الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
5869 - وعن البراء بن عازب ، عن أبيه رضي الله عنه ، أنه قال لأبي بكر : يا أبا بكر ! حدثني كيف صنعتما حين سريت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال : أسرينا ليلتنا ومن الغد ، حتى قام قائم الظهيرة .

وخلا الطريق لا يمر فيه أحد ، فرفعت لنا صخرة طويلة ، لها ظل لم يأت عليها الشمس ، فنزلنا عندها ، وسويت للنبي - صلى الله عليه وسلم - مكانا بيدي ينام عليه ، وبسطت عليه فروة ، وقلت : نم يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أنفض ما حولك ، فنام وخرجت أنفض ما حوله ، فإذا أنا براع مقبل ، قلت : أفي غنمك لبن ؟ قال : نعم قلت : أفتحلب ؟ قال : نعم . فأخذ شاة فحلب في قعب كثبة من لبن ، ومعي إداوة حملتها للنبي - صلى الله عليه وسلم - يرتوى فيها ، يشرب ويتوضأ ، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فكرهت أن أوقظه فوافقته حتى استيقظ ، فصببت من الماء على اللبن حتى برد أسفله ، فقلت : اشرب يا رسول الله ! فشرب حتى رضيت ، ثم قال : ( ألم يأن للرحيل ؟ ) قلت : بلى . قال : فارتحلنا بعدما مالت الشمس ، واتبعنا سراقة بن مالك ، فقلت : أتينا يا رسول الله فقال : ( لا تحزن إن الله معنا ) فدعا عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فارتطمت به فرسه إلى بطنها في جلد من الأرض فقال : إني أراكما دعوتما علي ، فادعوا لي ، فالله لكما أن أرد عنكما الطلب ، فدعا له النبي - صلى الله عليه وسلم - فنجا ، فجعل لا يلقى أحدا إلا قال : كفيتم ، ما هاهنا ، فلا يلقى أحدا إلا رده . متفق عليه .


التالي السابق


5869 - ( وعن البراء بن عازب ) ، صحابيان جليلان ( عن أبيه ، أنه قال لأبي بكر : يا أبا بكر ! حدثني كيف صنعتما حين سريت ) : من سرى لغة في أسرى بمعنى السير في الليل أي : حين سافرت من مكة إلى المدينة للهجرة بعد الخروج من الغار ( [ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - ] قال : أسرينا ليلتنا ) أي : جميعها ( ومن الغد ) ، أي : وبعضه وهو نصفه كما يفيد قوله : ( حتى قام قائم الظهيرة ) ، أي : بلغت الشمس وسط السماء ، ففي النهاية أي : قامت الشمس وقت الزوال من قولهم : قامت به دابته ، أي : وقفت ، والمعنى أن الشمس إذا بلغت وسط السماء أبطأت حركة الظل .

