فقد أنكر على من ظن أنه لا يحتسب بالطلاق في الحيض : حدثنا سعيد بن نصر وعبد الوارث بن سفيان قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : [ ص: 60 ] حدثنا إسماعيل بن إسحاق ومحمد بن الهيثم أبو الأحوص قالا : حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا حماد ، عن ، أيوب وسلمة بن علقمة ، عن محمد ، عن أبي غلاب ، قال : سألت ابن عمر ، عن رجل طلق امرأته ، وهي حائض ، فقال : تعرف عبد الله بن عمر ، فإنه طلق امرأته ، وهي حائض فسأل عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فأمره أن يراجعها قلت أتحتسب بها ، قال : فمه إن عجز واستحمق ومحمد هذا هو محمد ابن سيرين ، وأبو غلاب هذا هو يونس بن جبير : حدثنا عبد الوارث بن سفيان قراءة مني عليه أن قاسم بن أصبغ حدثهم ، قال بكر بن حماد : قال : حدثنا مسدد ، قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن محمد ابن سيرين ، عن يونس بن جبير ، قال : سألت ابن عمر قلت رجل طلق امرأته ، وهي حائض ، فقال : تعرف ابن عمر ، فإنه طلق امرأته ، وهي حائض فسأل عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمره أن يراجعها قلت : فتعتد الطلقة ؟ قال : فمه أرأيت إن عجز واستحمق ؟ هكذا قال مسدد : عن حماد ، عن أيوب ، عن محمد ابن سيرين لم يذكر سلمة بن علقمة .

[ ص: 61 ] وأخبرنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا القعنبي قال : حدثنا يزيد بن إبراهيم ، عن محمد ابن سيرين ، قال : حدثني يونس بن جبير ، قال : سألت عبد الله بن عمر قال : قلت : رجل طلق امرأته ، وهي حائض ، فقال : تعرف عبد الله بن عمر قال : قلت : نعم ، قال : فإن عبد الله بن عمر طلق امرأته ، وهي حائض فأتى عمر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأله ، فقال : مره فليراجعها ، ثم ليطلقها في قبل عدتها ، قال : قلت : فتعتد بها ؟ قال : فمه أرأيت إن عجز واستحمق ؟ .

أخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا أبو قلابة ، قال : حدثنا بشر بن عمر قال : حدثنا شعبة ، عن أنس ابن سيرين ، عن ابن عمر قال : طلقت امرأتي ، وهي حائض فأتى عمر النبي - عليه السلام - ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - مره فليراجعها ، ثم ليطلقها إن شاء ، فقال أنس أتعتد الطلقة ؟ قال : نعم ، وقد سمع هذا الحديث أنس ابن سيرين من ابن عمر منه محمد ابن سيرين : [ ص: 62 ] حدثنا خلف بن سعيد ، حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا أحمد بن خالد ، حدثنا علي بن عبد العزيز ، وحدثناه عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن إجازة ، قال : حدثنا أحمد بن إبراهيم بن جامع ، قال : حدثنا علي بن عبد العزيز ، حدثنا حجاج بن منهال ، قال : حدثنا شعبة ، قال : أخبرني أنس ابن سيرين ، قال : سمعت ابن عمر يقول : طلق ابن عمر امرأته ، وهي حائض ، فذكر ذلك عمر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : ليراجعها ، فإذا طهرت فليطلقها ، قال : قلت : أفتحتسب بها ؟ قال : فمه .

ومعنى قوله هذا : فمه أرأيت إن عجز ، أو استحمق ؟ أي ، فأي شيء يكون إذا لم يعتد بها إنكارا منه لقول أنس أفتعتد بها ؟ فكأنه - والله أعلم - قال : وهل من ذلك بد أن تعتد بها ؟ أرأيت لو عجز ؟ بمعنى تعاجز عن فرض آخر من فرائض الله ، فلم يقمه ، أو استحمق ، فلم يأت به أكان يعذر فيه ؟ ونحو هذا من القول والمعنى ، والدليل على أنه قد اعتد بها ورآها لازمة له أنه كان يفتي أن من طلق امرأته [ ص: 63 ] ثلاثا في الحيض لم تحل له ، ولو جاز أن تكون الطلقة الواحدة في الحيض لا يعتد بها لكانت الثلاث أيضا لا يعتد بها ، وهذا ما لا إشكال فيه عند كل ذي فهم .

أخبرنا أحمد بن محمد ، وخلف بن أحمد قالا : حدثنا أحمد بن مصرف ، قال : حدثنا عبيد الله بن يحيى ، عن أبيه ، عن الليث بن سعد ، عن نافع أن عبد الله بن عمر طلق امرأته ، وهي حائض تطليقة واحدة فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يراجعها ، ثم يمسكها حتى تطهر ، ثم تحيض أخرى ، ثم يمهلها حتى تطهر من حيضتها ، فإذا أراد أن يطلقها فليطلقها حين تطهر من قبل أن يجامعها فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء . قال : وكان عبد الله بن عمر إذا سئل عن ذلك قال لأحدهم : إذا أنت طلقت امرأتك ، وهي حائض مرة ، أو مرتين ، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بهذا ، وإن كنت طلقتها ثلاثا فقد حرمت عليك حتى تنكح زوجا غيرك ، وعصيت الله فيما أمرك به من طلاق امرأتك .

وروى الشافعي قال : أخبرنا مسلم بن خالد ، عن ابن جريج أنهم أرسلوا إلى نافع يسألونه هل حسبت تطليقة [ ص: 64 ] ابن عمر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال : نعم .

وحدثنا خلف بن قاسم ، حدثنا عبد الله بن محمد بن المفسر ، حدثنا أحمد بن علي بن سعيد القاضي المروزي ، حدثنا أبو السائب ، حدثنا ابن إدريس ، عن عبيد الله بن عمر ويحيى بن سعيد ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : طلقت امرأتي ، وهي حائض فأتى عمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فذكر ذلك له ، قال : مره فليراجعها حتى تطهر ، ثم تحيض ، ثم تطهر ، ثم إن شاء طلقها قبل أن يجامعها ، وإن شاء أمسك ، فإنها العدة التي قال الله - عز وجل - .

قال عبيد الله : فقلت لنافع : ما فعل بتلك التطليقة ؟ قال : اعتد بها .

فهذه الآثار كلها توضح لك ما قلنا عن ابن عمر ، وفي قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : مره فليراجعها دليل على أنها طلقة ، لأنه لا يؤمر بالمراجعة إلا لمن لزمته الطلقة ، [ ص: 65 ] ولو لم تلزمه لقال : دعه ، فليس هذا بشيء ، أو نحو هذا ، وقد روي عن ابن عمر في هذا خبر ظاهره على خلاف ما ذكرناه وليس كذلك لما وصفنا .

أخبرنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا أحمد بن صالح ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : أخبرني أبو الزبير أنه سمع عبد الرحمن بن أيمن مولى عروة يسأل ابن عمر ، وأبو الزبير يسمع ، قال : كيف ترى في رجل طلق امرأته حائضا ؟ قال : طلق عبد الله بن عمر امرأته ، وهي حائض ، قال عبد الله : فردوها علي ، ولم يرها شيئا ، قال : وإذا طهرت فليطلق ، أو ليمسك .

قال أبو عمر : وقرأ النبي - عليه السلام - يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن .

روى أبو عاصم النبيل هذا الحديث عن ابن جريج ، فلم يقل فيه ، ولم يرها شيئا .

قال أبو عمر : قوله في هذا الحديث : ولم يرها شيئا منكر عن ابن عمر لما ذكرنا عنه أنه اعتد بها ، ولم يقله أحد [ ص: 66 ] عنه غير أبي الزبير ، وقد رواه عنه جماعة جلة ، فلم يقل ذلك واحد منهم ، وأبو الزبير ليس بحجة فيما خالفه فيه مثله ، فكيف بخلاف من هو أثبت منه ؟ ولو صح لكان معناه - عندي - والله أعلم - ، ولم يرها على استقامة ، أي ولم يرها شيئا مستقيما لأنه لم يكن طلاقه لها على سنة الله وسنة رسوله ، هذا أولى المعاني بهذه اللفظة إن صحت ، وكل من روى هذا الخبر من الحفاظ لم يذكروا ذلك وليس من خالف الجماعة الحفاظ بشيء فيما جاء به ، وقد احتج بعض من ذهب إلى أن الطلاق في الحيض لا يقع ، وأن المطلق لا يعتد التطليقة بما روي عن الشعبي أنه قال : إذا طلق الرجل امرأته ، وهي حائض لم يعتد بها في قول ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا من الشعبي إنما معناه لا يعتد الحيضة في العدة ، ولم يرد لا يعتد التطليقة ، وقد روي عنه ذلك منصوصا رواه شريك ، عن جابر ، عن عامر في رجل طلق امرأته ، وهي حائض ، قال : يقع عليه الطلاق ، ولا يعتد الحيضة .

واختلف العلماء في أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المطلق في الحيض بالمراجعة ، فقال قوم : عوقب بذلك ، لأنه [ ص: 67 ] تعدى ما أمر به ، ولم يطلق للعدة فعوقب بإمساك من لم يرد إمساكه حتى يطلق كما أمر للعدة ، وقال آخرون : إنما أمر بذلك قطعا للضرر في التطويل عليها ، لأنه إذا طلقها في الحيض فقد طلقها في وقت لا تعتد به من قرئها الذي تعتد به فتطول عدتها فنهي عن أن يطول عليها وأمر أن لا يطلقها إلا عند استقبال عدتها .

واختلف الفقهاء في المطلق زوجته ، وهي حائض هل يجبر على رجعتها أم لا ؟ فقال الشافعي ، وأبو حنيفة ، وأصحابهما والثوري ، والأوزاعي ، وابن أبي ليلى وأحمد بن حنبل ، وأبو ثور والطبري يؤمر برجعتها إذا طلقها حائضا ، ولا يجبر على ذلك وقال مالك ، وأصحابه يجبر على مراجعتها إذا طلقها في الحيض ، أو في دم النفاس ، وهو أولى لما يقتضيه الأمر من وجوب الائتمار واستعمال المأمور ما أمر به حتى يخرجه ، عن جبر الوجوب دليل ، ولا دليل هاهنا على ذلك - والله أعلم - .

وقال داود بن علي : كل من طلق امرأته حائضا أجبر على رجعتها ، وإن طلقها نفساء لم يجبر على رجعتها ، وهذا إذا طلقها واحدة ، أو اثنتين عند جميعهم وجملة قول مالك ، وأصحابه في هذه المسألة أن الحائض والنفساء لا يجوز طلاق واحدة منهما حتى تطهر ، فإن طلقها زوجها في دم حيض ، أو دم نفاس [ ص: 68 ] طلقة ، أو طلقتين لزمه ذلك وأجبر على الرجعة أبدا ما لم تخرج من عدتها وسواء أدرك ذلك في تلك الحيضة التي طلق فيها ، أو الطهر الذي بعده ، أو الحيضة الثانية ، أو الطهر بعدها إذا كان طلاقه في الحيض يجبر على رجعتها أبدا في ذلك كله ما لم تنقض العدة . هذا قول مالك ، وأصحابه إلا أشهب بن عبد العزيز ، فإنه قال : يجبر على الرجعة ما لم تطهر ( وحتى تحيض ، ثم تطهر ) ، فإذا صارت في الحال التي أباح له النبي - صلى الله عليه وسلم - طلاقها لم يجبر على رجعتها ، ولا خلاف بينهم أعني مالكا ، وأصحابه أن المطلق في الحيض إذا أجبر على الرجعة وقضي بذلك عليه ، ثم شاء طلاقها أنه لا يطلقها في ذلك الحيض ولكن يمهل حتى تطهر ، ثم تحيض ، ثم تطهر ، ثم إن شاء حينئذ طلق ، وإن شاء أمسك على ما في الحديث ، ولا يطلقها بعد طهرها من ذلك الدم الذي ارتجعها فيه بالقضاء ، فإن فعل لزمه ، ولا يؤمر هاهنا ، ولا يجبر على الرجعة إلا ما ذكرنا ، عن أشهب أنه قال : يجبر على الرجعة ما لم يخرج إلى الطهر الثاني ، قال : كيف أجبره على الرجعة في موضع له أن يطلق فيه ، وقال الليث بن سعد : إذا أجبرته على [ ص: 69 ] الرجعة فطهرت من تلك الحيضة لم أمنعه من الوطء حتى تحيض ، ثم تطهر فيطلق قبل المسيس .

قال أبو عمر : لم يختلف العلماء كلهم أن الرجل إذا طلق في طهر قد مس فيه أنه لا يجبر على الرجعة ، ولا يؤمر بها ، وإن كان طلاقه قد وقع على غير سبيل السنة وطلاق السنة هو الطلاق الذي أذن الله فيه للعدة كما قال في كتابه : فطلقوهن لعدتهن .

وأجمع العلماء على أن من طلق امرأته ، وهي طاهر طهرا لم يمسها فيه ( بعد أن طهرت من حيضتها ) طلقة واحدة ، ثم تركها حتى تنقضي عدتها ، أو راجعها مراجعة رغبة أنه مطلق للسنة ، وأنه قد طلق للعدة التي أمر الله بها .

