الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
5624 - وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق ، من المشرق إلى المغرب لتفاضل ما بينهم " قالوا : يا رسول الله ، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم ، قال : " بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين . متفق عليه .

التالي السابق


5624 - ( وعن أبي سعيد الخدري ، أن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - قال : ( إن أهل الجنة يتراءون ) أي : ينظرون أو يرى بعضهم بعضا ( أهل الغرف ) : بضم ففتح ، جمع غرفة وهي بيت يبنى فوق الدار ، والمراد هنا القصور العالية في الجنة ( من فوقهم ) وفي هذا تصريح بأن قوله تعالى : في جنة عالية يراد بها العلو الحسي أيضا ( كما تتراءون ) أي أنتم في الدنيا ( الكوكب الدري ) أي : لصفاء لونه ونوره وعلو ظهوره ( الغابر ) : بالغين المعجمة ثم بالموحدة من الغبور ، أي الباقي ( في الأفق ) - بضمتين - جمع الآفاق أي في أطراف السماء ، وفي نسخة بالهمزة بدلها ، من الغور ، أي الذاهب في الأفق البعيد الغور فيه ، ( من المشرق ) أي من جانبه ( أو المغرب ) أي من طرفه ، والظاهر أن ( أو ) للتخيير في التشبيه كقوله تعالى : أو كصيب من السماء ونحو : أو كظلمات في بحر لجي وليست للشك ، قال التوربشتي - رحمه الله - : قد اختلف في الغابر ، فمنهم من رواه بالهمزة بعد الألف من الغور ، يريدون أنحطاطه في الجانب الغربي ، ومنهم من رواه بالباء من الغبور ، والمراد منه الباقي في الأفق بعد انتشار ضوء الفجر ، فإنما يستبين في ذلك الوقت الكوكب المضيء ، ولا شك أن الرواية الأولى نشأت من التصحيف ، انتهى . ولم يذكر وجه التصحيف فيه .

وقال شارح : وروي الغابر من الغور وهو الانحطاط ، وهو تصحيف ؛ لأنه لا يناسب قوله : من المشرق ، إذ غور الكوكب في الجانب الشرقي مما لا يتصور ، ثم قال قوله : من المشرق والمغرب ، كذا في المصابيح أي بالواو ، والصواب من المشرق إلى المغرب كما في كتاب مسلم . قال المؤلف : وكذا ( بأو ) في شرح السنة وجامع الأصول ورياض الصالحين قيل : وإنما ذكر المشرق والمغرب معا دون السماء لأن المقصود البعد والإنارة معا . وقال النووي : معنى الغابر الذاهب الماضي أي الذي تدلى للغروب وبعد عن العيون . وروي في غير صحيح مسلم الغارب بتقدم الراء ، وروي العازب بالعين المهملة والزاي ، ومعناه البعيد في الأفق ، فكلها راجعة إلى معنى واحد .

قال الطيبي - رحمه الله - فإن قلت : ما فائدة تقييد الكوكب بالدري ثم بالغابر في الأفق ؟ قلت : للإيذان بأنه من باب التمثيل الذي وجهه منتزع من عدة أمور متوهمة في المشبه ، شبه رؤية الرائي في الجنة صاحب الغرفة برؤية الرائي الكوكب المستضيء الباقي من باب الشرق أو الغرب في الاستضاءة مع البعد ، فلو قيل : " الغائر " لم يصح ؛ لأن الإشراق يفوت عند الغروب ، اللهم إلا أن يقدر : المستشرف على الغروب ؛ لقوله تعالى : فإذا بلغن أجلهن أي شارفن بلوغ أجلهن ، لكن لا يصح هذا المعنى في الجانب الشرقي ، نعم يجوز على التقدير كقولهم : متقلد سيفا ورمحا ، وعلفته تبنا وماء باردا . أي : طالعا في الأفق من المشرق وغائرا في المغرب ( لتفاضل ما بينهم ) : علة للترائي ، والمعنى إنما ذلك لتزايد مراتب ما بين سائر أهل الجنة العالية وما بين أرباب أهل الجنة العالية . قيل : الجنة طبقات : أعلاها للسابقين ، وأوسطها للمقتصدين ، وأسافلها للمخلطين .

[ ص: 3584 ] ( قالوا : يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم ، قال : ( بلى ) أي : يبلغها غيرهم من الأولياء ، ويشاركها معهم بعض الأصفياء ( والذي نفسي بيده رجال ) أي : وهم رجال ، أو يبلغها رجال ، أي كاملون في الرجولية ؛ لقوله تعالى : رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله الآية . آمنوا بالله أي : حق الإيمان ، وغاية الإيقان ، ونهاية الإحسان ، ( وصدقوا المرسلين ) . في إجابة ما أمروا به ونهوا عنه ، وقاموا بوصف الصابرين والشاكرين ، وترفعوا إلى مقام الراضين . قال تعالى : وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا إلى أن قال : أولئك يجزون الغرفة بما صبروا والآية . وفي جمع المرسلين إشعار بأن هذه المرتبة العلية عامة للسابقين على حسب تفاوتهم في الرتب السنية ، وليست خاصة لهذه الأمة ، مع أن تصديق المرسلين على وجه التحقيق إنما هو لهذه الجماعة ، نعم قد يراد به مقابلة الجمع للجمع ، فالمراد رسوله خاصة بالأصالة ، وسائر الرسل بالتبعية ، فإنه يلزم من التصديق بالواحد التصديق بالكل ، وكذا في جانب التكذيب ، ومنه قوله تعالى : كذبت قوم نوح المرسلين ( متفق عليه ) . وكذا رواه أحمد ، وابن حبان ، والدارمي عن أبي سعيد . وكذا الترمذي عن أبي هريرة . ورواه أحمد والشيخان وابن حبان عن سهل بن سعد ، ولفظه : ( إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف في الجنة كما تراءون الكوكب في السماء ) . ورواه أحمد والترمذي وابن ماجه وابن حبان عن أبي سعيد ، والطبراني عن جابر بن عروة ، وابن عساكر عن ابن عمر ، وعن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنهم - بلفظ : ( إن أهل الدرجات العلى ليراهم من هو أسفل منهم كما ترون الكوكب الطالع في أفق السماء ، وإن أبا بكر وعمر منهم وأنعما ) . وفي بعض طرق الحديث قيل : وما معنى أنعما ؟ قال : أهل لذلك هما . وروى ابن عساكر عن أبي سعيد مرفوعا : ( إن أهل عليين ليشرف أحدهم على الجنة فيضيء وجهه لأهل الجنة كما يضيء القمر ليلة البدر لأهل الدنيا ، وإن أبا بكر وعمر منهم وأنعما ) . وروى ابن أبي الدنيا في كتاب الأخوان ، والبيهقي عن أبي هريرة مرفوعا : ( إن في الجنة لعمدا من ياقوت عليها غرف من زبرجد ، ولها أبواب مفتحة ، تضيء كما يضيء الكوكب الدري ، يسكنها المتحابون في الله ، والمتجالسون في الله ، والمتلاقون في الله ) . وروى أحمد وابن حبان والبيهقي عن مالك الأشعري ، والترمذي عن علي - رضي الله عنه - مرفوعا : ( إن في الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها ، أعدها الله تعالى لمن أطعم الطعام ، وألان الكلام ، وتابع الصيام ، وصلى بالليل والناس نيام ) .




الخدمات العلمية