الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
5700 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن الله تعالى كتب كتابا قبل أن يخلق الخلق : إن رحمتي سبقت غضبي ; فهو مكتوب عنده فوق العرش . متفق عليه .

التالي السابق


5700 - ( وعن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - يقول : " إن الله كتب ) أي أثبت أو أمر أن يكتب الملائكة ( كتابا ) أي مكتوبا وهو اللوح ، أو كتب كتابة مستقلة ( قبل أن يخلق الخلق : إن رحمتي ) بكسر الهمزة وفتحها ( سبقت غضبي ) أي غلبت ، كما في رواية ، والمعنى غلبت الرحمة بالكثرة في متعلقها على الغضب ، والحاصل أن إرادة الخير والنعمة والمثوبة منه سبحانه لعباده أكثر من إرادة الشر والنقمة والعقوبة ؛ لأن الرحمة عامة ، والغضب خاص ، كما حقق في قوله : الرحمن الرحيم حيث قيل : رحمة الرحمن عامة للمؤمن والكافر ، بل لجميع الموجودات ؛ ولذا لا يطلق الرحمن على غيره سبحانه ، فإذا عرفت هذا فالكسر على الحكاية ، ويكون لفظة " إن " من جملة المكتوب ، والفتح على أنها بدل من كتابا ، وعلى كل فالمكتوب إنما هو هذه الجملة ، ويؤيده قوله : ( فهو مكتوب عنده فوق العرش ) والمعنى أنه مكتوب عن سائر الخلائق مرفوع عن حيز الإدراك ، وقيل : معناه أنه مثبت في علمه سبحانه ، وأما اللوح المحفوظ فقد يطلع على بعض معلوماته من أراد الله من ملائكته وأنبيائه وخلص أوليائه من أرباب الكشوف ، لا سيما إسرافيل عليه السلام ، فإنه موكل عليه ويأخذ الأمور منه ، فيأمر جبريل وميكائيل وعزرائيل عليهم الصلاة والسلام كلا بما هو من جنس عمله على ما ورد في بعض الأخبار والآثار ، وأما على قول من فسر الكتاب هنا باللوح المحفوظ أو القضاء الإجمالي والتفصيلي ، فيتعين الكسر على الاستئناف ، اللهم إلا أن تجعل هذه الجملة المستفادة من الحكمة الإجمالية زبدة في اللوح المحفوظ ، وعمدة ما فيه من أنواع الحظوظ .

قال التوربشتي - رحمه الله - : يحتمل أن يكون المراد بالكتاب اللوح المحفوظ ، ويكون معنى قوله : فهو مكتوب عنده ، فعلم ذلك عنده ، ويحتمل أن يراد منه القضاء الذي قضاه ، وعلى الوجهين فإن قوله : فهو عنده فوق العرش تنبيه على كينونته مكنونا عن سائر الخلائق ، مرفوعا عن حيز الإدراك ، ولا تعلق لهذا القول بما يقع في النفوس من التصورات تعالى عن صفات المحدثات فإنه هو المباين عن جميع خلقه المتسلط على كل شيء بقهره وقدرته . وفي سبق الرحمة بيان أن قسط الخلق هاهنا أكثر من قسطهم من الغضب ، وأنها تنالهم من غير استحقاق ، وأن الغضب لا ينالهم إلا باستحقاق ، ألا يرى أنها تشمل الإنسان جنينا ورضيعا وفطيما وناشئا من غير أن يصدر منه طاعة استوجب بها ذلك ، ولا يلحقه الغضب إلا بما يصدر عنه من المخالفات ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ، فلله الحمد على ما ساق إلينا من النعم قبل استحقاقها .

[ ص: 3635 ] وقال النووي : غضب الله تعالى ورضاه يرجعان إلى المطيع إثابة وعقاب العاصي ، والمراد بالسبق هنا والغلبة في أخرى كثرة الرحمة وشمولها ، كما يقال : غلب على فلان الكرم والشجاعة ، إذا كثر منه . أقول : ولو أبقيا على حقيقتهما من غير إرادة المجاز جاز أيضا ؛ لأن رحمته تعالى سابقة على غضبه باعتبار التعلق بالنسبة إلى كل أحد من مخلوقاته ، فإن أول الرحمة نعمة الإيجاد ، ثم نعمة الإمداد ، فلا يخلو عن النعمتين أحد من العباد ، وكذا منحه سبحانه بالنسبة إلى محنه غالبة كثيرة شاملة لعموم الخلائق ، سواء من أطاعه أو عصاه في البلاد .

قال الطيبي - رحمه الله - : يحتمل أن تكون أن مفتوحة بدلا من كتابا ، ومكسورة حكاية لمضمون الكتاب ، وهو على وزن قوله تعالى : كتب ربكم على نفسه الرحمة أي أوجب وعدا أن يرحمهم قطعا بخلاف ما يترتب عليه مقتضى الغضب ، فإن الله تعالى غفور كريم يتجاوز عنه بفضله ، وأنشد :


وإني إذا أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي

فالمراد بالسبق هنا القطع لوقوعها . قلت : لا بد وأن يخص بالمؤمنين ممن تعلق المشيئة بمغفرتهم وسبق الإرادة برحمتهم ، وإلا فعذاب الكافر مقطوع الوقوع ، بل واجب الحصول ؛ لقوله تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به والتخلف في خبره غير جائز قطعا ، وقد حررت هذه المسألة في خصوص رسالة سميتها بـ " القول السديد في خلق الوعيد " . ( متفق عليه )




الخدمات العلمية