واختلفوا فيمن طلق امرأته ثلاثا مجتمعات في طهر لم يمسها فيه ، أو أردفها في كل طهر من الأطهار التي يعتد بها في عدتها تطليقة بعد أن طلقها واحدة في طهر لم يمسها فيه هل هو بهذين الفعلين ، أو بأحدهما مطلق للسنة أم لا ؟ فقال مالك ، وأصحابه طلاق السنة أن يطلق طلقة في طهر لم يمس [ ص: 70 ] فيه ، ولو كان في آخر ساعة منه ، ثم يمسها حتى تنقضي عدتها وذلك بظهور أول الحيضة الثالثة في الحرة ، أو الحيضة الثانية في الأمة فيتم للحرة ثلاثة أقراء وللأمة قرآن والقرء الطهر المتصل بالدم عندهم ، فإن طلقها في كل طهر تطليقة ، أو طلقها ثلاثا مجتمعات في طهر لم يمسها فيه فقد لزمه وليس بمطلق للسنة عند مالك وجمهور أصحابه ، وهو قول الأوزاعي وأبي عبيد ، وقال أشهب : لا بأس أن يطلقها في كل طهر تطليقة ما لم يرتجعها في خلال ذلك ، وهو يريد أن يطلقها ثانية ، فلا يسعه ذلك لأنه المطلوب العدة عليها ، فإذا لم يرتجعها ، فلا بأس أن يطلقها في كل طهر مرة ، وعلى هذا يخرج ما رواه يحيى بن يحيى في الموطأ في تفسير قراءة ابن عمر ( يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لقبل عدتهن ) ، قال يحيى : قال مالك : يريد بذلك أن يطلق الرجل امرأته في كل طهر ، وهذا التفسير لم يروه أحد عن مالك في يحيى - والله أعلم - .

[ ص: 71 ] قال أبو عمر : قول مالك في طلاق السنة إجماع لا اختلاف فيه أنه طلاق السنة الذي أمر الله - عز وجل - به للعدة يوافقه على ذلك غيره ، وهو لا يوافق غيره على أقوالهم في طلاق السنة ويعضد قوله من جهة النظر أن المطلق في كل طهر تطليقة تقع بعض طلاقه بغير عدة كاملة بل يقع طلاقه كله بغير عدة كاملة ، لأن كل طلقة إنما تكون واحدة وليس شأن الطلاق أن يعتد منه بحيضة واحدة بل الواجب أن تكون ثلاثة قروء لكل طلقة ، وأن تستقبل العدة بالطلاق لقوله : فطلقوهن لعدتهن ، أو ( لقبل عدتهن ) ، وكل طلاق يوجب العدة الكاملة ، فهو بخلاف ما أمر الله به من الطلاق للعدة على ظاهر الخطاب ، فإن جعلت الثلاثة قروء للطلقة الأولى كانت الثانية والثالثة بغير أقراء تعتد بها ومعلوم أن الطلقة الثانية بقرءين والطلقة الثالثة بقرء واحد ، وهذا خلاف حكم العدة في المطلقات .

وقال أحمد بن حنبل : طلاق السنة أن يطلقها طاهرا من غير جماع واحدة ويدعها حتى تنقضي عدتها ، قال : ولو طلقها ثلاثا في طهر لم يصبها فيه كان أيضا مطلقا للسنة ، وكان [ ص: 72 ] تاركا للاختيار ، وقال سفيان الثوري ، وأبو حنيفة وسائر أهل الكوفة : من أراد أن يطلق امرأته ثلاثا للسنة طلقها حين تطهر من حيضتها قبل أن يجامعها طلقة واحدة ، ثم يدعها حتى تحيض ، ثم تطهر ، فإذا طهرت وطلقها ثالثة حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره وتبقى عليها عندهم من عدتها حيضة ، لأن الأقراء عندهم الحيض ، ومن فعل هذا عندهم ، فهو مطلق للسنة .

وقال مالك ، ، والأوزاعي ، وأبو عبيد القاسم بن سلام ليس هذا بمطلق للسنة وليس عندهم المطلق للسنة إلا من طلق على الوجه الأول الذي حكينا ، عن مالك ، وأصحابه حاشا أشهب ، وقال الشافعي ، وأصحابه ، وأبو ثور وأحمد بن حنبل وداود بن علي ليس في عدد الطلاق سنة ، ولا بدعة ، وإنما السنة في وقت الطلاق ، فإذا أراد الرجل أن يطلق امرأته للسنة أمهلها حتى تحيض ، ثم تطهر ، فإذا طهرت طلقها من قبل أن يجامعها كما شاء إن شاء واحدة ، وإن شاء اثنتين ، وإن شاء ثلاثا ، أي ذلك فعل ، فهو مطلق للسنة .

وأجمع العلماء أن طلاق السنة إنما هو في المدخول بها وأما غير المدخول بها ، فليس في طلاقها سنة ، ولا بدعة ، وإن أمر الله - عز وجل - ومراد رسوله - صلى الله عليه وسلم - في الطلاق للعدة هو طلاق [ ص: 73 ] المدخول بها من النساء فأما غير المدخول بها ، فلا عدة عليهن ، ولا سنة ، ولا بدعة في طلاقهن ، قال الله - عز وجل - : ياأيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها الآية .

ويطلق غير المدخول بها زوجها في كل وقت متى شاء من الطلاق واحدة وأكثر إلا أنه إن طلق عند مالك وأصحابه غير المدخول بها ثلاثا لزمه ، وهو عندهم عاص في فعله ، وقال أشهب : لا يطلقها ، وإن كانت غير مدخول بها حائضا .

وقال ابن القاسم : يطلقها متى شاء ، وإن كانت حائضا ، وعليه الناس .

قال أبو عمر : من حجة من قال : إن الطلاق لا يكون للسنة في المدخول بها إلا واحدة ، ولا تكون الثلاث المجتمعات للسنة على حال من الأحوال قول الله - عز وجل - : الطلاق مرتان ، ثم قال : فإن طلقها فلا تحل له من بعد ومرتان لا تكونان إلا في وقتين والثلاث في ثلاث أوقات .

[ ص: 74 ] ودليل آخر ، وهو قول الله - عز وجل - : إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن إلى قوله : لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ، فأي أمر يحدث بعد الثلاث والأمر إنما أريد به المراجعة ، ومن الأثر ما قرأته على عبد الوارث بن سفيان أن قاسم بن أصبغ حدثهم ، قال : حدثنا محمد بن عبد السلام ، قال : أخبرنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله ، قال : طلاق العدة أن يطلقها ، وهي طاهر ، ثم يدعها حتى تنقضي عدتها ، أو يراجعها إن شاءت ، ومثل هذا لا يطلقه ابن مسعود برأيه ويشبه أن يكون توقيفا مع دلالة القرآن عليه بقوله : لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ، وهي الرجعة عند أهل العلم ، ولا سبيل إليها مع الثلاث فبطل أن يكون وقوع الثلاث السنة ، ومن حجة الشافعي ، ومن قال بقوله في أن الثلاث إذا وقعت في طهر لا جماع فيه ، فهو أيضا طلاق السنة قول الله - عز وجل - عند ذكر ما أباحه من طلاق النساء للعدة إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وقرئ لقبل عدتهن ، أي لاستقبال عدتهن .



