الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
5596 - وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : قيل له : ما المقام المحمود ؟ قال : " ذلك يوم ينزل الله تعالى على كرسيه فيئط كما يئط الرحل الجديد براكبه من تضايقه به ، هو كسعة ما بين السماء والأرض ، ويجاء بكم حفاة عراة غرلا ، فيكون أول من يكسى إبراهيم ، يقول الله تعالى : اكسوا خليلي ; فيؤتى بريطتين بيضاوين من رياط الجنة ، ثم أكسى على أثره ، ثم أقوم عن يمين الله مقاما يغبطني الأولون والآخرون " . رواه الدارمي .

التالي السابق


5596 - ( وعن ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : قيل له ما المقام المحمود ) ؟ أي : الذي وعدته في قوله تعالى : عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ( قال : ذلك يوم ) بالرفع والتنوين على الرواية الصحيحة ، على ما صرح به جمع من علمائنا ، ويجوز فتحه ، وهو خبر ذلك على التقديرين ، أما على الثاني فظاهر ، وأما على الأول فتقديره : ذلك الذي أبلغ فيه المقام المحمود ( يوم ينزل الله تعالى على كرسيه ) : يمكن أن يكون كناية عن حكمه بالعدل في يوم الفصل قبل إظهار الفضل المتوقف على شفاعته - صلى الله تعالى عليه وسلم - إشعارا لمزيد فضله على خلقه ، فكما أنه لولاه أولا لما خلق الأفلاك ولا وجد الأملاك ، فكذا لولاه آخرا لوقع الأنام في الهلاك ، فهو الأول وهو الآخر ، والباطن والظاهر ، وهو مظهر الكل المعبر عنه بأنه مظهر الجامع المسمى بالله ، وقيل : هذا طريقة الاستعارة التمثيلية ، كما أشار إليه القاضي بقوله : مثل التجلي لعباده بنعت العظمة والكبرياء ، والإقبال عليهم للعدل والقضاء ، وإدناء المقربين منهم على حسب مراتبهم ، وكشف الحجاب فيما بينه وبينهم بنزول السلطان من غرف القصر إلى صدر الدار ، وجلوسه على كرسي الملك للحكومة والفصل ، وإقامة خواصه وأهل كرامته حواليه قداما ووراء ، ويمينا وشمالا على تفاوت مراتبهم لديه ، وقيل : معنى نزول الله تعالى على كرسيه ظهور مملكته وحكمه محسوسا ، وقيل : معناه التجلي له بنعت العظمة والإقبال بوصف الكبرياء في اليوم الموعود ، حتى يتضايق من احتمال ما قد غشيه من ذلك ، وهذا لم يبعد عن الحق ; لما في كشف الحجاب من معنى النزول عن معارج الجلال إلى مدارج الجمال ، ( فيئط ) : بكسر الهمزة وتشديد الطاء ، أي : يصوت الكرسي ( كما يئط الرحل ) : أي الإكاف ( الجديد براكبه ) أي : بسبب ركوب راكبه إذا كان عظيما . قال الطيبي - رحمه الله : وهو مبالغة وتصوير لعظمة التجلي على طريق الترشيح ، ( من تضايقه به ) : متعلق بقوله : فيئط ، أي : من عدم اتساع الكرسي بالله تعالى ، كذا قاله شارح . وقيل : أي من تضايق الكرسي بملائكة الله ، وهذا تمثيل عن كثرة الملائكة الحافين حول عرشه ، ( وهو كسعة ما بين السماء والأرض ) : بفتح سين كسعة ويكسر ، وفي نسخة يسعه ما بين السماء والأرض ، ففي القاموس : وسعه الشيء بالكسر يسعه كيضعه سعة كدعة ودية . وفي المغرب يقال : وسع الشيء المكان ، ومعناه وسعه المكان ، وذلك إذا لم يضق عنه والجملة حال ، والضمير راجع إلى الكرسي ، أي : والحال أن الكرسي يسع ما بين السماء والأرض ، إشارة إلى قوله تعالى : وسع كرسيه السماوات والأرض لكن جاء في الحديث أن الأرض بجنب السماء كحلقة في فلاة ، وكذا كل سماء بالنسبة إلى ما فوقها ، والسماوات السبع والأرضين عند الكرسي كحلقة في فلاة ، وكذا هو في جنب العرش .

