الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
910 [ ص: 312 ] [ ص: 313 ] حديث ثالث وستون لنافع ، عن ابن عمر

مالك ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل الكعبة هو ، وأسامة بن زيد ، وعثمان بن طلحة الحجبي ، وبلال فأغلقها عليه ومكث فيها ، قال عبد الله بن عمر : فسألت بلالا حين خرج ماذا صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال : جعل عمودا عن يمينه ، وعمودين عن يساره ، وثلاثة أعمدة وراءه ، وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة ، ثم صلى .

التالي السابق


هكذا رواه جماعة من رواة الموطإ ، عن مالك قالوا فيه : عمودا عن يمينه ، وعمودين عن يساره منهم يحيى بن يحيى النيسابوري ، وبشر بن عمر الزهراني ، وكذلك رواه الربيع ، عن الشافعي ، عن مالك .

[ ص: 314 ] ورواه عثمان بن عمر ، عن مالك ، فقال فيه : جعل عمودين عن يمينه ، وعمودين عن يساره ، وروى أبو قلابة ، عن بشر بن عمر ، عن مالك عمودا ، عن يمينه ، وعمودا عن يساره ، وكذلك رواه إسحاق بن الطباع ، عن مالك ، وقد روي ذلك عن ابن مهدي ، عن مالك في هذا الحديث ، وجعل عمودين عن يمينه ، وعمودا عن يساره كذلك رواه بندار عنه ، وكذلك رواه الزعفراني ، عن الشافعي ، عن مالك ، وكذلك وأبو مصعب ، وابن بكير ، وابن القاسم ، ومحمد بن الحسن الفقيه ، عن مالك ، وروت طائفة من رواة الموطإ عن مالك هذا الحديث ، وانتهى حديثهم إلي : ثم صلى .

وزاد ابن القاسم في هذا الحديث عن مالك بإسناده هذا ، وجعل بينه ، وبين الجدار نحو ثلاثة أذرع .

ورواه ابن عفير ، وابن وهب ، وابن مهدي ، عن مالك كما رواه ابن القاسم إلا أنهم قالوا : ثلاثة أذرع ، ولم يقولوا : نحو .

حدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق الأذرمي ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن مالك ، عن [ ص: 315 ] نافع ، عن ابن عمر بهذا الحديث لم يذكر السواري قال : ثم صلى بينه وبين القبلة ثلاثة أذرع .

وحدثنا خلف بن قاسم ، حدثنا علي بن الحسن بن علال الحراني ، حدثنا محمد بن جعفر بن عيسى بن رزين العطار ، حدثنا إسحاق بن الجراح ، حدثنا شبابة بن سوار ، حدثنا مالك بن أنس ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الكعبة بينه وبين الحائط ثلاثة أذرع .

وروى هشيم هذا الخبر ، عن ابن عون ، عن نافع ، عن ابن عمر فزاد فيه الفضل بن عباس ، حدثناه محمد بن إبراهيم ، قال : حدثنا محمد بن معاوية ، قال : حدثنا أحمد بن شعيب ، قال : حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، قال : أخبرنا هشيم ، أخبرنا ابن عون ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البيت ومعه الفضل بن عباس ، وأسامة بن زيد ، وعثمان بن طلحة ، وبلال ، فأجافوا عليهم الباب ، فمكث فيه ما شاء الله ، ثم خرج .

قال ابن عمر : فكان أول من لقيت بلال فقلت : أين صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : بين الأسطوانتين
.

[ ص: 316 ] ورواه خالد بن الحارث ، عن ابن عون ، عن نافع ، عن ابن عمر ، ولم يذكر الفضل بن عباس ، وقال فيه : فقلت : أين صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقالوا : هاهنا ونسيت أن أسأله كم صلى .

وروى هذا الخبر ابن أبي مليكة ، عن ابن عمر قال : فيه فسألت بلالا هل صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الكعبة ؟ فقال : نعم ركعتين بين الساريتين . ففي هذا الحديث أنه صلى فيهما ركعتين ، وهذا خلاف ما تقدم .

