الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
5706 - وعنه ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " إن موسى كان رجلا حييا ستيرا ، لا يرى من جلده شيء استحياء ، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل ، فقالوا : ما تستر هذا التستر إلا من عيب بجلده : إما برص أو أدرة ، وإن الله أراد أن يبرئه ، فخلا يوما وحده يغتسل ، فوضع ثوبه على حجر ، ففر الحجر بثوبه فجمح موسى في إثره يقول : ثوبي يا حجر ! ثوبي يا حجر ! حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل ، فرأوه عريانا أحسن ما خلق الله وقالوا : والله ما بموسى من بأس ، وأخذ ثوبه ، وطفق بالحجر ضربا ، فوالله إن بالحجر لندبا من أثر ضربه " ثلاثا أو أربعا أو خمسا " . متفق عليه .

التالي السابق


5706 - ( وعنه ) أي : عن أبي هريرة ( قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم : " إن موسى كان رجلا حييا " ) : بكسر التحتية الأولى وبتشديد الثانية على أنه فعيل أي مستحييا ( ستيرا ) ، بفتح السين وتخفيف الفوقية المكسورة . قال شارح أي : مستورا ، والظاهر أنه مبالغة ساتر ، ويدل عليه ما في نسخة من كسر السين والفوقية المشددة ، وكأن الشارح جعل قوله : " لا يرى من جلده شيء " : صفة كاشفة ، وليس بظاهر ، بل هو استئناف بيان لما يلزم من كونه كثير التستر ، وحاصله أنه كان من شأنه أن يستر جميع بدنه عند اغتساله ( استحياء ) ، أي من الناس ( فآذاه ، من آذاه ) : بالمد فيهما أي : من أراد إيذاءه ( من بني إسرائيل ، فقالوا ) : جمع باعتبار معنى من كما أفرد أولا بناء على لفظه ، ونحوه كثير في التنزيل أي فقال بعض المؤذين : ( ما تستر ) أي : موسى ( هذا التستر ) أي : البليغ ( إلا من عيب بجلده : إما برص أو أدرة ) ، بضم همزة وسكون دال مهملة نفخة بالخصية على ما في النهاية ( وإن الله أراد أن يبرئه ) ، بتشديد الراء أي ينزهه عن نسبة ذلك العيب ، ويثبت له الحياء من عالم الغيب ، وقد أشار إليه سبحانه بقوله : ياأيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها ثم اعلم أن قوله : وإن الله هو هكذا في النسخ المصححة بالواو ، وقال الطيبي - رحمه الله : الفاء في قوله : فإن الله للتعقيب ، وأصل الكلام فقالوا : كيت وكيت ، فأراد الله أن يبرئه ، وأتى بأن المؤكدة تأكيد اعتناء بشأنه ، ( فخلا يوما وحده ) أي : انفرد عن الناس وقتا ما حال كونه منفردا ( ليغتسل فوضع ثوبه على حجر ) أي : بجنب الماء ( ففر الحجر بثوبه ) ، الباء للتعدية أي : فأخذه فارا عن موسى ، ( فجمح موسى ) : بجيم وميم وحاء

[ ص: 3643 ] مفتوحات . أي : ذهب وأسرع إسراعا لا يرده شيء ، ومنه قوله تعالى : وهم يجمحون ( في أثره ) : بفتحتين وقد يكسر الهمز وتسكن المثلثة أي : في عقب الحجر ( يقول ) أي : بلسان المقال أو ببيان الحال ( ثوبي ) أي : أعطني ثوبي ( يا حجر ثوبي ) أي : مطلوبي ثوبي ( يا حجر والتكرار للتكثير ( حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل : والظاهر أن فيهم المؤذين ( فرأوه عريانا أحسن ما خلق الله ) : قال الطيبي - رحمه الله : عريانا حال . وكذا قوله : " أحسن " لأن الرؤية بمعنى النظر . ( وقالوا : والله ما بموسى من بأس ) ، أي ليس به عيب ما . ( وأخذ ثوبه وطفق ) أي : شرع ( بالحجر ضربا أي : بضربه ضربا ، فالجار متعلق بالفعل المقدر . كما في قوله سبحانه : فطفق مسحا بالسوق والأعناق ( فوالله إن في الحجر لندبا من أثر ضربه ) : الندب بفتح النون والدال أي : أثرا وعلامة باقية من أثر ضربه ، وأصل الندب أثر الجرح ، إذا لم يرتفع عن الجلد ، فشبه به أثر الضرب بالحجر وقوله : ( ثلاثا أو أربعا أو خمسا ) . متعلق بالضرب أو الندب والشك من الراوي .

قال الطيبي - رحمه الله - قوله : ثلاثا أي ندبات . ثلاثا بيانا وتفسيرا لاسم إن ، وضربه هذا من أثر غضبه على الحجر لأجل فراره ، وقلة أدبه ، ولعله ذهل عن كونه مأمورا ، وكان ذلك في الكتاب مسطورا ، وفيه مأخذ العلماء الأنام على أن ضرر الخاص يتحمل لنفع العام ، والله تعالى أعلم بالمرام ، ثم قيل : إن موسى أمر بحمل الحجر معه إلى أن كان في التيه فضربه بعصاه مرة أو مرات ، فانبجست منه اثنتا عشرة عينا .

قال النووي - رحمه الله : فيه معجزتان ظاهرتان لموسى عليه الصلاة والسلام . إحداهما مشي الحجر بثوبه ، والثانية حصول الندب في الحجر بضربه ، وفيه حصول التمييز في الجماد ، وفيه جواز الغسل عريانا في الخلوة ، وإن كان ستر العورة أفضل ، وبهذا قال الشافعي ومالك وأحمد رحمهم الله ، وخالفهم ابن أبي ليلى وقال : إن للماء ساكنا . قلت : إمامنا الأعظم - رحمه الله - مع الجمهور ، وظاهر مخالفة ابن أبي ليلى في دخول الماء . قال : وفيه ابتلاء الأنبياء والصالحين من أذى السفهاء والجهالة وصبرهم عليه ، وفيه أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام منزهون عن النقائص في الخلق ، والخلق سالمون من العاهات والمعايب ، اللهم إلا على سبيل الابتلاء . ( متفق عليه ) .




الخدمات العلمية