الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
5705 - وعنه ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال : رب أرني كيف تحيي الموتى ويرحم الله لوطا ، لقد كان يأوي إلى ركن شديد ، ولو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي متفق عليه .

التالي السابق


5705 - ( وعنه ) أي : عن أبي هريرة ( قال : قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم : نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال : رب أرني كيف تحيي الموتى : تمامه : قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال ابن الملك : أراد - صلى الله تعالى عليه وسلم - أن ما صدر من إبراهيم عليه الصلاة والسلام لم يكن شكا ، بل كان طلبا لمزيد العلم ، وأنا أحق به ، لأنه مأمور بذلك لقوله تعالى : وقل رب زدني علما وأطلق الشك بطريق المشاكلة .

وقال الإمام المزي : معناه لو كان الشك متطرقا إليه ، لكنت أحق به ، وقد علمتم أني لم أشك ، فاعلموا أنه كذلك ، وإنما رجح إبراهيم على نفسه تواضعا ، أو لصدوره قبل أن يعلم أنه خير ولد آدم ، وأما سؤال إبراهيم عليه السلام ، فللترقي من علم اليقين إلى عين اليقين ، أو لأنه لما احتج على المشركين بأن ربه يحيي ويميت طلب ذلك ليظهر دليله عيانا ، وتوضيحه ما قال الخطابي : مذهب هذا الحديث التواضع والهضم من النفس ، وليس في قوله هذا اعتراف بالشك على نفسه ، ولا على إبراهيم ، لكن فيه نفي الشك عن كل واحد منهما يقول : إذا لم أشك أنا ولم أرتب في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى ، فإبراهيم أولى بأن لا يشك فيه ولا يرتاب به ، وفيه الإعلام بأن المسألة من قبل إبراهيم لم تعرض من جهة الشك ، لكن من قبل طلب زيادة العلم ، واستفادة معرفة كيفية الإحياء ، والنفس تجد من الطمأنينة بعلم الكيفية ما لم تجده بعلم الأمنية ، والعلم في الوجهين حاصل والثالث مرفوع ، وقد قيل : إنه إنما طلب الإيمان حسا وعيانا ، لأنه فوق ما كان عليه من الاستدلال والمستدل لا تزول عنه الوساوس والخواطر ، فقد قال عليه الصلاة والسلام : ليس الخبر كالمعاينة " انتهى . وفيه أن عدم علم الأنبياء من باب الاستدلال غير ظاهر ، بل علمهم من باب الكشف والمعرفة التامة ، والعلم اليقيني الذي لهم في السرائر بحيث لا يتصور فيه تردد الخواطر ، وتوسوس الضمائر ، نعم مرتبة عين اليقين فوق مرتبة علم اليقين ، وأن هذا لهو حق اليقين والله الموفق والمعين .

[ ص: 3641 ] وفي بعض ( نسخ المصابيح ) : نحن أحق من إبراهيم بدون قوله بالشك ، ففال شارح له أي : نحن أحق منه بالسؤال الذي سأله يريد به تعظيم أمره ، وأن سؤاله هذا لم يكن لنقصان في عقيدته ، بل لكمال فكرته ، وعلو همته الطالبة لحصول الاطمئنان بالوصول إلى درجة العيان .

قال : وفي بعض الروايات : نحن أحق بالشك من إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، ومعناه ما ذكرناه أي : لم يكن صدور هذا السؤال منه شكا من إبراهيم ، واختلج في صدره ، إذ لو كان الشك يعتريه لنحن أحق بالشك منه ، ولكنا لا نشك ، فكيف يجوز أن يشك هو فيه ؟ أقول : المراد بقوله : نحن ليس صيغة التعظيم ، ليحتاج إلى الاعتذار بأنه قال ذلك تواضعا لإبراهيم ، بل المعنى أن مع أمتي لا تشك في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى ، بل نحن معاشر الخلق من سائر الأمم غالبا نعتقد قدرته على الإحياء ، وإبراهيم عليه الصلاة والسلام من أكمل الأنبياء في مرتبة التوحيد ، ومقام التفريد حتى أمرنا بمتابعته على طريقه القويم وسبيله المستقيم ، فكيف يتصور منه الشك ؟ إذ لو جاز عليه الشك ، وهو من المعصومين المتبوعين لجاز لنا بالأولى ، ونحن من اللاحقين التابعين . والحال أنه أراد بالدليل البرهاني نفي الشك عن الخليل الرحماني ، وإيصاله إياه إلى المقام الاطمئناني ، والحال العياني .