[ ص: 75 ] وإذا طلقت في طهر لم تمس فيه فهي مستقبلة عدتها من يومئذ وسواء طلقت واحدة ، أو أكثر لا يمنعها إيقاع أكثر من واحدة من ذلك واستدلوا على جواز وقوع أكثر من واحدة بقوله - عز وجل - : أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ، وهذا فيمن قيل فيهن في أول السورة فطلقوهن لعدتهن ، ثم قال : ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن ، وهذا لا يكون إلا في المبتوتات ، لأن غير المبتوتة ممن عليها الرجعة ينفق عليها حاملا ، وغير حامل فعلم بهذا أن قوله : لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا راجع إلى بعض ما انتظمه الكلام ، وهي التي لم يبلغ بطلاقها ثلاثا كما أن قوله : والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء قد عم المطلقات ذوات الأقراء وقوله في نسق الآية فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن راجع إلى من لم يبلغ بطلاقها الثلاث ، وفي ذلك إباحة إيقاع ما شاء المطلق من الطلاق .

وظاهر حديث ابن عمر يشهد بهذا لأن النبي - عليه السلام - [ ص: 76 ] أقره أن يراجع امرأته ، ثم يمهلها حتى تطهر ، ثم تحيض ، ثم تطهر ، ثم إن شاء طلق ، وإن شاء أمسك ، ولم يحظر طلاقا من طلاق ، ولا عددا من عدد في الطلاق قالوا : فله أن يطلق كم شاء إذا كانت مدخولا بها ، وإن كانت غير مدخول بها طلقها كم شاء ، ومتى شاء طاهرا وحائضا ، لأنه لا عدة عليها ومما احتجوا به أيضا أن العجلاني طلق امرأته بعد اللعان ثلاثا ، فلم ينكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأن رفاعة بن سموأل طلق امرأته ثلاثا ، فلم ينكر عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن ركانة طلق امرأته البتة ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما أردت بها ؟ فلو أراد ثلاثا لكانت ثلاثا ، ولم ينكر ذلك عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

وإن فاطمة ابنة قيس طلقها زوجها ثلاثا كذلك ذكره الشعبي ، عن فاطمة وشعبة وسفيان عن أبي بكر بن أبي الجهم ، عن فاطمة ، ( ومنصور ، عن تميم مولى فاطمة ، عن فاطمة ) ، وأبو الزبير ، عن عبد الحميد ، عن أبي عمر بن حفص زوج فاطمة كلهم قالوا : طلقها ثلاثا ، وكذلك قال أكثر أصحاب ابن شهاب في حديث فاطمة ( ثلاثا ، وقال مالك في حديثه طلقها البتة .

[ ص: 77 ] قالوا : ففي حديث فاطمة ) ابنة قيس أن زوجها طلقها ثلاثا ، ولم ينكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

قالوا : ومن جهة النظر من كان له أن يوقع واحدة كان له أن يوقع ثلاثا وليس في عدد الطلاق سنة ، ولا بدعة ، وهو مباح قد أباحه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - .

قال أبو عمر : قد عارض أصحابنا احتجاجهم هذا فقالوا : أما حديث العجلاني ، فلا حجة فيه ، لأنه طلق في غير موضع طلاق فاستغنى عن الإنكار عليه .

وأما حديث رفاعة بن سموأل ، فقالوا : ممكن أن يكون طلقها ثلاثا مفترقات في أوقات ، وأما حديث فاطمة ابنة قيس فقد قال فيه أبو سلمة عنها : بعث إلي زوجي بتطليقي الثالثة هذا معنى ما ردوا به على من احتج عليهم من الشافعيين بما ذكرنا ، ومما احتجوا به أيضا أن سفيان روى حديث ابن مسعود في طلاق السنة ، فلم يقل واحدة ، ولا ثلاثا .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن [ ص: 78 ] أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن عبد السلام ، قال : حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن سفيان قال : حدثنا أبو إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله ، قال : طلاق السنة أن يطلقها طاهرا من غير جماع .

قال أبو عمر : رواه شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن ابن مسعود ، فقال فيه : أو يراجعها إن شاء فدل على أن ذلك طلاق يملك فيه الرجعة ، ( وقد ذكرنا حديث شعبة في هذا الباب ، وأما حديث رفاعة بن سموأل في طلاقه لزوجته البتة فقد مضى ذكره في باب المسور بن رفاعة من هذا الكتاب ، وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا أحمد بن زهير ، قال : حدثنا أبو نعيم ، حدثنا زكرياء بن أبي زائدة ، عن عامر ، قال : حدثتني فاطمة ابنة قيس أن زوجها طلقها ثلاثا فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمرها فاعتدت عند ابن عمها عمرو بن أم كلثوم ، وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا أبو عبيدة [ ص: 79 ] بن أحمد ، قال : حدثنا الربيع بن سليمان قال : حدثنا محمد بن إدريس الشافعي ، قال : أخبرني عمي محمد بن علي بن شافع ، عن عبد الله بن علي بن السائب ، عن نافع ، عن ابن عجير بن عبد يزيد أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته سهيمة المزنية البتة ، ثم أتى النبي - عليه السلام - ، فقال : إني طلقت امرأتي سهيمة المزنية البتة ووالله ما أردت إلا واحدة ، فقال النبي - عليه السلام - : آلله ما أردت إلا واحدة ، فقال : والله ما أردت إلا واحدة فردها إليه النبي - عليه السلام - فطلقها ثانية زمن عمر والثالثة في زمن عثمان .

قال أبو عمر : اختلف على عبد الله بن علي في هذا الحديث ، وسنذكر حديث عبد الله بن يزيد في كتابنا هذا - إن شاء الله - .

ونذكر هناك اختلاف العلماء في البتة بما يجب في ذلك من القول بعون الله .

وقال أبو داود : حديث الشافعي هذا أصح حديث في هذا الباب يعني في البتة ، قال : لأنهم أهل بيته ، وهو أعلم بهم وليس فيما احتجوا من عموم قوله - عليه السلام - : ثم إن شاء طلق بعد ، وإن شاء أمسك ما يدل على إباحة طلاق الثلاث [ ص: 80 ] ، لأنه جائز أن يكون أراد - عليه السلام - ، فإن شاء طلق الطلاق الذي أذن الله فيه بقوله : لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا يعني المراجعة وبقوله : الطلاق مرتان ثم إن طلقها ، فلا تحل له الثالثة ، وهذا معناه في أوقات متفرقات - والله أعلم - ، فهذا حكم طلاق الحائل المدخول بها للسنة .

