الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
5162 - وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها " فقال رجل : يا رسول الله ! أويأتي الخير بالشر ؟ فسكت حتى ظننا أنه ينزل عليه ، قال فمسح عنه الرحضاء وقال : " أين السائل ؟ وكأنه حمده فقال : إنه لا يأتي الخير بالشر ، وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلم ، إلا آكلة الخضر أكلت حتى امتدت خاصرتاها ، استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت ثم عادت فأكلت . وإن هذا المال خضرة حلوة ، فمن أخذه بحقه ، ووضعه في حقه فنعم المعونة هو ، ومن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع ، ويكون شهيدا عليه يوم القيامة ) . متفق عليه .

التالي السابق


5162 - ( وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن مما أخاف عليكم ) أي : من جملة ما أخشى عليكم أيها الصحابة أو أيها الأمة ( من بعدي ) أي : بعد وفاتي وفقد حياتي ( ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا ) : بفتح الزاي : وسكون الهاء وبفتح ، ففي القاموس : الزهرة ويحرك النبات أو نوره أو الأصفر منه ، والمراد حسنها وبهجتها ، فقوله : ( وزينتها ) : عطف تفسير ، وإنما عبر بالزهرة إشارة إلى حدوثها حلوة خضرة وسرعة فنائها ، والمعنى أني أخاف عليكم أن كثرة أموالكم عند فتح بلادكم تمنعكم من الأعمال الصالحة ، وتشغلكم عن العلوم النافعة ، وتحدث فيكم الأخلاق الدنية من التكبر والعجب والغرور ومحبة المال والجاه ، وما يتعلق بهما من لوازم الأمور الدنيوية ، والإعراض عن الاستعداد للموت ، وما بعده حتى الأحوال الأخروية ( فقال رجل : يا رسول الله ! أويأتي الخير بالشر ؟ ) : بفتح الواو ، والاستفهام للاسترشاد ، والمعنى أيفتح علينا ويأتي الخير من الغنائم والمال والحلال ، وتوسيع الرزق مصحوبا بالشر المترتب عليه ترك الخير من الطاعة والعبادة مما يخاف علينا . وقيل : الباء صلة يأتي وهي للتعدية أي : هل يستجلب الخير الشر ، وتوضيحه أن حصول الغنيمة لنا خير ، وهل يكون ذلك الخير سببا للشر ؟ ( فسكت ) أي : متأملا أو مستغرقا أو منتظرا للوحي سكوتا ممتدا ، ( حتى ظننا أنه ينزل ) : بصيغة المجهول أي : نزل الوحي ( عليه ) أي : بواسطة جبريل وإلا فهو ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى إما وحيا جليا أو خفيا .

