الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
5752 - وعن عطاء بن يسار ، قال : لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص قلت : أخبرني عن صفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في التوراة ، قال : أجل ، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن : ياأيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين ، أنت عبدي ورسولي ، سميتك المتوكل ، ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق ، ولا يدفع بالسيئة السيئة ; ولكن يعفو ويغفر ، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا : لا إله إلا الله ، ويفتح بها أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا . رواه البخاري .

التالي السابق


5752 - ( وعن عطاء بن يسار ) : هو من أجلاء التابعين ( قال : لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص قلت ) : استئناف بيان ( أخبرني عن صفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم ) أي : عن نعته ( في التوراة ، قال : أجل ) : بفتحتين وسكون اللام المخففة قال الطيبي : هو حرف يصدق بها الخبر خاصة ، يقال لمن قال : قام زيد أجل ، وزعم بعض جواز وقوعه بعد الاستفهام ، وفي الحديث جاء جوابا للأمر على تأويل قرأت التوراة ، هل وجد صفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها ، فأخبرني . قال : أجل أي : نعم أخبرك . ( والله إنه لموصوف في ( التوراة ) ، ببعض صفته في القرآن ) أي : بالمعنى كقوله : ياأيها النبي إنا أرسلناك شاهدا : حال مقدرة من الكاف أو من الفاعل أو مقدرا أو مقدرين شهادتك على من بعثت إليهم ، وعلى تكذبيهم وتصديقهم أي : مقبولا قولك عند الله وعليهم ، كما يقبل قول الشاهد العدل في الحكم ذكره الطيبي ، أو شاهدا لأفعال أمتك يوم القيامة ، أو لجميع الأنبياء في تبليغهم كما قال تعالى : فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا أو مزكيا لأمتك في شهادتهم على الأمم بتبليغ رسالة الأنبياء إليهم ، كما قال تعالى : وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا وقد تقدم والله أعلم ، أو معناه شاهدا لقدرتنا وإرادتنا في الخلق ، كما يشير إليه قوله ومبشرا أي : للمؤمنين بالمثوبة ونذيرا : ( " أي : منذرا ومخوفا للكافرين بالعقوبة وحرزا : بكسر الحاء وسكون الراء للأميين ، قال القاضي أي : حصنا وموئلا للعرب ، يتحصنون به من غوائل الشيطان أو عن سطوة العجم وتغلبهم ، وإنما سموا أميين لأن أغلبهم لا يقرءون ولا يكتبون اه .

أو لأنهم ينسبون إلى أم القرى ، وهي مكة ، أو لكون نبيهم أميا ، ولعل هذا الوجه في هذا المقام أوجه ليشمل جميع الأمة ، ولا يبقى متمسك لليهود على ما زعموا من أنه مبعوث إلى العرب خاصة ، فإنه بذكره لا ينفي ما

[ ص: 3679 ] عداه ، لا سيما وقد قال تعالى : وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم : لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي قال ابن الملك : ويجوز أن يكون المراد بالحرز حفظ قومه من عذاب الاستئصال ، أو الحفظ لهم من العذاب ما دام فيهم . قال تعالى : وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ( أنت عبدي ) أي : الخاص كما وصفه بالقرآن في مواضع من القرآن : هو الذي أرسل رسوله بالهدى فالإضافة للعهد كما قال : أكرم زيد عبده إذا كان له عبيد متعددة ، مع أنه إذا أطلق اسم الجنس ، فالمراد به الفرد الأكمل فتأمل . ( سميتك المتوكل ) ، أي : خصصتك بهذا الوصف لكمال توكلك علي وتفويضك إلي وتسليمك لدي عملا بما في القرآن ، وتوكل على الله ، وتوكل على الحي الذي لا يموت ، وكذا في قوله سبحانه : لا نسألك رزقا نحن نرزقك ، ورزق ربك خير وأبقى ، ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب دلالة عليه وإشارة إليه ( ليس بفظ ) : التفات فيه تضمن للفنن . قال الطيبي : يحتمل أن يكون آية أخرى في التوراة لبيان صفته ، وأن يكون حالا من المتوكل أو من الكاف في سميتك ، فعلى هذا فيه التفات اه .