قال أبو عمر : وأما الحامل ، فلا خلاف بين العلماء أن طلاقها للسنة من أول الحمل إلى آخره ، لأن عدتها أن تضع ما في بطنها ، وكذلك ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عمر أنه أمره أن يطلقها طاهرا ، أو حاملا ، ولم يخص أول الحمل من آخره : حدثنا سعيد بن نصر وعبد الوارث بن سفيان قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا ابن وضاح ، قال : حدثنا أبو [ ص: 81 ] بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان عن محمد بن عبد الرحمن مولى لطلحة ، عن سالم ، عن ابن عمر أنه طلق امرأته ، وهي حائض ، فذكر ذلك عمر للنبي - عليه السلام - ، فقال : مره فليراجعها ، ثم ليطلقها طاهرا ، أو حاملا .

قال أبو عمر : لا يجوز عند العلماء طلاق من لم يستبن حملها على ما قدمنا ذكره ، عن ابن عباس في أول هذا الباب ، فإذا استبان حملها طلقها متى شاء على عموم هذا الخبر ، وأجمع العلماء أن المطلقة الحامل عدتها وضع حملها ، واختلفوا إذا كان في بطنها ولدان فوضعت أحدهما هل تنقضي بذلك عدتها ، فقال مالك ، والشافعي ، وأبو حنيفة والثوري ، والأوزاعي وأكثر أهل العلم : لا تنقضي عدتها حتى تضع جميع حملها ، وإن وضعت ولدا وبقي آخر فلزوجها عليها الرجعة إذا لم يبت طلاقها ثلاثا حتى تضع الولد الثاني .

وقال آخرون : إذا وضعت أحدهما فقد انقضت عدتها ، وروي ذلك عن عكرمة والحسن وإبراهيم ، وقد روي عن [ ص: 82 ] الحسن وإبراهيم خلاف ذلك أن زوجها أحق بها ما لم تضع الآخر ، وعلى هذا القول الناس ، وقد أجمعوا على أنها لا تنكح وفي بطنها ولد فبان بإجماعهم هذا خطأ قول من قال : إنها تنقضي عدتها بوضع أحدهما ، وذكر أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا عبد الأعلى ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن عكرمة ، قال : إذا وضعت أحدهما فقد انقضت عدتها قيل له : فتزوج ؟ قال : لا ، قال قتادة خصم العبد

قال : وحدثنا أبو داود ، عن هشام ، عن حماد ، عن إبراهيم في رجل طلق امرأته وفي بطنها ولدان قال : هو أحق برجعتها ما لم تضع الآخر وتلا وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن .

وذكر المعلى ، حدثنا هشيم ، ( عن يونس ، عن الحسن قالا : إذا طلقها وفي بطنها ولدان فوضعت أحدهما فقد انقضت عدتها ، قال : حدثنا هشيم ) ، أخبرنا شعبة ، عن حماد ، عن إبراهيم مثله .

[ ص: 83 ] أخبرنا عبد الوارث ، قال : حدثنا قاسم ، قال : حدثنا محمد بن شاذان قال : حدثنا المعلى ، قال : حدثنا عباد بن العوام ، أخبرنا سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب والحسن وعطاء قالوا : هو أحق بها ما لم تضع الآخر ، وهذا هو قول الله - عز وجل - : وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ، ومن بقي في بطنها ولد فلم تضع حملها والأصل أنه أملك بها ، فلا يزول ماله من ذلك إلا بيقين ، ولا يقين إلا بوضع جميع الحمل ، وما وضعته الحامل من مضغة ، أو علقة فقد حلت به عند مالك ، وأصحابه ، وهو قول إبراهيم ، وغيره ، وقال الشافعي ، وأصحابه وأحمد بن حنبل لا تحل إلا بوضع ما يتبين فيه شيء من خلق الإنسان ، وهو قول الحسن البصري ، وغيره وطلاق السنة عند مالك ، وأصحابه في الحامل والصغيرة التي لم تحض واليائسة من المحيض أن يطلقن واحدة متى شاء وتحل الحامل بآخر ولد والصغيرة واليائسة بتمام ثلاثة أشهر ، ومن كانت في عدتها بالشهور كاليائسة [ ص: 84 ] والصغيرة فطلقت في بعض اليوم لم تعتد بها في ذلك اليوم عند مالك ، وأصحابه ، وأما سائر العلماء فتعتد به عندهم إلى مثله من اليوم الذي تتم به عدتها ، فإن طلقت الصغيرة ، أو اليائسة عند استهلال الهلال اعتدت بالأهلة ، تسعا وعشرين كان الهلال أو ثلاثين ، وإن طلقت في بعض الشهر أتمت بقية الشهر واعتدت بالأهلة الشهرين وتبني على بقية ذلك الشهر تمام الثلاثين يوما والمستحاضة عند مالك ، وأصحابه أيضا يطلقها زوجها للسنة متى شاء وعدتها سنة إلا أن ترتاب فتقيم إلى زوال الريبة ، وهذا إذا كانت المستحاضة لا تميز دم حيضتها من دم استحاضتها ، فإن ميزته لم يطلقها زوجها للسنة إلا في طهرها المعروف وتعتد به قرءا إذا كان دم حيضتها بعده معروفا هذا قول مالك ، والشافعي وأكثر أهل العلم ، وقد قال مالك أيضا إن المستحاضة لا يبرئها إلا السنة أبدا ميزت دمها ، أو لم تميزه ، لأن الاستحاضة ريبة ، وهذا أشهر في مذهبه عند أصحابه وعند الشافعي إذا كانت متشبهة الدم لا تدري دم حيضتها من دم استحاضتها ، وكان حيضها قبل الاستحاضة وبعدها سواء ، فإنها تعتد بقدر أيام حيضتها ، وأما إذا ميزت ، فهو قرؤها لعدتها وصلاتها وفروع هذا الباب تطول ، وقد ذكرنا من [ ص: 85 ] أصوله ما يشرف الناظر فيه على المراد منه ، وسنذكر مسائل الحيض ، واختلافهم فيها في باب نافع ، عن سليمان بن يسار من كتابنا هذا - إن شاء الله - .

وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث : ثم تطهر ، ( ثم تحيض ، ثم تطهر ) ، ثم إن شاء طلق ، وإن شاء أمسك فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن تطلق لها النساء . ففيه دليل بين على أن الأقراء التي تعتد بها المطلقة هي الأطهار - والله أعلم - .

