الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
898 [ ص: 106 ] حديث خامس لجعفر بن محمد

مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه ، عن علي بن أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر بعض هديه بيده ونحر غيره بعضه .

التالي السابق


هكذا قال يحيى عن مالك في هذا الحديث ، عن علي فجعله عن علي أيضا كما رواه يحيى . ورواه ابن بكير وسعيد بن عفير وابن القاسم وعبد الله بن نافع وأبو مصعب والشافعي فقالوا فيه : عن مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه ، عن جابر . وأرسله ابن وهب عن مالك عن جعفر عن أبيه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم . . . الحديث . لم يقل : عن جابر ولا عن علي .

قال أبو عمر : الصحيح فيه جعفر بن محمد عن أبيه ، عن جابر وذلك موجود في [ ص: 107 ] رواية محمد بن علي ، عن جابر في الحديث الطويل في الحج ، وإنما جاء حديث علي رضي الله عنه من حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى عنه ، لا أحفظه من وجه آخر ، وهذا المتن صحيح ثابت من حديث جابر وحديث علي . وفيه من الفقه أن يتولى الرجل نحر هديه بيده ، وذلك عند أهل العلم مستحب مستحسن لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بيده ، ولأنها قربة إلى الله عز وجل ، فمباشرتها أولى ، وجائز أن ينحر الهدي صاحبها ، ألا ترى أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه نحر بعض هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو أمر لا خلاف بين العلماء في إجازته ، فأغنى عن الكلام فيه ، وقد جاءت رواية عن بعض أهل العلم أن من نحر أضحيته غيره كان عليه الإعادة ، وهذا محمول عند أهل الفهم على أنها نحرت بغير إذن صاحبها ، وهو موضع اختلاف .

وأما إذا كان صاحب الهدي ، أو الضحية قد أمر بنحر هديه ، أو ذبح أضحيته ، فلا خلاف بين الفقهاء في إجازة ذلك كما لو وكل غيره بشراء هديه فاشتراه ، جاز بإجماع ، وفي نحر غير رسول الله هديه دليل على جواز الوكالة ; لأنه معلوم أنه لم يفعل ذلك بغير إذنه ، وإذا صح أنه كذلك صحت الوكالة وجازت في كل ما يتصرف فيه الإنسان أنه جائز أن يوليه غيره فينفذ فيه فعله .

وقد روى سفيان بن عيينة عن شبيب بن غرقدة في ذلك حديث عروة البارقي ، أخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا بكر بن [ ص: 108 ] حماد قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا سفيان عن شبيب بن غرقدة قال : حدثني الحسن عن عروة أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه دينارا يشتري له به أضحية ، أو قال : شاة ، فاشترى له ثنتين ، فباع إحداهما بدينار ، وأتى بشاة ودينار ، فدعا له بالبركة في بيعه ، فكان لو اشترى ترابا لربح فيه . وهكذا رواه الشافعي عن ابن عيينة بنحو رواية مسدد وقد روي من حديث حكيم بن حزام نحو هذا المعنى ، ولا خلاف في جواز الوكالة عند العلماء .

قال أبو عمر : وقد اختلف العلماء أيضا في معنى هذا الحديث في الوكيل يشتري زيادة على ما وكل به هل يلزم الأمر ذلك أم لا ؟ كرجل قال له رجل : اشتر لي بهذا الدرهم رطل لحم صفته كذا . فاشترى له أربعة أرطال من تلك الصفة بذلك الدرهم .

والذي عليه مالك وأصحابه أن الجميع يلزمه إذا وافق الصفة وزاد من جنسها ; لأنه محسن ، وهذا الحديث يعضد قولهم في ذلك ، وهو حديث جيد ، وفيه ثبوت صحة ملك النبي عليه السلام للشاتين ، ولولا ذلك ما أخذ منه الدينار ، ولا أمضى له البيع ، وقد اختلف عن مالك وأصحابه فيمن نحرت أضحيته بغير إذنه ولا أمره ، فروي عنه أنها لا تجزئ عن الذابح ، وسواء نوى ذبحها عن نفسه ، أو عن صاحبها ، وعلى الذابح ضمانها .

وروي عنه أن الذابح لها إذا كان مثل الولد ، أو بعض العيال فإنها تجزئ .