والمعنى ليس بسيئ الخلق أو القول ، ( ولا غليظ ) أي : ضخم كريه الخلق ، أو سيئ الفعل ، أو غليظ القلب ، وهو الأظهر لقوله تعالى : ولو كنت فظا غليظ القلب أي : شديده وقاسيه ، فيناسب حينئذ أن يكون الفظ معناه بذاذة اللسان ، ففيه إيماء إلى طهارة عضويه الكريمين من دنس الطبع ووسخ هوى النفس الذميمين ، وقد قال الكلبي : فظا في القول ، غليظا في الفعل ( ولا سخاب ) : بتشديد الخاء المعجمة أي : صياح ( في الأسواق ) . قال الطيبي أي : هو لين الجانب شريف النفس ، لا يرفع الصوت على الناس لسوء خلقه ، ولا يكثر الصياح عليهم في السوق لدناءته ، بل يلين جانبه لهم ويرفق بهم . قلت : فهو مقتبس من قوله تعالى : فبما رحمة من الله لنت لهم أو مأخوذ من قوله تعالى : رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ( ولا يدفع بالسيئة السيئة ) : لقوله تعالى : وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله ولقوله سبحانه : ادفع بالتي هي أحسن الآية . وإطلاق السيئة على جزائها إما للمشاكلة والمقابلة ، أو لكونه في صورة السيئة ، أو بالإضافة إلى دفعها بالحسنة كأنها سيئة ، ومنه قولهم : حسنات الأبرار سيئات المقربين . ( ولكن يعفو ) أي : عن المسيء ( ويغفر ) أي : يستر ، أو يدعو له بالمغفرة لقوله تعالى : فاعف عنهم واصفح ، وقوله : فاعف عنهم واستغفر لهم وهذا أقرب مراتب معاملته مع المسيئين ، وقد كان يقابلهم بالإحسان إليهم لقوله تعالى : والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين ( ولن يقبضه ) : بالياء التحتية في الأصول المعتمدة وفي نسخة بالنون ، ويؤيد الأول ما في نسخة صحيحة : ولن يقبضه الله بزيادة لفظ الجلالة ، وكذا الحكم في الأفعال الآتية . قال الطيبي وكذا التفات في قوله : ولن يقبضه ياء المثناة من تحت على رواية المشكاة ، ويعضده ما في شرح السنة : ولن يقبضه الله ( حتى يقيم به ) أي : بواسطته ( الملة العوجاء ) : كما في التنزيل ذما للكفار ، ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا . وقال في مدح دين الإسلام . ذلك الدين القيم وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم قال القاضي : يريد به ملة إبراهيم فإنها قد اعوجت في أيام الفترة فزيدت ونقصت وغيرت وبدلت ، وما زالت حتى قام الرسول - صلى الله عليه وسلم - فأقامها أقامها الله وأدامها . ( بأن يقولوا : لا إله إلا الله ) : متعلق .

[ ص: 3680 ] بقوله يقيم ، وفيه إيماء إلى أن إقامة التوحيد في إدامة معنى هذه الكلمة من التفريد ، وقال شارح للمصابيح : قال الله تعالى : ( ولن نقبضه ) أي : رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى نقيم به الملة العوجاء أي : نجعلها مستقيمة ، ويريد بها ما كانت العرب تتدين بها ، وتزعم أنها ملة إبراهيم ، وإنما وصفها بالعوجاء وسماها ملة على الاتساع كما يقال : الكفر ملة . ( ويفتح ) : بالياء والنون على ما سبق وهو منصوب عطفا على قوله : يقيم وفي نسخة السيد بالرفع على القطع أي : وهو يفتح أو نحن ( بها ) أي : بواسطة هذه الكلمة ، وفي نسخة به أي : بهذا النبي أو بهذا القول ( أعينا ) : بالنصب على ما في جميع نسخ المشكاة ( عميا ) : بضم أوله جمع أعمى . قال الطيبي : هذا رواية البخاري ، والدارمي ، وكتاب الحميدي ، وجامع الأصول ، وفي المصابيح : يفتح بها أعين عمياء على بناء المفعول ، والأول أصح رواية ودراية : أقول : ولعل وجه أصحية الدراية هو أن المعطوف عليه بصيغة الفاعل بلا خلاف على اختلاف أنه بالياء أو النون ، ثم قوله : ( وآذانا ) : إلخ على هذا المنوال ، وهو بمد الهمز جمع الأذن ( صما ) : جمع أصم ( وقلوبا غلفا ) . بضم أوله جمع أغلف ، وهو الذي لا يفهم كأن قلبه في غلاف ، وإنما ذكر هذه الأعضاء لأنها آلات للعلوم والمعارف . قال تعالى في حق الكفار : ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة وقال : صم بكم عمي فهم لا يبصرون ولعله لم يذكر اللسان في معرض هذا البيان ، لأنه ترجمان الجنان ، وإناء يترشح بما فيه من الأعيان .