[ ص: 3567 ] قال الطيبي - رحمه الله : قوله : وهو يسعه حال أو معترضة جيء بها دفعا لتوهم من يتوهم أن أطيط الكرسي للضيق بسبب تشبيهه بالرحل في الأطيط ( ويجاء بكم حفاة عراة غرلا ) أي : تحضرون في هذه الحالات ( فيكون أول من يكسى إبراهيم ) : برفعه ونصب أول ، وفي نسخة بعكسه . قال الطيبي - رحمه الله : فعلى الأول فيه تقديم وتأخير ، كقوله تعالى : إن خير من استأجرت القوي الأمين ( يقول الله تعالى ) : استئناف بيان ( اكسوا ) : بضم الهمزة والسين ، أمر للملائكة أي : ألبسوا ( خليلي ; فيؤتى بريطتين بيضاوين من رياط الجنة ) : بكسر الراء جمع ريطة بفتحها ، وهي الملاءة الرقيقة اللينة من الكتان لا تكون لفقتين ، بل تكون قطعة واحدة ، يؤتى به من الشام ( ثم أكسى ) : بصيغة المفعول ، أي : ألبس أنا ( على أثره ) : بفتحتين وبكسر فسكون ، أي : عقب إبراهيم وبعده ( ثم أقوم عن يمين الله ) أي : قيام كرامة ( مقاما يغبطني ) : بكسر الموحدة ، أي : يتمناه ( الأولون والآخرون ) .

فإن قيل : كيف وجه المطابقة بين السؤال والجواب ؟ أجيب : بأن الدال على الجواب هو قوله : ثم أقوم عن يمين الله ، لكنه - صلى الله تعالى عليه وسلم - ذكر أولا الوقت الذي يكون فيه المقام المحمود ، ووصفه بما يكون فيه من الأهوال ; ليكون أعظم في النفوس وقعا ، ثم أشار إلى الجواب بقوله : ثم أقوم عن يمين الله ، وحاصل الجواب أن المقام المحمود هو المقام الذي أقوم فيه عن يمين الله يوم القيامة .

قال الطيبي - رحمه الله : وفي الحديث دلالة ظاهرة على فضل نبينا - صلى الله تعالى عليه وسلم - على ما سوى الله تعالى من الموجودات ، وحيازته قصب السبق من بين السابق واللاحق من الملائكة والثقلين ، وكفى بالشاهد شهيدا على الملك الأعظم إذا ضرب سرادق الجلال لقضاء شئون العباد ، وجمع أساطين دولته ، وأشراف مملكته ، وجلس على سرير ملكه ، لا يخفى أن من يكون عن يمينه هو أولى أولي القرب ، وأما كسوة إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - قبله - صلى الله تعالى عليه وسلم - فلا يدل على تفضيله عليه ، بل على فضله ، وأنه إنما قدم كسوته على كسوة مثل من يغبطه الأولون والآخرون ; إظهارا لفضله وكرامته ومكانته ، ونحوه قوله تعالى : إن إبراهيم كان أمة قانتا إلى قوله : ثم أوحينا إليك الآية . " الكشاف " : في ثم هذه ما فيها من تعظيم منزلة رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - وإجلال محله والإيذان بأن أشرف ما أوتي خليل الله من الكرامة ، وأجل ما أولي في النعمة اتباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ملته من قبل أنها دلت على تباعد هذا النعت في المرتبة من بين سائر النعوت التي أثنى الله تعالى عليه بها .

وقيل : لا يلزم منه الفضيلة المطلقة ، ويمكن أن يقال : لا يدخل النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - في ذلك عن القول بأن المتكلم لا يدخل تحت خطابه . قلت : هذا غفلة من القائل عن تصريح قوله : ثم أكسى على أثره ، قيل : ويمكن أن يقال بأن نبينا - صلى الله تعالى عليه وسلم - إنما جيء به كاسيا ، وإنما كسي ثانيا للكرامة ، بخلاف غيره فإنه كسي للعري . أقول : وهذا مستبعد جدا ، بل الظاهر أنهم يبعثون عراة ، ثم يخلق لهم أكفانهم فيلبسونها ، ثم يخلع الله تعالى على من يشاء من عباده ، ولما كان الخليل أفضل الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ابتدئ به ، ولما كان نبينا - صلى الله تعالى عليه وسلم - خاتم النبيين ختم به ، وأقيم عن يمين الرحمن ، مع أنه قد يكون الأمر ترقيا على أن إبراهيم كان جده - عليه السلام - ومتبوعه في بعض المقام ، مع مراعاة كونه أول من عري في ذات الله ، حين أرادوا إلقاءه في النار فيما ذكرنا امتاز الخليل عن سائر الأنبياء ، والله سبحانه وتعالى أعلم . ( رواه الدارمي ) .




الخدمات العلمية