الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
96 - وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال : خرج رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) ، وفي يديه كتابان ، فقال : " أتدرون ما هذان الكتابان ؟ " . قلنا : لا ، يا رسول الله ! إلا أن تخبرنا فقال للذي في يده اليمنى : ( هذا كتاب من رب العالمين ، فيه أسماء أهل الجنة ، وأسماء آبائهم ، وقبائلهم ، ثم أجمل على آخرهم ، فلا يزاد فيهم ، ولا ينقص منهم أبدا . ثم قال للذي في شماله : ( هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل النار ، وأسماء آبائهم ، وقبائلهم ، ثم أجمل على آخرهم ؛ فلا يزاد فيهم ، ولا ينقص منهم أبدا ) فقال أصحابه : ففيم العمل يا رسول الله إن كان أمر قد فرغ منه ؟ فقال : ( سددوا ، وقاربوا ؛ فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة ، وإن عمل أي عمل ، وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار ، وإن عمل أي عمل ) . ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيديه فنبذهما ، ثم قال : ( فرغ ربكم من العباد ( فريق في الجنة وفريق في السعير ) رواه الترمذي .

التالي السابق


96 - ( وعن عبد الله بن عمرو ) : بالواو . ( رضي الله عنهما ، قال : خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وفي يديه ) : وفي بعض النسخ : وفي يده كما في أكثر نسخ المصابيح فيراد بها الجنس ( كتابان ) : والواو للحال ( فقال ) : ( أتدرون ) أي : أتعلمون ( ما هذان الكتابان ؟ ) : الظاهر من الإشارة أنهما حسيان ، وقيل : تمثيل ، واستحضار [ ص: 172 ] للمعنى الدقيق الخفي في مشاهدة السامع حتى كأنه ينظر إليه رأي العين ، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لما كوشف له بحقيقة هذا الأمر ، وأطلعه الله عليه اطلاعا لم يبق معه خفاء صور الشيء الحاصل في قلبه بصورة الشيء الحاصل في يده ، وأشار إليه إشارة إلى المحسوس ( قلنا : لا ) أي : لا ندركه ( يا رسول الله ! إلا أن تخبرنا ) : استثناء مفرغ ؛ أي : طلبوا بهذا الاستدراك إخباره إياهم ( فقال للذي في يده اليمنى ) أي : لأجله ، وفي شأنه ، أو عنه ، وقيل : قال بمعنى أشار فاللام . بمعنى ( إلى ) ( هذا كتاب من رب العالمين ) : خصه بالذكر دلالة على أنه تعالى مالكهم ، وهم له مملوكون يتصرف فيهم كيف يشاء ، فيسعد من يشاء ، ويشقي من يشاء ، وكل ذلك عدل وصواب ، فلا اعتراض لأحد عليه ، وقيل : الظاهر أن هذا كلام صادر على طريق التصوير والتمثيل مثل الثابت في علم الله تعالى ، أو المثبت في اللوح بالمثبت بالكتاب الذي كان في يده ، ولا يستبعد إجراؤه على الحقيقة ، فإن الله تعالى قادر على كل شيء ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - مستعد لإدراك المعاني الغيبية ، ومشاهدة الصور المصوغة لها ( فيه أسماء أهل الجنة ، وأسماء آبائهم وقبائلهم ) : الظاهر أن كل واحد من أهل الجنة ، وأهل النار يكتب أسماؤهم ، وأسماء آبائهم ، وقبائلهم ، سواء كانوا من أهل الجنة ، أو النار للتمييز التام ، كما يكتب في الصكوك . قال الأشرف : أهل الجنة تكتب أسماؤهم وأسماء آبائهم ، وقبائلهم للذين هم أهل النار في الكتاب الذي باليمين ، وبالعكس في أهل النار ، وإلا فالآباء والأبناء إذا كانوا من جنس أهل الجنة ، أو من جنس أهل النار ، فلا حاجة إلى إفراد ذكرهم لدخولهم تحت قوله : فيه أسماء أهل الجنة ، وفيه أسماء أهل النار ( ثم أجمل على آخرهم ) : من قولهم : أجمل الحساب إذا تمم ورد التفصيل إلى الإجمال ، وأثبت في آخر الورقة مجموع ذلك وجملته كما هو عادة المحاسبين أن يكتبوا الأشياء مفصلة ، ثم يوقعوا في آخرها فذلكة ترد التفصيل إلى الإجمال ، وضمن ( أجمل ) معنى أوقع فعدي بعلى أي : أوقع الإجمال على من انتهى إليه التفصيل ، وقيل : ضرب بالإجمال على آخر التفصيل أي : كتب . ويجوز أن يكون حالا أي : أجمل في حال انتهاء التفصيل إلى آخرهم فعلى بمعنى ( إلى ) ( فلا يزاد فيهم ) : جزاء شرط ؛ أي : إذا كان الأمر على ما تقرر من التفصيل ، والتعيين والإجمال بعد التفصيل