قال الطيبي : فإن قلت : قوله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن يقتضي أن تكون المذكورات كلها مثبتة في القرآن . قلت : أجل أما قوله : " ياأيها النبي إنا أرسلناك " ففي الأحزاب ، وقوله : حرزا للأميين ، ففي الجمعة : هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب وقوله : سميتك المتوكل إلى قوله : ولكن يعفو ويغفر في قوله تعالى : ( ولو كنت فظا غليظ القلب " إلى قوله : إن الله يحب المتوكلين وقوله : ولا سخاب في الأسواق في قوله تعالى : فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين أي : دم على التسبيح والتحميد ، واجعل نفسك من الذين لهم مساهمة ونصيب وافر في السجود ، فلا تخل بها ولا تشغل بغيرها ، ومن ثم قال - صلى الله عليه وسلم : ما أوحي إلي أن أكون من التاجرين ، ولكن أوحي إلي أن أكون من الساجدين فقوله : ولا سخاب في الأسواق من قبيل قوله تعالى : ولا شفيع يطاع إذ هو يحتمل أن يراد به نفي سخاب وحده ونفيهما معا ، وهو المراد هنا . قلت : ويحتمل أن يكون قوله : في الأسواق قيدا معتبرا في النفي احترازا من رفع صوته في القراءة والخطبة في المساجد قال : وقوله : ولا يدفع بالسيئة السيئة في قوله تعالى : ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن وقوله : حتى يقيم به الملة العوجاء في قوله تعالى : قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد أي : ما يوحى إلي إلا أن أقيم التوحيد وأنفي الشرك .

فإن قلت : كيف الجمع بين قوله : ويفتح بها أعينا عميا ، وبين قوله : وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم ؟ قلت : دل إيلاء الفاعل المعنوي حرف النفي على أن الكلام في الفاعل ، وذلك أنه تعالى نزله بحرصه على إيمان القوم منزلة من يدعي استقلاله بالهداية فقال له : أنت لست بمستقل فيه ، بل إنك لتهدي إلى صراط مستقيم بإذن الله وتيسيره اه .

وحاصله أنه قد ينسب الهداية إليه - صلى الله عليه وسلم - نظرا إلى كونه من أسباب الهداية ، ومنه وقوله سبحانه : وإنك لتهدي وتنفى عنه أخرى نظرا إلى أن حقيقة الهداية راجعة إلى الله تعالى ، ومنه قوله سبحانه : إنك لا تهدي من أحببت .

[ ص: 3681 ] فيكون من قبيل قوله تعالى : وما رميت إذ رميت أي : ما رميت خلقا وحقيقة إذ رميت كسبا وصورة ولكن الله رمى حيث جعلك قادرا على الرمي وفاعلا له ، والأظهر أن نفي الهداية عنه إنما هو بالنسبة إلى من لم يرد الله هدايته وإثباتها له فيمن أراده لهذا ، فلا منافاة ، لأنه صلى الله عليه وسلم مظهر هدايته ، كما أن إبليس مظهر ضلالته ، وإلا فهو سبحانه يضل من يشاء ويهدي من يشاء من يضلل الله فلا هادي له ومن يهده الله فلا مضل له . ( رواه البخاري ) أي : عن عطاء بن يسار .




الخدمات العلمية