( قال ) أي : الراوي ( فمسح عنه ) أي : عن وجهه الشريف ( الرحضاء ) : بضم الراء وفتح الحاء المهملة وبالضاد المعجمة وبالمد ، عرق الحمى عليه ما في المقدمة ، والمراد هنا عرق يظهر عليه صلى الله تعالى عليه وسلم عند نزول [ ص: 3231 ] الوحي عليه ، فالتركيب من باب التشبيه البليغ والمعنى أنه مسح عنه عرقا كعرق أثر الحمى ترحض الجسد أي : تغسله من كثرته . ( وقال : " أين السائل ؟ " وكأنه ) أي : النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ( حمده ) أي : حمد السائل واستحسنه في سؤاله لكونه سؤال استرشاد لنفع العباد والعباد ( فقال : " إنه ) أي : الشأن ( لا يأتي الخير بالشر ) أي : حقيقة لتنافيهما ، لكن قد يكون الخير سببا للشر ، فضرب لذلك مثلا بقوله المناسب لتعبير الخير بالزهرة حيث قال : ( وإن مما ينبت الربيع ) أي : بقدرته تعالى وإرادته وخلق أسبابه وآلته ( ما يقتل ) أي : نباتا أو شيئا يهلك الدواب ( حبطا ) : بفتحتين أي : انتفاخ بطن من الامتلاء وهو تمييز ، والمراد أنه قد يقتل حقيقة ( أو يلم ) : بضم ياء وتشديد ميم ، أي : يكاد أن يقتل ويقرب أن يهلك ، فأو للتنويع ، والمعنى أن الربيع ينبت خيار العشب فتستكثر منه الماشية لاستطابتها إياه حتى تنفخ بطونها عند مجاوزتها حد الاعتدال ، فتنفتق أمعاؤها من ذلك فتموت أو تقرب الموت ، ومن المعلوم أن الربيع ينبت أضراب العشب فهي كلها خير في نفسها ، وإنما يأتي الشر من قبل إفراط الأكل ، فكذلك المفرط في جمع المال من غير حله ، أو من الحلال المشغل عن حاله يكثر في التنعم بماله من غير تأمل في مآله ، فيقسو قلبه من كثرة الأكل ، فيورث الأخلاق الدنية فيتكبر ويتجبر ويقر الناس ، ويمنع ذا الحق منها ، فحيث آل مآل المال لهلاكه في الدنيا ولعذابه في العقبى يصير سبب الوبال وشدة النكال وسوء الحال . ( إلا آكلة الخضر ) : بفتح الخاء وكسر الضاد المعجمتين وهو الطري الغض من النبات ، وفي نسخة بضم ففتح على أنه جمع خضرة ، وروي بزيادة الهاء ، والمعنى يقتل أو يلم كل آكله إلا آكلة الخضر على الوجه المذكور والبيان المسطور لقوله : ( أكلت ) أي : الماشية الآكلة المفرطة أكلها ( حتى امتدت ) أي : امتلأت وشبعت ( خاصرتاها ) أي : جنباها ، وعبر عن الشبع بامتدادهما لأنهما يمتدان عند امتلاء البطن ( استقبلت عين الشمس ) أي : ذاتها وقرصها ، والمعنى أنها بركت مستقبلة إليها تستمرئ بذلك ما أكلت . وقال شارح أي : تركت الأكل ولم تأكل ما فوق طاقة كرشها حتى تقتلها كثرة الأكل ، وتوجهت إلى مسقط ضوئها واستراحت فيه . ( فثلطت ) أي : ألقت روثها رقيقا سهلا ( وبالت ) أي : فزال عنها الحبط ( ثم عادت فأكلت ) أي : ثم إذا حصل لها خفة واحتاجت إلى الأكل عادت فأكلت ، كذلك من أخرج ما في المال حتى الحقوق ، وعالج نفسه بالاحتماء عن مساوئ الأغنياء ، وعرف الداء والدواء كلام الحكماء من الأنبياء والأولياء ، فيكون المال حينئذ خيرا له ، لأنه معونة له في تحصيل الخير ودفع الشر ، لكن لما كان الخطر فيه كثيرا بحيث يضر السالكين بحسب الأغلب اختار الله لأكثر الأنبياء والأولياء طريق الفقر والفاقة . وذهب الصوفية أجمعهم ، والعلماء أكثرهم إلى أن الفقير الصابر أفضل من الغني الشاكر ، والله سبحانه وتعالى أعلم هذا مجمل الكلام ومرام المقام .

وأما تفصيله لغة وحلا من جهة المبنى والمعنى ، ففي النهاية : الحبط بالتحريك الهلاك ، يقال : حبطت الدابة تحبط حبطا بالتحريك إذا أصابت مرعى طيبا ، فأفرطت في الأكل حتى تنتفخ فتموت ، وذلك أن الربيع ينبت أحرار العشب فتستكثر منه الماشية ، ويلم أي : يقرب ويدنو من الهلاك ، والخضر بكسر الضاد نوع من البقول ليس من أحرارها وجيدها وإنما ترعاها المواشي إذا لم تجد غيرها فلا تكثر من أكلها ولا تستمرئها .

قال القاضي : آكلة نصب على أنه مفعول يقتل والاستثناء مفرغ ، والأصل أن مما ينبت الربيع ما يقتل آكله إلا آكل الخضر على هذا الوجه ، وإنما صح الاستثناء المفرغ من المثبت لقصد التعميم فيه ، ونظيره قرأت إلا يوم كذا . قال الطيبي رحمه الله تعالى : وعليه ظاهر كلام المظهر ، والأظهر أن الاستثناء منقطع لوقوعه في الكلام المثبت ، وهو غير جائز عند الكشاف إلا بالتأويل فيه لأن ما يقتل حبطا بعض ما ينبت الربيع لدلالة من التبعيضية عليه والتقسيم في قوله : إلا آكل الخضر غير ما يقتل حبطا ، يشهد له ما في شرح السنة .