في الصك فلا يزاد فيهم ( ولا ينقص ) : بصيغة المجهول ( منهم أبدا ) : لأن حكم الله لا يتغير ، وأما قوله تعالى : ( لكل أجل كتاب يمحوا الله ما يشاء ويثبت ) فمعناه لكل انتهاء مدة وقت مضروب ، فمن انتهى أجله يمحوه ، ومن بقي من أجله يبقيه على ما هو مثبت فيه ، وكل ذلك مثبت عند الله في أم الكتاب ، وهو القدر ، كما أن ( يمحو ويثبت ) هو القضاء فيكون ذلك عين ما قدر وجرى في الأول ، كذلك فلا يكون تغييرا ، أو المراد منه محو المنسوخ من الأحكام ، وإثبات الناسخ ، أو محو السيئات من التائب ، وإثبات الحسنات بمكافأته ، وغير ذلك ، ويمكن أن يقال : المحو ، والإثبات يتعلقان بالأمور المعلقة دون الأشياء المحكمة ، والله أعلم . ففي الجامع الصغير برواية الطبراني عن ابن عباس مرفوعا ( إن الله تعالى خلق لوحا محفوظا من درة بيضاء صفحاتها من ياقوتة حمراء ، قلمه نور ، وكتابه نور ، لله في كل يوم ستون وثلاثمائة لحظة ؛ يخلق ، ويرزق ، ويميت ، ويحرس ، ويعز ، ويذل ، ويفعل ما يشاء ) قال ابن حجر ، ولا ينافيه قوله تعالى : ( يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب ) لما مر أن المحو والإثبات إنما هو بالنسبة لما في اللوح المحفوظ وعلم الملائكة ؛ لأن الأشياء فيه قد تكون معلقة على أسباب يتغير بوجودها ، وفقدها لا لأم الكتاب المراد بها علم الله تعالى القديم ؛ لأنه لا محو فيه ، ولا إثبات ، وسر ذلك التعليق مع أنه لا يقع إلا الموافق للعلم القديم مزيد التعمية على الملائكة المطلعين على ذلك ، وتحقيق انفراده تعالى [ ص: 173 ] بعلمه القديم ، وأنه لا يمكن أحدا أن يطلع عليه إلا بالنسبة لجزئيات معينة كإعلامه - عليه الصلاة والسلام - لجماعة من أصحابه على التعيين أنهم من أهل الجنة . ( ثم قال للذي في شماله : ( هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل النار ، وأسماء آبائهم ، وقبائلهم ) : والفاسق مسكوت عنه كما هو دأب الآيات القرآنية ، والأحاديث النبوية في جميع الأحكام الوعدية ، والوعيدية ، ليكون بين الخوف والرجاء راضيا . بما جرى عليه من القضاء ، والأظهر أنه مكتوب في أهل الجنة ؛ لأن مآله إليها ، وإن دخل النار فإن الخاتمة هي المدار عليها . ( ثم أجمل على آخرهم ، فلا يزاد فيهم ، ولا ينقص منهم أبدا ) . فقال أصحابه ) : رضي الله عنهم ( ففيم العمل يا رسول الله إن كان أمر قد فرغ منه ) : بصيغة المجهول يعني إذا كان المدار على كتابة الأزل فأي فائدة في اكتساب العمل ؟ ( فقال : سددوا ) أي : اجعلوا أعمالكم مستقيمة على طريق الحق ( وقاربوا ) أي : اطلبوا قربة الله تعالى بطاعته بقدر ما تطيقونه ، والجواب من أسلوب الحكيم ؛ أي : فيم أنتم من ذكر القدر والاحتجاج به ، وإنما خلقتم للعبادة فاعملوا ، وسددوا ، وقاربوا قاله الطيبي . وقال الشيخ ابن حجر في شرح البخاري : سددوا أي : الزموا السداد ، وهو الصواب من غير إفراط وتفريط ، وقاربوا أي : إن لم تستطيعوا الأخذ بالأكمل فاعملوا بما يقرب منه . وقال الكرماني : وقاربوا في العبادة ، ولا تباعدوا فإنكم إن باعدتم في ذلك لم تبلغوه ، أو معناه ساعدوا . يقال : قاربت فلانا إذا ساعدته أي : ليساعد بعضكم بعضا في الأمور ، وحاصل الجواب - والله أعلم بالصواب - : نفي الجبر ، والقدر ، وإثبات الحكم باعتدال الأمرين كتابة الأزل ، وسراية العمل ، أو لأن الأعمال أمارات ، وعلامات فلا بد من وجودها إذ لا يعمل الله تعالى بمجرد علمه ، والله أعلم ، ولذا قال - صلى الله عليه وسلم - : ( فإن صاحب الجنة يختم له ) : بصيغة المجهول ( بعمل أهل الجنة ) أي : بعمل مشعر بإيمانه ، ومشير بإيقانه ، ( وإن عمل ) أي : ولو عمل قبل ذلك ( أي عمل ) من أعمال أهل النار ( وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار ) : أعم من الكفر ، والمعاصي ( وإن عمل أي عمل ) أي : قبل ذلك من أعمال أهل الجنة ( ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) أي : أشار ( بيديه ) ؛ العرب : تجعل القول عبارة عن جميع الأفعال ، فتطلقه على غير الكلام واللسان ، فتقول قال بيده أي : أخذ ، وقال برجله أي : مشى .