وقال محمد بن الحسن في رجل تطوع ، عن رجل فذبح له ضحية قد أوجبها : أنه إن ذبحها عن نفسه متعمدا لم تجز عن صاحبها ، وله أن يضمن الذابح ، فإن ضمنه إياها أجزت عن الضامن ، وإن ذبحها عن صاحبها بغير أمره أجزت عنه .

وقال الثوري : لا تجزئ ويضمن الذابح .

وقال الشافعي : تجزئ عن صاحبها ويضمن الذابح النقصان .

وروى ابن عبد الحكم عن مالك : إن ذبح رجل ضحية رجل بغير أمره لم تجز عنه ، وهو ضامن لضحيته ، إلا أن يكون مثل الولد [ ص: 109 ] أو بعض العيال ، إنما ذبحوها على وجه الكفاية له ، فأرجو أن تجزئ .

وقال ابن القاسم عنه : إذا كانوا كذلك فإنها تجزئ ، ولم يقل أرجو ، وإن أخطأ رجلان فذبح كل واحد منهما ضحية صاحبه لم تجز عن واحد منهما في قول مالك وأصحابه ، ويضمن عندهم كل واحد منهما قيمة ضحية صاحبه ، لا أعلم خلافا بين أصحاب مالك في الضحايا .

وأما الهدي فاختلف فيه عن مالك والأشهر عنه ما حكاه ابن عبد الحكم وغيره أنه لو أخطأ رجلان كل واحد منهما بهدي صاحبه أجزأهما ، ولم يكن عليهما شيء ، وهذا هو تحصيل المذهب في الهدي خاصة .

وقد روي عن مالك في المعتمرين إذا أهديا شاتين ، فذبح كل واحد منهما شاة صاحبه خطأ - أن ذلك يجزئ عنهما ويضمن كل واحد منهما قيمة ما ذبح وائتنفا الهدي .

وقال الشافعي : يضمن كل واحد منهما ما بين قيمة ما ذبح حيا ومذبوحا ، وأجزت عن كل واحد منهما أضحيته ، أو هديه .

وقال الطبري : يجزئ عن كل واحد منهما أضحيته ، أو هديه التي أوجبها ، ولا شيء على الذابح ; لأنه فعل ما لا بد منه ، ولا ضمان على واحد منهما ، إلا أن يستهلك شيئا من لحمها فيضمن ما استهلك .

وقال ابن عبد الحكم أيضا ، عن مالك : أو ذبح أحدهما - يعني المعتمرين - شاة صاحبه ، عن نفسه ضمنها ، ولم تجزه ، وذبح شاته التي أوجبها وغرم لصاحبه قيمة شاته التي ذبحها واشترى صاحبه شاة وأهداها ، قال ابن عبد الحكم : والقول الأول أعجب إلينا ، يعني المعتمرين يذبح أحدهما شاة صاحبه ، وهو قد أخطأ بها ، أن ذلك يجزيهما .

قال أبو عمر : في حديث مالك الذي قدمنا ذكره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر بعض هديه بيده ، ونحر غيره بعضه ، وغيره في هذا [ ص: 110 ] الموضع هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وذلك صحيح في حديث جابر وحديث علي أيضا .

أخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا أحمد بن زهير قال : حدثنا محمد بن سعيد الأصبهاني وهارون بن معروف قالا : حدثنا حاتم بن إسماعيل عن جعفر بن محمد عن أبيه في حديثه الطويل في الحج ، قال : ثم انصرف ، يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن رمى الجمرة من بطن الوادي بسبع حصيات ، فنحر ثلاثا وستين ، ثم أعطى عليا فنحر سائرها ، وذكر الحديث .

أخبرنا أحمد بن محمد قال : حدثنا وهب بن مسرة ، قال : حدثنا ابن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا حاتم بن إسماعيل عن جعفر بن محمد عن أبيه ، عن جابر في الحديث الطويل في الحج مثله ، قال : فنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا وستين بدنة ، ثم أعطى عليا فنحر ما غبر ، وذكر الحديث .

وأخبرنا محمد بن إبراهيم قال : حدثنا محمد بن معاوية قال : حدثنا أحمد بن شعيب قال : أخبرنا علي بن حجر قال : حدثنا إسماعيل بن جعفر قال : [ ص: 111 ] حدثنا جعفر بن محمد عن أبيه ، عن جابر بن عبد الله قال : ساق رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة بدنة ، فنحر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا وستين بيده ، ونحر علي ما بقي ، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تؤخذ بضعة من كل بدنة فتجعل في قدر فأكلا من لحمها وحسيا من مرقها .