قال الأزهري : وفيه مثلان ، ضرب أحدهما للمفرط في جمع الدنيا ومنعها من حقها ، وضرب الآخر للمقتصد في أخذها والانتفاع بها ، وأما قوله : وأن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا فهو مثل للمفرط الذي يأخذها بغير حق ، وذلك أن الربيع ينبت أحرار العشب فتستكثر منها الماشية ، حتى ينتفخ بطونها لما قد جاوزت حد [ ص: 3232 ] الاحتمال فتنفتق أمعاؤها فتهلك ، كذلك الذي يجمع الدنيا من غير حلها ، ويمنع ذا الحق حقه يهلك في الآخرة بدخول النار ، وأما مثل المقتصد فقوله عليه الصلاة والسلام : " إلا آكلة الخضر " وذلك أن الخضر ليست من أحرار البقول التي ينبتها الربيع فتستكثر منها الماشية ، ولكنها من كلأ الصيفي التي ترعاها المواشي بعد هشيم البقول شيئا فشيئا من غير استكثار ، فضرب مثلا لمن يقتصد في أخذ الدنيا ، ولا يحمله الحرص على أخذها فهو ينجو من وبالها . قال الأشرف في قوله : حتى امتدت خاصرتاها استقبلت عين الشمس ، إن المقتصد المحمود العاقبة وإن جاوز حد الاقتصاد في بعض الأحيان ، وقرب من السرف المذموم لغلبة الشهوة المركوزة في الإنسان ، وهو المعني بقوله : أكلت حتى امتدت خاصرتها ، لكنه يرجع عن قريب عن ذلك الحد المذموم ، ولا يلبث عليه ، بل يلتجئ إلى الدلائل النيرة والبراهين الواضحة الدافعة للحرص المهلك القامعة له ، وهو المدلول عليه بقوله : استقبلت عين الشمس وثلطت وبالت ، فحذف ما حذف من المرة الثانية لدلالة ما قبلها عليه ، وفيه إرشاد إلى أن المحمود العاقبة وإن تكرر منه الخروج عن حد الاقتصاد والقرب من حد الإسراف مرة بعد أولى ، وثانية بعد أخرى لغلبة الشهوة عليه وقوتها فيه ، لكنه يمكن أن يبعد بمشيئة الله تعالى عن الحد المذموم الذي هو الإسراف ، ويقرب من الاقتصاد الذي هو الحد المحمود .

قال الطيبي رحمه الله : فعلى هذا الاستثناء متصل لكن يجب التأويل في المستثنى منه ، والمعنى أن من جملة ما ينبت الربيع شيئا يقتل آكله إلا الخضر منه إذا اقتصد فيه آكله وتحرى دفع ما يؤديه إلى الهلاك . ( وإن هذا المال ) أي : المحسوس في البال ( خضرة ) : بفتح فكسر ( حلوة ) : بضم الحاء أي : حسنة المنظر لزيادة المذاق والتأنيث باعتبار أن هذا المال عبارة عن الدنيا وزينتها ، إذ التقدير أن زهرة هذا المال خضرة حلوة ، قال التوربشتي رحمه الله : كذلك نرويه من كتاب البخاري على التأنيث ، وقد روي أيضا خضر حلو ، والوجه فيه أن يقال : إنما أنث على معنى تأنيث المشبه به أي : إن هذا المال شيء كالخضرة ، وقيل معناه كالبقلة الخضرة ، أو يكون على معنى فائدة المال أي : أن الحياة به أو المعيشة خضرة . قال الطيبي رحمه الله : ويمكن أن يعبر عن المال بالدنيا ، لأنه أعظم زينتي الحياة الدنيا لقوله تعالى : المال والبنون زينة الحياة الدنيا فيوافق حديث أبي سعيد الخدري : " الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم . . " على ما مر في الباب السابق اهـ .

والمعنى أن هذا المال مشبه بالمرعى المشتهاة للأنهام ( فمن أخذه بحقه ) أي : بقدر احتياجه من طريق حله ( ووضعه في حقه ) أي : في محله الواجب أو ندبه ( فنعم المعونة ) أي : ما يعان به على الطاعة ويدفع به ضرورات المؤنة ، إذ المراد بالمعونة الوصف مبالغة أي : فنعم المعين على الدين . ( هو ) أي : المال ، ونظير ما ورد : نعم المال الصالح للرجل الصالح ، ( ومن أخذه بغير حقه ) أي : من غير احتياج إليه وجمعه من حرام ولم يصرفه في مرضاة ربه ( كان كالذي يأكل ولا يشبع ) : فيقع في الداء العضال والورطة المهلكة لغلبة الحرص كالذي به جوع البقر ، وكالمريض الذي له الاستسقاء حيث ما يروى ، وكلما يشرب يزيد عطشا وانتفاخا ( ويكون ) أي : المال ( شهيدا عليه يوم القيامة ) أي : حجة عليه يوم يشهد على حرصه وإسرافه ، وأنه أنفقه فيما لا يرضاه الله تعالى ، ولم يؤد حقه من مال الله لعباد الله . قال الغزالي رحمه الله : مثال المال مثال الحية التي فيها ترياق ناقع وسم نافع ، فإن أصابها المعزم الذي يعود وجه الاحتراز عن شرها وطريق استخراج ترياقها كانت نعمة ، وإن أصابها السوادي الغبي فهي عليه بلاء مهلك ، وتوضيحه ما قاله الخواجة عبيد الله النقشبندي رحمه الله : أن الدنيا كالحية ، فكل من يعرف رقيتها يجوز له أخذها ، وإلا فلا . فقيل وما رقيتها ؟ فقال : أن يعرف من أين يأخذها وفي أين يصرفها . ( متفق عليه ) .

[ ص: 3233 ]



الخدمات العلمية