ورواه يحيى القطان عن السائب بن عمر ، عن ابن أبي مليكة ، وفي هذا الحديث أيضا رواية الصاحب ، عن الصاحب .

وروى عبد الله بن عباس ، عن أسامة بن زيد ، قال : دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكعبة فسبح ، أو كبر في نواحيها ، ولم يصل فيها ، ثم خرج فصلى خلف المقام قبل الكعبة ركعتين ، ثم قال : هذه القبلة .

قال أبو عمر : رواية ابن عمر ، عن بلال ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى في الكعبة أولى من رواية ابن عباس ، عن أسامة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 317 ] لم يصل فيها ، لأنها زيادة مقبولة وليس قول من قال : لم يفعل بشهادة ، وهذا أصل من أصول الفقه في الشهادة إذا تعارضت في نحو هذا فأثبت قوم شيئا ونفاه آخرون كان القول قول المثبت دون النافي لأن النافي ليس بشاهد ، هذا إذا استويا في العدالة ، والإتقان والقول في قبول زيادة الزائد في أخبار على نحو هذا ، لأن الزيادة كشهادة مستأنفة .

أخبرنا عبد الله بن محمد بن أسد ، قال : حدثنا حمزة بن محمد ، وأخبرنا محمد بن إبراهيم ، قال : حدثنا محمد بن معاوية قالا : حدثنا أحمد بن شعيب ، قال : أخبرنا أحمد بن سليمان قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سيف بن سليمان قال : سمعت مجاهدا يقول : أوذن ابن عمر في منزله فقيل هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد دخل الكعبة ، قال : فأقبلت فأجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد خرج وأجد بلالا على الباب قائما فقلت : يا بلال صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الكعبة ؟ قال : نعم ، قلت : أين ؟ قال : ما بين هاتين الأسطوانتين ركعتين ، ثم خرج فصلى ركعتين في وجه الكعبة . وعند مجاهد في هذا حديث آخر ، حدثناه عبد الله بن [ ص: 318 ] محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا زهير بن حرب ، قال : حدثنا جرير ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن صفوان ، وإن قال : قلت : لعمر بن الخطاب كيف صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين دخل الكعبة ؟ قال : صلى ركعتين .

فهذه تشهد لصحة قول ابن عمر ، عن بلال أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى فيها الصلاة المعهودة لا الدعاء .

واختلف الفقهاء في الصلاة في الكعبة الفريضة والنافلة ، فقال مالك : لا يصلي فيها الفرض ، ولا الوتر ، ولا ركعتا الفجر ، ولا ركعتا الطواف ، ويصلى فيها التطوع ، وذكر ابن خواز بنداد ، عن مالك ، وأصحابه فيمن صلى في الكعبة الفريضة ، أو صلى على ظهرها أعاد ما دام في الوقت في المسألتين جميعا .

وقال الشافعي ، وأبو حنيفة ، والثوري : يصلي في الكعبة الفرض والنوافل كلها .

وقال الشافعي : إن صلى في جوفها مستقبلا حائطا من حيطانها فصلاته جائزة ، وإن صلى نحو الباب والباب مفتوح فصلاته باطل ، لأنه لم يستقبل منها شيئا .

[ ص: 319 ] وقال مالك : من صلى على ظهر الكعبة مكتوبة أعاد في الوقت ، وقد روي عن بعض أصحاب مالك يعيد أبدا .

وقال أبو حنيفة : من صلى على ظهر الكعبة ، فلا شيء عليه .

واختلف أهل الظاهر فيمن صلى في الكعبة ، فقال بعضهم : صلاته جائزة ، وقال بعضهم : لا صلاة له في نافلة ، ولا فريضة ، لأنه قد استدبر بعض الكعبة ، واحتج قائل هذه المقالة بقول ابن عباس : أمر الناس أن يصلوا إلى الكعبة ، ولم يؤمروا أن يصلوا فيها .