وأخبرنا عبد الله بن محمد الجهني قال : حدثنا حمزة بن محمد الكناني قال : حدثنا أحمد بن شعيب النسائي قال : حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم عن شعيب بن الليث قال : حدثني الليث عن ابن الهادي عن جعفر بن محمد عن أبيه ، عن جابر بن عبد الله قال : قدم علي من اليمن بهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان الهدي الذي قدم به رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي من اليمن مائة بدنة ، فنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم منها ثلاثا وستين بدنة ، ونحر علي سبعا وثلاثين ، وأشرك عليا في بدنه ، ثم أخذ من كل بدنة بضعة ، فجعلت في قدر ، فطبخه ، فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي رضي الله عنه من لحمها وشربا من مرقها ، هكذا قال أكثر الرواة لهذا الحديث ، عن جعفر بن محمد عن أبيه ، عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر من تلك البدن المائة ثلاثا وستين ونحر علي بقيتها ، إلا سفيان بن عيينة فإنه روى هذا الحديث ، عن جعفر بن محمد عن أبيه ، عن جابر قال : ونحر رسول الله صلى الله عليه وسلم ستا وستين بدنة ، ونحر علي أربعا وثلاثين .

وأما رواية علي بن أبي طالب في ذلك فحدثناه أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال : حدثنا محمد بن بكر التمار قال : حدثنا أبو داود [ ص: 112 ] قال : حدثنا هارون بن عبد الله قال : حدثنا محمد ويعلى ابنا عبيد قالا : حدثنا محمد بن إسحاق عن أبي نجيح عن مجاهد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن علي رضي الله عنه ، قال : لما نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدنه ، فنحر ثلاثين بدنة بيده - أمرني فنحرت سائرها .

حدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن إسماعيل قال : حدثنا الحميدي قال : حدثنا سفيان قال : حدثنا عبد الكريم الجزري قال : سمعت مجاهدا يقول : سمعت عبد الرحمن بن أبي ليلى يقول : سمعت علي بن أبي طالب يقول : أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنه ، وأن أقسم جلالها وجلودها ، وألا أعطي الجازر منها شيئا . وقال : نحن نعطيه من عندنا ، قال سفيان : وحدثنا به ابن أبي [ ص: 113 ] نجيح ، عن مجاهد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن علي وحديث عبد الكريم أتم .

قال أبو عمر : في حديث هذا الباب إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل من هديه الذي ساقه في حجته ، وهديه ذلك كان تطوعا عند كل من جعله مفردا ، وأجمع العلماء على جواز الأكل من التطوع إذا بلغ محله لقول الله عز وجل فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها واختلفوا في جواز الأكل مما عدا هدي التطوع ، فقال مالك : يؤكل من كل هدي سيق في الإحرام ، إلا جزاء الصيد ، وفدية الأذى ، وما نذر للمساكين .

والأصل في ذلك عند مالك وأصحابه أن كل ما دخله الإطعام من الهدي والنسك لمن لم يجده فسبيله سبيل ما جعل للمساكين ، ولا يجوز الأكل منه ، وما سوى ذلك يؤكل منه ; لأن الله قد أطلق الأكل من البدن وهي من شعائر الله ، فلا يجب أن يمتنع من أكل شيء منها إلا بدليل ، لا معارض له ، أو بإجماع ، وقد أجمعوا على إباحة الأكل من هدي التطوع إذا بلغ محله ، ولم يجعلوه رجوعا فيه ، فكذلك كل هدي ، إلا ما اجتمع عليه .

وقال أبو حنيفة : يأكل من هدي المتعة وهدي التطوع إذا بلغ محله .

وقال الشافعي : لا يأكل من شيء من الهدي الواجب .

وقال في معنى قول الله عز وجل فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها إن ذلك في هدي التطوع ، لا في الواجب بدليل الإجماع على أنه لا يؤكل من جزاء الصيد وفدية الأذى ، فكانت العلة في ذلك أنه دم واجب في الإحرام من أجل ما أتاه المحرم ، فكل هدي وجب على المحرم بسبب فعل أتاه فهو بمنزلته ، والواجبات لا يجوز الرجوع في شيء منها كالزكاة ، وبالله التوفيق .




الخدمات العلمية