[ ص: 3777 ] إلى أن تزول ، فيحسب الناظر أنها قد وقفت وهي سائرة ، لكن سيرا لا يظهر له أثر سريع كما يظهر قبل الزوال وبعده ، فيقال لذلك الوقوف المشاهد : قام قائم الظهيرة ( وخلا الطريق ) أي : صار خاليا عن مرور الفريق ( لا يمر فيه أحد ) ، تأكيد لما قبله أو بيان ( فرفعت لنا صخرة طويلة ) ، أي أظهرت . قال الطيبي : ومنه رفع الحديث ، وهو إذاعته وإظهاره ، وفيه بحث لأن الحديث المرفوع خاص بما أسند إليه - صلى الله عليه وسلم - وسمي الحديث به لأنه يحصل له كمال الرفعة بسببه أي : لتلك الصخرة ( ظل ) أي : عظيم من صفته ( إنه لم تأت ) : بالتأنيث ويذكر أي : لم تحكم عليه ( الشمس ) ، أي بشعاعها حينئذ ( فنزلنا عندها ) ، أي عند الصخرة ( وسويت للنبي - صلى الله عليه وسلم - مكانا بيدي ) : بصيغة التثنية إشعارا بزيادة الاهتمام في الخدمة ( ينام عليه ) ، استئناف تعليل أو صفة لمكانا ( وبسطت عليه فروة ) ، أي : وفرشت على المكان جلدا بشعره ( وقلت : نم يا رسول الله ! وأنا أنفض ما حولك ) ، بضم الفاء أي : أتجسس الأخبار ، وأتفحص عن العدو ، وأرى هل هناك مؤذ من عدو وغيره ؟ من النفض الذي هو سبب النظافة من نحو الغبار . وفي النهاية أي : أحرسك وأطوف هل أرى طلبا ؟ يقال : نفضت المكان إذا نظرت جميع ما فيه ، والنفضة بفتح الفاء وسكونها والنفيضة قوم يبعثون متجسسين هل يرون عدوا أو خوفا ؟ ( فنام وخرجت أنفض ما حوله فإذا أنا براع مقبل ) ، بالجر صفة راع ، ومعناه جاء من قبلنا ومن جهة قدامنا . ( قلت : أفي غنمك لبن ؟ قال : نعم . قلت : أفتحلب ) ؟ بضم اللام ويجوز كسره على ما في القاموس ، والمعنى أفتحلبها لي ؟ ( قال : نعم . فأخذ شاة فحلب في قعب ) ، بفتح القاف وسكون العين أي : في قدح من خشب مقعر ( كثبة ) : بضم الكاف وسكون المثلثة فموحدة أي : قدر حلبته ( من لبن ) ، وقيل : ملء القدح من اللبن ، فقوله : من لبن على قصد التجريد أو لمزيد التأكيد ( ومعي إداوة ) : بكسر الهمز أي : ظرف ماء مطهرة أو سقاية ( حملتها للنبي - صلى الله عليه وسلم - ) أي : خاصة أو خالصة في النية وقصد الطوية ( يرتوي فيها ) ، قال التوربشتي : رويت من الماء بالكسر وارتويت وترويت كلها بمعنى . قال الطيبي : فعلى هذا ينبغي أن يقال : يرتوي منها لا فيها . قلت : في القاموس : إن في تأتي بمعنى ( من ) ، أو التقدير يرتوي من الماء فيها . وقال النووي : معنى يرتوي فيها جعل القدح آلة للري والسقي ، ومنه الرواية الإبل التي يستقي عليها الماء اهـ .

فعلى هذا يكون في بمعنى الباء ، ثم قوله : ( يشرب ويتوضأ ) ، مستأنفان للبيان ، والجملة أعني قوله : ومعي إلخ ، حالية معترضة بين قوله : فحلب ، وقوله : ( فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ) ، أي باللبن

( فكرهت أن أوقظه ) ، أي أنبهه من النوم لاستغراقه فيه ( فوافقته ) : بتقدم الفاء على القاف في النسخ المصححة أي : تأنيث به ( حتى استيقظ ) : وأبعد من قال أي : فوافقته في النوم إلا أن يقال : المعنى فوافقته في اختياره النوم ، لأن الإيقاظ نوع مخالفة له . قال صاحب الخلاصة : وفي بعض نسخ البخاري حين استيقظ أي : وافق إتياني وقت استيقاظه ، ويؤيده ما في بعض الروايات ، فوافقته وقد استيقظ . وقال شارح : روي بتقديم القاف على الفاء من الوقوف ، والمعنى صبرت عليه ، وتوقفت في المجيء إليه حتى استيقظ ( فصببت من الماء ) أي : بعضه ( على اللبن ) أي : تبريدا ( حتى برد أسفله ) : كناية عن كثرته ( فقلت : اشرب يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فشرب حتى رضيت ) أي : طاب خاطري ( ثم قال : ألم يأن للرحيل ) ؟ من أنى يأني إذا دخل وقت الشيء ، والمعنى ألم يدخل وقت الرحيل ؟ كذا قاله شارح ، والأظهر في المعنى ألم يأت وقت التحويل للرحيل ؟ وهو السير الجميل إلى موضع النخيل ، فيطابق قوله