لأن الله تبارك وتعالى جعل المطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ، فلما نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الطلاق في الحيض ، وقال : إن الطلاق في الطهور هو الطلاق الذي أذن الله - عز وجل - فيه للعدة بقوله : فطلقوهن لعدتهن ، أو لقبل عدتهن علم أن الأقراء التي تعتد بها المطلقة هي الأطهار ، لأن الطلاق للعدة إنما يكون فيها وليس للطلاق في الحيض للعدة ، وفي ذلك بيان أن الأقراء الأطهار - والله أعلم - .

[ ص: 86 ] وهذا موضع اختلف فيه العلماء من الصحابة ، والتابعين ، ومن بعدهم من الخالفين ، لأنه موضع اشتباه وإشكال ، لأن الحيض في كلام العرب يسمى قرءا والطهر أيضا في كلام العرب يسمى قرءا وأصل القرء في اللغة الوقت والطهور والجمع والحمل أيضا فقد يكون القرء وقت جمع الشيء ، وقد يكون وقت طهوره ووقت حبسه والحمل به .

قال أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب : القروء الأوقات الواحد قرء ، وهو الوقت ، ( قال ) : وقد يكون حيضا ويكون طهرا ، وقال الخليل : أقرأت المرأة إذا دنا حيضها وأقرأت إذا استقر الماء في رحمها وقعدت المرأة أيام إقرائها ، أي أيام حيضتها .

وقال قطرب : تقول العرب ما أقرأت هذه الناقة سلا قط ، أي لم ترم به ، وقالوا : قرأت الناقة أقرءا وذلك معاودة الفحل إياها أوان كل ضراب ، وقالوا أيضا : قرأت المرأة قرءا إذا حاضت ، أو طهرت وقرأت أيضا إذا حملت .

[ ص: 87 ] قال أبو عمر : في الأقراء شواهد من أشعار العرب الفصحاء معانيها متقاربة ، فمنها قول عمرو بن كلثوم :


ذراعي عيطل أدماء بكر هجان اللون لم تقرأ جنينا



، وقال حميد بن ثور :


أراها غلاماها الحمى فتشذرت مراحا ولم تقرأ جنينا ولا دما



أي لم تجتمع ، ولم تضم في رحمها جنينا في وقت الجمع ، وقال الهذلي


كرهت العقر عقر بني شليل إذا هبت لقارئها الرياح



أي لوقتها ( والعقر هاهنا موقف الإبل إذا وردت الماء ) .

وقال الأعشى فجعل الأقراء الأطهار :


أفي كل عام أنت جاشم غزوة تشد لأقصاها عزيم عرائكا
مورثة مالا وفي الحي رفعة لما ضاع فيها من قروء نسائكا



فالقروء في هذا البيت الأطهار ، قال ابن قتيبة : لأنه لما خرج إلى الغزو لم يقرب نساءه أيام قروئهن ، أي أطهارهن .

[ ص: 88 ] قال أبو عمر : يدلك على أن الأقراء في بيت الأعشى الأطهار ، وإن كان ذلك فيه بينا - والحمد لله - قول الأخطل :


قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم دون النساء ولو باتت بأطهار



، وقال آخر فجعل القرء الحيض :


يا رب ذي ضب على فارض له قرء كقرء الحائض



قالوا : القرء في هذا البيت الحيض يريد أن عداوته تهيج في أوقات معلومة كما تحيض المرأة في أوقات معلومة ، وقال القتبي في قول الله - عز وجل - : ثلاثة قروء هي الحيض ، وهي الأطهار أيضا واحدها قرء وتجمع أقراء ، ( قال ) : وإنما جعل الحيض قرءا والطهر قرءا ، لأن أصل القرء في كلام العرب الوقت يقال : رجع فلان لقروئه ولقارئه ، أي : لوقته ، وأنشد بيت الهذلي المذكور .

قال أبو عمر : فهذا أصل القرء في اللغة ، وأما معناه في الشريعة فاختلف العلماء في مراد الله - عز وجل - من قوله : [ ص: 89 ] والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ، فقال : منهم قائلون الأقراء الحيض هاهنا واستدلوا بأشياء كثيرة منها قول الله - عز وجل - : ثلاثة قروء قالوا : والمطلق في الطهر إذا مضى بعضه واعتدت به امرأته ، فلم تعتد ، ولم تتربص ثلاثة قروء ، وإنما تربصت قرءين ، وبعض الثالث إذا كانت الأقراء الأطهار قالوا : والله - عز وجل - يقول : ثلاثة قروء ، فلا بد أن تكون كاملة وفرقوا بين قوله - عز وجل - : ثلاثة قروء ، فلا تكون إلا ثلاثة كاملة عندهم وبين قوله : الحج أشهر معلومات ، وإنما هي شهران ، وبعض الثالث عند الجميع ، فقالوا : ذكر الله في القرء ثلاثة عددا ، ولم يذكر في أشهر الحج عددا ، وما ذكر فيه عدد ، فلا بد من إكمال ذلك العدد .

واحتجوا أيضا بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للمستحاضة : اتركي الصلاة أيام أقرائك ، أي أيام حيضك .

وبما حدثناه عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : أخبرنا مطلب بن شعيب فقال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : [ ص: 90 ] ، حدثنا الليث ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن بكير بن عبد الله بن الأشج عن المنذر بن المغيرة ، عن عروة بن الزبير أن فاطمة ابنة أبي حبيش حدثته أنها أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فشكت إليه الدم ، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إنما ذلك عرق ، فانظري إذا أتاك قرؤك ، فلا تصلي ، وإذا مر القرء فتطهري ، ثم صلي ما بين القرء إلى القرء .

واحتجوا أيضا بالإجماع على أن عدة أم الولد حيضة وبأشياء يطول ذكرها هذه جملتها ، وممن ذهب إلى هذا سفيان الثوري ، والأوزاعي ، وأبو حنيفة ، وأصحابه وسائر الكوفيين وأكثر العراقيين ، وهو الذي استقر عليه أحمد بن حنبل فيما ذكر الخرقي عنه ، خلاف ما حكى الأثرم عنه ، قال : إذا طلق الرجل امرأته ، وقد دخل بها فعدتها ثلاث حيض غير الحيضة التي طلقها فيها ، إن طلقها حائضا ، فإذا اغتسلت من الحيضة الثالثة أبيحت للأزواج ، حكى ذلك عنه عمر بن الحسين الخرقي ، في مختصره ، على مذهب أحمد بن حنبل ، وهذا مذهب الفقهاء الذين ذكرناهم ، وهو المروي [ ص: 91 ] ، عن أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وأبي موسى الأشعري ومعاذ بن جبل وأبي الدرداء وعبادة بن الصامت ، وابن عباس وجماعة من التابعين بالحجاز والشام والعراق وقولهم كلهم أن المطلقة لا تحل للأزواج حتى تغتسل من الحيضة الثالثة .

