الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
5902 - وعن أنس - رضي الله عنه - قال : أصابت الناس سنة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبينا النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب في يوم الجمعة قام أعرابي فقال : يا رسول الله ! هلك المال ، وجاع العيال ، فادع الله لنا . فرفع يديه وما نرى في السماء قزعة ، فوالذي نفسي بيده ما وضعها حتى ثار السحاب أمثال الجبال ، ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته ، فمطرنا يومنا ذلك ، ومن الغد ، ومن بعد الغد حتى الجمعة الأخرى ، وقام ذلك الأعرابي - أو غيره - فقال : يا رسول الله ! تهدم البناء ، وغرق المال ، فادع الله لنا ، فرفع يديه فقال : ( اللهم حوالينا ولا علينا ) . فما يشير إلى ناحية من السحاب إلا انفرجت وصارت المدينة مثل الجوبة ، وسال الوادي قناة شهرا ، ولم يجئ أحد من ناحية إلا حدث بالجود .

وفي رواية قال : ( اللهم حوالينا ولا علينا ، اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ، ومنابت الشجر ) . قال : فأقلعت ، وخرجنا نمشي في الشمس
. متفق عليه .

التالي السابق


5902 - ( وعن أنس - رضي الله عنه - قال : أصابت الناس سنة ) ، أي : قحط ( على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) أي في زمانه ( فبينا النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب في يوم الجمعة قام أعرابي فقال : يا رسول الله ! هلك المال ) ، أي المواشي ، لأنها أكثر أموالهم ، وهلاكها إما بتغيرها أو بموتها ( وجاع العيال ) ، وهو بكسر العين من يلزمه النفقة من الأهل ، [ ص: 3802 ] ( فادع الله لنا ) . أي : متضرعا إليه ( فرفع يديه ) ، أي : بالسؤال لديه ( وما نرى ) ، أي : نحن ( في السماء قزعة ) ، بفتح القاف والزاي أي : قطعة من السحاب ( فوالذي نفسي بيده ما وضعها ) ، أي : يده ، وأفرد الضمير باعتبار إرادة الجنس ( حتى ثار السحاب ) ، أي : سطع وظهر جنس السحاب ظهورا كاملا ( أمثال الجبال ، ثم لم ينزل عن منبره ، حتى رأيت المطر يتحادر ) : في النهاية ، أي ينزل ويقطر ، وهو يتفاعل من الحدور ضد الصعود يتعدى ولا يتعدى اهـ . والمعنى حتى يتساقط المطر . ( على لحيته ) : وقيل : يريد أن السقف قد وكف حتى نزل الماء عليه ، ذكره ابن الملك . ولا يخفى بعده ( فمطرنا ) : بصيغة المفعول أي : جاءنا المطر ( يومنا ) ، أي : بقية يومنا ( ذلك ) ، وهو يوم الجمعة ( ومن الغد ومن بعد الغد ) : يحتمل أن تكون من تبعيضية ، والأظهر أنها ابتدائية لقوله : ( حتى ) ، أي : إلى ( الجمعة الأخرى ، وقام ذلك الأعرابي ) : حال أي : وقد قام ذلك الأعرابي بعينه ( أو غيره ) : من الأعراب أو من غيرهم . قال الحافظ العسقلاني : وفي رواية : ثم دخل رجل في الجمعة المقبلة ، وهذا ظاهره أنه غير الأول ، وفي رواية : حتى جاء ذلك الأعرابي في الجمعة الأخرى ، وهذا يقتضي الجمع بكونه واحدا ، فلعل أنسا ذكره بعد أن نسيه ، أو نسيه بعد أن ذكره . قلت : ويحتمل أنه تردد في كون القائم الثاني هو الأول ، لكن غلب على ظنه تارة أنه هو ، فعبر عنه بالجزم ، وتارة أنه غيره ، فعبر عنه بالتنكير ، وتارة أتى بصيغة الشك لاستواء الأمرين عنده ، فالشك منه لا من غيره والله تعالى أعلم .

( فقال ) ، أي : القائم ( يا رسول الله ! تهدم ) : بتشديد الدال ، أي : خرب ( البناء ، وغرق المال ) : بكسر الراء أي : صار غريقا ( فادع الله لنا ، فرفع يديه فقال : اللهم حوالينا ) ، أي : أمطر حوالينا بفتح اللام أي : في مواضع المنافع الحاصلة لنا ثم أكده بقوله . ( ولا علينا ) ، أي : لا تمطر في مواضع المضرة الواقعة علينا . قال العسقلاني ، أي : أنزل الغيث في وضع النبات لا على الأبنية يقال : قعد حوله وحواله وحوليه وحواليه بفتح اللام ، ولا يقال حواليه بكسر اللام ، قاله الجوهري وغيره ، ثم قال : وفي قوله : ( ولا علينا ) بيان للمراد بقوله : ( حوالينا ) ثم في إدخال الواو هاهنا معنى لطيف ، وذلك لأنه يقتضي أن طلب المطر على حوالينا ليس مقصودا لعينه ، بل ليكون وقاية عن أذى المطر . قلت : الواو خالصة للعطف لكنها للتعليل كقولهم : تجوع الحرة ولا تأكل بثديها ، فإن الجوع ليس مقصودا بعينه ، لكن لكونه مانعا من الرضاع بأجرة إذ كانوا يكرهون ذلك اهـ .