[ ص: 3778 ] تعالى : ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله ( قلت : بلى . قال ) أي : أبو بكر ( فارتحلنا بعد ما مالت الشمس ) أي : من وسط السماء ، وحصل برد الهواء ( واتبعنا ) : بتشديد التاء الفوقية ، وفي نسخة بهمزة قطع وسكون فوقية أي : وقد لحقنا ( سراقة بن مالك ) : بضم السين . قال المؤلف في فصل الصحابة : هو سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي الكناني ، كان ينزل قديدا ، ويعد في أهل المدينة ، روى عنه جماعة ، وكان شاعرا مجيدا ( فقلت : أتينا ) : بصيغة المجهول أي : أتانا العدو ( يا رسول الله ! فقال : لا تحزن إن الله معنا . فدعا عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فارتطمت به فرسه ) أي : ساخت قوائمها كما تسوخ في الرمل ( إلى بطنها في جلد ) : بفتحتين أي : صلب من الأرض ( فقال : إني أراكما ) : بفتح الهمز من الرأي ( دعوتما علي ) ، أي بالمضرة ( فادعوا لي ) ؟ أي بالمنفعة والنجاة من المشقة ( فالله لكما ) : بالرفع وفي نسخة بالنصب . قال شارح : هو مرفوع بالابتداء أي : فالله كفيل علي لكما أن لا أهم بعد ذلك لغدركما ، أو فالله مستجيب والفاء للسببية ، وقوله : ( أن أرد عنكما الطلب ) ، متعلق بادعوا أي : لأن أرد أو منصوب بإضمار فعل ، أي : أسأل الله لكما أن أرد عنكما الطالب أي : طلب الكفار الذين طلبوكما . وقال الأشرف : الجار محذوف . وتقديره : بأن أرد . وقوله : فالله لكما حشو بينهما . ويمكن أن يقال : فالله مبتدأ ، ولكما خبره ، وقوله : أن أرد خبر ثان للمبتدأ . وقال غيره : معناه فادعوا لي كي لا يرتطم فرسي على أن أترك طلبكما ولا أتبعكما بعد ، ثم دعا لهما بقوله : فالله لكما أي : الله تعالى حافظكما وناصركما حتى تبلغا بالسلامة إلى مقصدكما ، أي ويجوز أن يكون معناه ادعوا لي حتى أنصرف عنكما ، فإن الله تعالى قد تكفل بحفظكما عني وحبسني عن البلوغ إليكما . قال الطيبي : الفاء في ( فالله ) تقتضي ما يترتب بعدها عليه ، فالتقدير ادعوا لي بأن أتخلص مما أنا فيه ، فإنكما إن فعلتما فالله أشهد لأجلكما أن أرد عنكما الطلب ، ويؤيد هذا التقدير ما في شرح السنة ، والله على القسم أي : أقسم بالله لكما على أن أرد الطلب عنكما .

( فدعا له النبي - صلى الله عليه وسلم - فنجا ) ، أي : فتخلص من العناء كما رجا ( فجعل ) أي : فشرع في الوفاء بما وعد ( لا يلقى أحدا ) أي : من ورائهما ( إلا قال : كفيتم ) ، بصيغة المفعول ، وفي نسخة : لقد كفيتم أي ، استغنيتم عن الطلب في هذا الجانب ، لأني كفيتكم ذلك ( ما هاهنا ) أي : ليس هاهنا ( أحد ) : فما : نافية على ما ذكره بعض الشراح . وقال الطيبي ، ما هاهنا بمعنى الذي أي كفيتم الذي هاهنا اهـ . والأول أظهر ، وهو أولى لما يستفاد منه التأكيد كما لا يخفى ، كقوله : ( فلا يلقى أحدا إلا رده ) . أي بهذا المعنى ( متفق عليه ) . قال النووي : فيه فوائد : منها هذه المعجزة الظاهرة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - والفضيلة الباهرة لأبي بكر رضي الله عنه من وجوه ، وفيه خدمة التابع للمتبوع ، واستصحاب الركوة ونحوها في السفر للطهارة والشرب ، وفيه فضل التوكل على الله تعالى وحسن عاقبته .




الخدمات العلمية