وقالت له العينان سمعا وطاعة وحدرتا كالدر لما يثقب



أي : أومأت ، وقال بالماء على يده ، أي : قلب ، وقال بثوبه أي : رفعه ( فنبذهما ) أي : طرح ما فيهما من الكتابين ؛ قيل : وراء ظهره ، وفي الأزهار الضمير في نبذهما لليدين ؛ لأن نبذ الكتابين بعيد من دأبه اهـ . وفيه أن نبذهما ليس بطريق الإهانة ، بل إشارة إلى أنه نبذهما إلى عالم الغيب ، ثم هذا كله إذا كان هناك كتاب حقيقي ، وأما على التمثيل فيكون المعنى نبذهما أي : اليدين . قال بعضهم : قوله قال بيديه فنبذهما . بمنزلة قوله : جف القلم بما أنت لاق ، كناية عن أن هذا الأمر قد فرغ منه فصار كما تخلفه وراء ظهرك ؛ فيكون معنى قوله : ثم قال : ( فرغ ربكم ) : تفسيرا لهذا الفعل ، ويكون نتيجة لهذا الكلام ( من العباد ) : قال الأشرف أي : من أمر العباد ، والمراد بالأمر الشأن ؛ أي : قدر أمرهم لما قسمهم قسمين ، وقدر لكل قسم على التعيين كونه من أهل الجنة ، أو النار بحيث لا يقبل التغيير فكأنه فرغ من أمرهم ، وإلا فالفراغ لا يجوز عليه تعالى ( فريق في الجنة وفريق في السعير ) : يمكن أن يكون [ ص: 174 ] هذا استشهادا من القرآن ، واعتضادا بالفرقان على أن أمر الفريقين مبهم عندنا ومجمل ، ومعلوم عنده تعالى ومفصل ، ويمكن أن يكون موافقة لفظية ، ومطابقة معنوية بنوع من الاقتباسات الحكمية ، والتضمنات بالكلمات الإلهية ، والله تعالى أعلم . ( رواه الترمذي ) .




الخدمات العلمية