وقال آخرون : الأقراء التي عنى الله - عز وجل - وأرادها بقوله في المطلقات : يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء هي الأطهار ما بين الحيضة والحيضة قرء قالوا : وهو المعروف من لسان العرب على ما ذكرنا من أهل العلم باللغة في هذا الباب قالوا : وإنما هو جمع الرحم الدم لا طهوره ، ومنه قرأت الماء في الحوض ، أي جمعته وقرأت القرآن أي ضممت بعضه إلى بعض بلسانك قالوا : والدليل على أن الأطهار هي الأقراء التي أمر الله المطلقة أن تتربصها أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالطلاق في الطهر لمن شاء أن يطلق .

[ ص: 92 ] وقوله : في العدة التي أمر الله - عز وجل - أن يطلق لها النساء فبين مراد الله - عز وجل - من قوله : فطلقوهن لعدتهن ، أو لقبل عدتهن ، وهو المبين عن الله مراده - صلى الله عليه وسلم - .

وسنزيد هذا الوجه حجة وبيانا فيما بعد من هذا الباب إذ أتينا على نقض ما احتج به القائلون الأول - إن شاء الله - .

وممن ذهب إلى أن الأقراء الأطهار مالك ، والشافعي وداود بن علي ، وأصحابهم ، وهو قول عائشة ، وزيد بن ثابت وعبد الله بن عمر .

وروي أيضا عن ابن عباس ، وبه قال القاسم وسالم وأبان بن عثمان ، وأبو بكر بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار وعروة بن الزبير وعمر بن عبد العزيز ، وابن شهاب وربيعة ويحيى بن سعيد كل هؤلاء يقولون : الأقراء الأطهار فالمطلقة عندهم تحل للأزواج وتخرج من عدتها بدخولها في الدم من الحيضة الثالثة وسواء بقي من الطهر الذي طلقت فيه المرأة يوم واحد أو أقل ، أو أكثر ، أو ساعة واحدة ، فإنها تحتسب به المرأة قرءا ، لأن المبتغى من الطهر [ ص: 93 ] دخول الدم عليه ، وهو الذي ينبئ ، عن سلامة الرحم وليست استدامة الطهر بشيء ، وهذا كله قول مالك ، والشافعي وسائر الفقهاء القائلين بأن الأقراء الأطهار إلا الزهري وحده ، فإنه قال في امرأة طلقت في بعض طهرها أنها تعتد ثلاثة أطهار سوى بقية ذلك الطهر ، فعلى قوله : لا تحل المطلقة حتى تدخل في الحيضة الرابعة ، والحجة لمالك ، والشافعي ، ومن قال بقولهما أن النبي - عليه السلام - أذن في طلاق الطاهر من غير جماع ، ولم يقل أول الطهر ، ولا آخره .

وذكر أبو بكر الأثرم أن أحمد بن حنبل كان يذهب إلى قول عمر ، وعلي وعبد الله وأبي موسى ، ثم رجع عن ذلك وقال : رأيت حديث عمر وعبد الله يختلف في إسناده إلا الأعمش ، ومنصور والحكم وحديث علي رواه سعيد بن المسيب ، عن علي وليس هو - عندي - سماع أرسله سعيد ، عن علي وحديث الحسن ، عن أبي موسى الأشعري منقطع ، لأن الحسن لم يسمع من أبي موسى وسائر الأحاديث عن الصحابة في هذا مرسلة ، قال : والأحاديث عمن قال أنه أحق بها حتى [ ص: 94 ] تدخل في الحيضة الثالثة أسانيدها صحاح قوية قال : ثم ذهب بعد أحمد إلى هذا .

قال أبو عمر : الاختلاف الذي حكاه أحمد بن حنبل في حديث عمر وعبد الله هو أن الأعمش يرويه ، عن إبراهيم ، عن عمر وعبد الله أنهما قالا : هو أحق بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة ، وكذلك رواه حماد ، عن إبراهيم مرسلا ، عن عمر وعبد الله كما رواه الأعمش ، وكذلك رواه أبو معشر أيضا ، ورواه الحكم ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عمر وعبد الله قالا : هو أحق بها ما لم تغتسل من الثالثة ، فهذا هو الاختلاف الذي عنى أحمد بن حنبل - والله أعلم - .

ومن خالفنا يقول : إن مراسيل إبراهيم ، عن ابن مسعود وعمر صحاح كلها ، وما أرسل منها أقوى من الذي أسند ، حكى هذا القول يحيى القطان ، وغيره ، وقد ذكرنا في صدر هذا الديوان ما يشفي في هذا المعنى ، عن إبراهيم ، وغيره .

وأما حديث علي فرواه قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، عن علي ، ورواه جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علي أنه قال : له الرجعة حتى تغتسل من الحيضة الثالثة .

[ ص: 95 ] ورواه الزهري أيضا ، عن سعيد ، عن علي ذكره الحميدي ، عن سفيان ، عن الزهري ، قال : أخبرني سعيد ، عن علي أنه أحق بها ما لم تغتسل من الثالثة ، وهو قول سعيد .

وأما حديث أبي موسى ، فإنما يرويه الحسن ، عن أبي موسى ، ولم يسمع منه كما قال أحمد .

وأما حديث ابن عباس فرواه ابن أبي يحيى ، عن داود بن الحصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، ورواه جعفر بن محمد أيضا ، عن أبيه ، عن ابن عباس .

وأما سائر الأحاديث ، عن الصحابة الذين روي عنهم أنه أحق بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة ، فإنما هي من مراسيل مكحول ، والشعبي ، وكل هؤلاء يقولون : الأقراء الحيض .

وأما الأحاديث ، عن الصحابة القائلين بأن الأقراء الأطهار فأسانيدها صحاح روى حديث عائشة ابن شهاب ، عن عروة ، وغيره ، عن عائشة أن الأقراء الأطهار .

وحديث زيد بن ثابت أنه قال : إذا دخلت في الدم من الحيضة الثالثة فقد برئت منه وبرئ منها ، ولا ترثه ، ولا يرثها .

[ ص: 96 ] وحديث ابن عمر رواه مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : إذا طلق امرأته فدخلت في الدم من الحيضة الثالثة فقد برئت منه وبرئ منها ، ولا ترثه ، ولا يرثها ، وابن عمر روى الحديث ، عن النبي - عليه السلام - أنه قال : فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء ، وله عرضت القصة إذ طلق امرأته حائضا ، وهو أعلم بهذا ، ومعه زيد بن ثابت وعائشة وجمهور التابعين بالمدينة ، ومعه دليل حديث النبي - عليه السلام - ، وهو الحجة القاطعة ، عند التنازع في مثل هذا وبالله التوفيق .