( ويرحم الله لوطا ) : قيل : تصدير الكلام هذا الدعاء لئلا يتوهم اعتراء نقص عليه فيما سيأتي من الأنبياء على طريقة قوله تعالى : عفا الله عنك لم أذنت لهم حيث كأنه تمهيد ومقدمة للخطاب المزعج . ( لقد كان يأوي إلى ركن شديد ) ، أي عشيرة قوية . قال ابن الملك : فيه إشارة إلى وقوع تقصير منه . وقال شارح تبعا للقاضي : وكأنه استغرب منه وعده بادرة ، إذ لا ركن أشد من الركن الذي كان يأوي إليه ، وهو عصمة الله وحفظه ، وعندي أن أخذ هذا المعنى من هذا المبنى ليس من طريق الأدب في الإنباء عن الأنبياء ، لأنه - صلى الله تعالى عليه وسلم - إذا كان ينهى عن غيبة أفراد العامة حيا وميتا ، فكيف يتصور أن يذكر في حق نبي مرسل ما يكون موهما لنقص مرتبته ، أو تنزلا عن علو همته ؟ فالمعنى ، والله تعالى أعلم أنه كان بمقتضى الجبلة البشرية في بعض الأمور الضرورية يميل إلى الاستعانة بالعشيرة القوية ، فيجوز لنا مثل ذلك المحال ، فإنا مأمورون بمتابعة أرباب الكمال في التعلق بالأسباب مع الاعتماد على رب الأرباب والله تعالى أعلم بالصواب .

ثم رأيت في ( الجامع الصغير ) ما يقوي المذكور من التقرير والتحرير ، وهو ما رواه الحاكم ، عن أبي هريرة مرفوعا " رحم الله لوطا كان يأوي إلى ركن شديد ، وما بعث الله بعده نبيا إلا في ثروة من قومه " . قلت : ومنه قوله تعالى حكاية عن قوم شعيب عليه الصلاة والسلام : ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز وكذلك نبينا - صلى الله تعالى عليه وسلم - كان معظما ومحميا ومكرما لقربه من أبي طالب وغيره ، وإليه الإيماء في قوله تعالى : ألم يجدك يتيما فآوى ولو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف أي : مقدار طول زمن لبثه وجاءني داع بالطلب أو ساع إلى الخروج ( لأجبت الداعي ) . أي ولبادرت الخروج عملا بالجواز . لكن يوسف عليه الصلاة والسلام صبر لحكم تقضيه ذلك ، كما عبر الله سبحانه عنه : فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله إلى آخره وربما وجبته عليه في مرام ذلك المقام ممن قصده البراءة مما اشتهر في حقه من الكلام على ألسنة العوام ، ليقابل صاحب الأمر على جهة التعظيم والإكرام ، ألا ترى أن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - كان يكلم بعض أمهات المؤمنين في طريق ، فمر عليه صحابي فقال له عليه الصلاة والسلام : " إن هذه فلانة من الأزواج الطاهرات " . فقال : يا رسول الله ، أيظن فيك ظن السوء ؟ فقال : " إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم " .

قال التوربشتي - رحمه الله : هو مبني على إحماده صبر يوسف عليه السلام ، وتركه الاستعجال بالخروج عن السجن مع امتداد مدة الحبس عليه ، قال : إن في ضمن هذا الحديث تنبيها على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، [ ص: 3642 ] وإن كانوا من الله بمكان لا ينازلهم فيه أحد ، فإنهم بشر يطرأ عليهم من الأحوال ما يطرأ على البشر ، فلا تعدوا ذلك منقصة ، ولا تحسبوه سيئة . قلت : هذا ما قررناه من قضية سيدنا لوط عليه الصلاة والسلام .

وقال ابن الملك : اعلم أن هذا ليس إخبارا عن نبينا - صلى الله تعالى عليه وسلم - بتضجره وقلة صبره ، بل فيه دلالة علىمدح يوسف عليه السلام ، وتركه الاستعجال بالخروج ليزول عن قلب الملك ما اتهم به من الفاحشة ، ولا ينظر إليه بعين مشكوك . انتهى . وهو بعينه كما ذكرناه على ما لا يخفى ، وقيل : بل فيه إشارة إلى تقصيريوسف عليه السلام ، وذلك من جهة أنه لم يترك الوسائط ، ولم يفوض كل ما آتاه إليه تعالى .

قلت : سبق أن مباشرة الأسباب لا تنافي تفويض الأمر إلى رب الأرباب ، بل قال بعض العارفين : إن مرتبة جمع الجمع هي مباشرة السبب مع ملاحقة عمل الرب ، وقيل : بل فيه إيماء إلى تقصيره من جهة أنه كان رسولا ، ولذا دعا أهل السجن بقوله : أأرباب متفرقون إلخ . ولم يكن له طريق إلى عودة الملك ، فلما وجد إليه سبيلا قدم براءة نفسه مما نسب إليه على حق الله ، وهو دعوة الملك .

قلت : وهذا ظاهر البطلان إذ تقدير تسليم كونه رسولا عاما أو خاصا ، فتقدم ما يتوقف صحة الإرسال من البراءة عليه مما يجب المبادرة إليه ، لئلا يدور طعن الطاعن حواليه ، ومما يدل على صحة ما قررناه ، وعلى حقيقة ما حررناه ، ما أخرجه ابن جرير ، وابن مردويه ، عن أبي هريرة مرفوعا : ( رحم الله يوسف عليه السلام إن كان لذا أناة حليما ، لو كنت أنا المحبوس ثم أرسل إلي لخرجت سريعا ) . وفي رواية أحمد في ( الزهد ) ، وابن المنذر عن الحسن مرسلا : ( رحم الله أخي يوسف لو أنا أتاني الرسول بعد طول الحبس لأسرعت الإجابة حين قال : ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة كذا في ( الجامع الصغير ) . متفق عليه .




الخدمات العلمية