قال أبو عمر : لا يصح في هذه المسألة إلا أحد قولين إما أن يكون من صلى في الكعبة صلاته تامة فريضة كانت ، أو نافلة ، لأنه قد استقبل بعضها وليس عليه إلا ذلك ، أو تكون صلاته فاسدة فريضة كانت ، أو نافلة من أجل أنه لم يحصل له استقبال بعضها إذا صلى داخلها إلا باستدبار بعضها ، ولا يجوز ذلك عند من ذهب إلى أن الأمر بالشيء نهي عن جميع أضداده في كل باب ، والصواب من القول في هذا الباب - عندي - قول من أجاز الصلاة كلها في الكعبة إذا استقبل شيئا منها ، لأنه قد فعل ما أمر به ، ولم يأت ما نهي عنه ، لأن استدبارها هاهنا ليس بضد استقبالها ، لأنه ثابت معه في بعضها والضد لا [ ص: 320 ] يثبت مع ضده ، ومعلوم أن المأمور باستقبال الكعبة لم يؤمر ، وإنما توجه الخطاب إليه باستقبال بعضها ، والمصلي في جوفها قد استقبل جهة منها ، وقطعة ، وناحية ، فهو مستقبل لها بذلك ، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى فيها ركعتين ، وهو المبين عن الله مراده ، وكل موضع يجوز فيه صلاة النافلة جازت فيه صلاة الفريضة قياسا ، ونظرا إلا أن يمنع من ذلك ما يجب التسليم له على أنه لا يجب لأحد أن يتعمد صلاة الفريضة فيها ، ولو صلى فيها ركعتين نافلة لم يكن بذلك بأس ، فإن صلى أحد فيها فريضة ، فلا حرج ، ولا إعادة ، فإن قيل : إن النافلة قد تجوز على الدابة للمسافر إلى غير القبلة ، ولا تجوز كذلك الفريضة ، فلم قيست النافلة على الفريضة ؟ قيل له : ذلك موضع خصوص بالسنة لضرورة السفر كما تجوز صلاة الفريضة للخائف المطلوب راكبا مستقبل القبلة ، وغير مستقبلها لضرورة الخوف ، وليس ذلك بمبيح له الصلاة المفروضة على الدابة في حال الأمن ضرورة ، ولا بمبيح ذلك له ترك استقبال القبلة ضرورة ، وكذلك الصلاة على الدابة للمتطوع المسافر ليس ذلك بمبيح له الصلاة النافلة ، ولا الفريضة على الأرض إلى غير القبلة في الحضر ، لأنها في السفر حال ضرورة خصت بالسنة والإجماع ، وأما غير ذلك مما تنازع فيه [ ص: 321 ] العلماء من هذا الباب ، فالواجب أن لا يفرق فيه بين صلاة النافلة ، والفريضة كما أنها لا تفترق في الطهارة ، واستقبال القبلة ، وقراءة القرآن ، والسهو ، وسائر الأحكام ، وبالله التوفيق .

أخبرنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا القعنبي قال : حدثنا عبد العزيز الدراوردي ، عن علقمة بن أبي علقمة ، عن أمه ، عن عائشة أنها قالت : كنت أحب أن أدخل البيت وأصلي فيه فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي فأدخلني في الحجر ، فقال : صلي في الحجر إذا أردت دخول البيت ، فإنما هو قطعة من البيت ، فإن قومك اقتصروا حين بنوا الكعبة فأخرجوه من البيت .

قال أبو عمر : لو ملت إلى قول أسامة ، وابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين دخل الكعبة دعا فيها ، ولم يصل لم أجز فيها نافلة ، ولا فريضة من جهة استدبار بعضها ، ولكن القول بالزيادة المفسرة لمعنى الصلاة أولى ، ورواية من أثبت أولى من رواية من نفى - والله أعلم - وبه التوفيق لا شريك له .

[ ص: 322 ]



الخدمات العلمية