وقد روينا عن ابن عباس خلاف ما روى المخالفون عنه ، أخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي ، حدثنا إبراهيم بن حمزة ، حدثنا عبد العزيز بن محمد ، عن ثور بن زيد الديلي ، عن عكرمة أن ابن عباس كان يقول : إذا حاضت الثالثة ، فقد بانت من زوجها .

وأخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم ، قال : حدثنا محمد بن شاذان قال : حدثنا المعلى ، قال : أخبرني عبد العزيز بن محمد ، أن ثور بن زيد الكناني ، حدثه عن عكرمة [ ص: 97 ] ، عن ابن عباس ، قال : إذا حاضت المطلقة الحيضة الثالثة فقد بانت من زوجها ، إلا أنها لا تتزوج حتى تطهر ، وهذه الزيادة قوله : إلا أنها لا تتزوج حتى تطهر ، ضعيفة في النظر ، فإن صحت احتمل أن يكون استحبابا من ابن عباس أن لا يعقد على الحائض أحد خوف أن تدعوه الشهوة إلى الوطء في حيضها ، وهي - عندي - زيادة منكرة ، وحسبه أنه قد أخرجها من العدة بقوله : فقد بانت من زوجها ، وإذا خرجت من العدة ، فالنكاح لها مباح في الأصول كلها .

وأما حجة من احتج بأن ( الله ) قال : ثلاثة قروء فوجب أن تكون ثلاثة كاملة ، وقال في قوله : الحج أشهر معلومات فجائز أن تكون شهرين ، وبعض الثالث ، وفرق بين ذلك بذكر العدد ، فلا وجه لما قال : لأن المبتغى من الأقراء ما يبرأ به الرحم ، وهو خروج المرأة من الطهر إلى الدم ، فذلك الوقت هو المبتغى والمراعى ، وقد حصل منه ثلاثة أوقات كاملة بدخولها في الدم من الحيضة الثالثة ، ودليل آخر ، وهو أن الطهر مذكر ، فهو أشبه بقول الله - عز وجل - : ثلاثة قروء لإدخاله الهاء في [ ص: 98 ] ثلاثة ، وهي لا تدخل إلا في العدد المذكر ، والحيضة مؤنثة فلو أرادها لقال : ثلاث قروء ، وقد احتج أصحابنا بهذا ، وهذا - عندي - ليس بشيء ، لأن التذكير في العدد إنما جاء على لفظ القرء ، وهي مذكرة ، وأما احتجاجهم بقوله : - صلى الله عليه وسلم - للمستحاضة اقعدي أيام أقرائك ، وانظري إذا أتاك قرؤك ، فلا تصلي ونحو هذا فليس فيه حجة ، لأن الحيض قد يسمى قرءا ولسنا ننازعهم في ذلك ، ولكنا ننازعهم أن يكون الله - عز وجل - أراده بقوله : يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء على أن هذا الحديث قد ضعفه أهل العلم ، لأنه يروى ، عن عائشة ، وعائشة لم يختلف عنها في أن الأقراء الأطهار ، فيبعد عن عائشة أن تروي عن النبي - عليه السلام - أنه قال للمستحاضة : دعي الصلاة أيام أقرائك ، وتقول : الأقراء الأطهار ، فإن صح عن عائشة ، فهو حجة عليهم ، لأن عائشة تكون حينئذ أخبرت بأن القرء الذي يمنع من الصلاة ليس هو القرء الذي تعتد به من الطلاق وكفى بتفرقة عائشة بين هذين حجة .

أما حديث فاطمة ابنة أبي حبيش ، فلم يذكر فيه هشام بن عروة من رواية مالك ، وغيره القرء إنما قال فيه : إذا [ ص: 99 ] أقبلت الحيضة فدعي الصلاة ، لم يقل : إذا أتاك قرؤك ، وهشام أحفظ من الذي خالفه في ذلك ، ولو صح كان الوجه فيه ما ذكرنا ، عن عائشة - والله أعلم - .

وقد أجمعوا على أن الطلاق للعدة ، أن يطلقها طاهرا من غير جماع لا حائضا ، وأجمعوا على أن كل معتدة من طلاق ، أو وفاة تحسب عدتها من ساعة طلاقها ، أو وفاة زوجها ، وذلك دليل على أن الأقراء الأطهار لا الحيض ، لأن القائلين بأنها الحيض يقولون : إنها لا تعتد إلا بالحيضة المقبلة بعد الطهر الذي طلقت فيه ، فجعلوا عليها ثلاثة قروء وشيئا آخر ، وذلك خلاف الكتاب والسنة ، ويلزمهم أن يقولوا إنها قبل الحيضة عدة في غير عدة وحسبك بهذا قول الله - عز وجل - : فطلقوهن لعدتهن ولقول النبي - عليه السلام - فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء .

وأما حجتهم بأن أم الولد حيضة بإجماع ، وأنها لا يحل لها النكاح حتى تطهر من حيضتها ، وذلك دليل على أن القرء الحيضة ، فليس هو كما ظنوا وجائز لها - عندنا - أن تنكح إذا دخلت في الحيضة ، واستيقنت أن دمها دم حيض ، وقد قال [ ص: 100 ] هذا إسماعيل بن إسحاق ليحيى بن أكثم حين أدخل عليه في مناظرته إياه ، ما أدخله محمد بن الحسن على مناظرة عن أهل المدينة في كتابه ، فقال له : أتحل أم الولد للأزواج إذا دخلت في الدم من الحيضة ؟ فقال له إسماعيل : نعم تحل للأزواج ، لأن ظهور الدم براءة لرحمها في الأغلب المعمول به .

قال أبو عمر : الأصل في هذا الباب والمعتمد عليه فيه حديث ابن عمر ، عن النبي - عليه السلام - في قوله : إذا طهرت إن شاء طلق ، وإن شاء أمسك . لم يخص أول الطهر من آخره ، ولو كان بينهما فرق لبينه ، لأنه المبين عن الله مراده ، وقد بلغ ، وما كتم - صلى الله عليه وسلم - .

قرأت على عبد الوارث بن سفيان ، أن قاسم بن أصبغ حدثهم ، قال : حدثنا محمد بن عبد السلام ، قال : حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا مؤمل بن إسماعيل ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن علقمة أن ابن عمر طلق امرأته ، وهي حائض ، فسأل عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال : مره فليراجعها حتى تطهر ، ثم تحيض ، ثم تطهر ، فإن شاء طلق ، وإن شاء أمسك .

[ ص: 101 ] قال أبو عمر : لم يذكر في هذا الحديث قبل أن يمس ، وذكره مالك ، وغيره ، وهو الذي لا بد منه ذكر أو سكت عنه ، وهذا أمر مجتمع عليه يغني ، عن الكلام فيه ، وبالله العصمة والهدى والتوفيق .




الخدمات العلمية