وقال بعض المحققين : أوثر حوالينا لمراعاة الازدواج مع قوله : علينا نحو قوله تعالى : من سبإ بنبإ يقين وقال الطيبي ، قوله : ( ولا علينا ) عطف على جملة ( حوالينا ) ولو لم تكن الواو لكان حالا أي : أمطر على المزارع ، ولا تمطر على الأبنية ، وأدمج في قوله : علينا معنى المضرة كأنه قيل : اجعل لنا لا علينا . ( فما يشير ) : حكاية حال ماضية ( إلى ناحية ) ، أي : جانب من السحاب جمع سحابة ( إلا انفرجت ) ، أي : انكشفت وتفرقت ( وصارت المدينة ) ، أي : جوها ( مثل الجوبة ) ، بفتح الجيم وسكون الواو الفرجة في السحاب ، والمعنى أن المطر أو الغيم انكشف عما يحاذينا ، وأحاط بما حولنا بحيث صار جو المدينة مثل الجوبة خاليا عن السحاب ، فحذف المضاف وهو الجو ، وأقيم المضاف إليه مقامه ، كذا ذكره شارح . وقيل : المعنى حتى صارت المدينة مثل الحفرة المستديرة الواسعة ، وصار الغيم محيطا بأطراف المدينة منكشفا عنها . ( وسال الوادي قناة ) : بالضم على أنه بدل أو بيان للوادي ، وهي علم له غير منصرف ، وفي نسخة بالفتح بتقدير أعني ، وفي أخرى بتنوينها ( شهرا ) ، ظرف سال . قال ميرك : أعرب قناة بالضم على البدل بناء على أن قناة اسم الوادي ، ولعله من تسمية الشيء باسم ما جاوره أقول : فالقناة اسم أرض بجنب .

[ ص: 3803 ] الوادي ، والظاهر أنها محفورة في الأرض يكون نهر في بطنها يقال لها بالفارسية : كاريز ، وسمي بها لطولها المشبه بالقناة ، وهي الرمح ، وقيل هو بالنصب والتنوين على التشبيه أي سال مثل قناة . قيل ووقع في رواية البخاري حتى سال وادي قناة شهرا ، وصحح بغير تنوين في هذه الرواية اهـ . كلامه ناقلا عن العسقلاني .

وقال شارح : قناة نصب على الحال من فاعل سال أي : سال الوادي سائلا مثل القناة ، ولما كان من شأن القناة الاستمرار على الجري حسن أن يجعل حالا من الوادي ، ويجوز فيه المصدر أي سيلان القناة . وقال الطيبي : نصب على الحال أو المصدر على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه أي : مثل القناة ، أو سيلان القناة في الدوام والاستمرار والقوة والمقدار . وقال بعض المحققين : قناة بفتح القاف والنون المخففة علم على أرض ذات مزارع ناحية أحد ، وواديها أحد أودية المدينة المشهورة قاله الحازمي ، وذكر محمد بن الحسن المخزومي في أخبار المدينة : إن أول من سماه وادي قناة تبع اليماني ، لما قدم يثرب قبل الإسلام ، وقيل الفقهاء يقولونه بالنصب والتنوين يتوهمونه قناة من القنوات ، وليس كذلك ، وهو الذي جزم به بعض الشراح ، وقال : المعنى على التشبيه أي : سال مثل القناة ، وعبارة البخاري : حتى سال الوادي قناة شهرا . قال الكرماني : قناة علم موضع . قيل : إنه الوادي الذي عنده قبر حمزة - رضي الله عنه - وهو يأتي من الطائف . وقيل : نصب قناة على التمييز ، أي : مقدار قناة بناء على أن تفسير قناة بالرمح أولى منه بحفرة في الأرض ; لأنه قلما بلغ القناة في كثرة مياهها مبلغ السيول ، وفيه بحث لا يخفى على ذوي النهى . ( ولم يجئ أحد من ناحيته ) ، أي : من جوانب المدينة ( إلا حدث ) ، أي : أخبر ( بالجود ) : بفتح الجيم وسكون الواو أي المطر الكثير .

( وفي رواية قال : اللهم حوالينا ولا علينا ، اللهم على الآكام ) : بالمد ، وفي نسخة بكسر الهمزة جمع الأكمة ، وهي التل والرابية ، وقيل الأكمة يجمع على أكم ، ويجمع الأكم على آكام كجبل وجبال ، ويجمع الآكام على أكم مثل كتاب وكتب ، ويجمع الأكم على آكام كعنق وأعناق . وقال ابن الملك : هو بفتح الهمزة ممدودة وكسرها مقصورة جمع أكمة محركة ، وهو ما ارتفع من الأرض . ( والظراب ) : بكسر الظاء المعجمة أي : الجبال الصغار ( وبطون الأدوية ) ، أي : الخالية عن الأبنية ( ومنابت الشجر ) ، أي : المنتج للثمر ( قال ) ، أي : أنس ( فأقلعت ) ، وفي نسخة بصيغة المجهول أي : كفت السحاب عن المطر ، وقيل : انكشفت ، والتأنيث لأنه جمع سحابة يقال : أقلع المطر انقطع ، وفي القاموس . أقلعت عنه الحمى تركته ، والإقلاع عن الأمر الكف ، وفي المشارق : أقلع المطر كف ، ومنه قوله تعالى : ويا سماء أقلعي اهـ . وتبين أن صيغة المفعول من رواية المجهول والله أعلم . ( وخرجنا نمشي في الشمس ) . قال النووي : فيه استحباب طلب انقطاع المطر عن المنازل ، والمرافق إذا كثر وتضرروا به ، ولكن لا يشرع له صلاة ولا اجتماع في الصحراء . ( متفق عليه ) .




الخدمات العلمية