الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الفصل الثالث

1147 - عن عبيد الله بن عبد الله ، قال : دخلت على عائشة ، فقلت : ألا تحدثيني عن مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : بلى ، ثقل النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : " أصلى الناس ؟ " فقلنا : لا يا رسول الله ! وهم ينتظرونك . فقال : " ضعوا لي ماء في المخضب " ، قالت : ففعلنا ، فاغتسل ، فذهب لينوء ، فأغمي عليه ، ثم أفاق ، فقال : " أصلى الناس ؟ " فقلنا : لا هم ينتظرونك يا رسول الله ! قال : " ضعوا لي ماء في المخضب " . قالت : فقعد فاغتسل ، ثم ذهب لينوء ، فأغمي عليه ، ثم أفاق ، فقال : " أصلى الناس ؟ " فقلنا : لا هم ينتظرونك يا رسول الله ؟ قال : " ضعوا لي ماء في المخضب " . فقعد فاغتسل ، ثم ذهب لينوء ، فأغمي عليه ، ثم أفاق ، فقال : " أصلى الناس ؟ " قلنا لا ، هم ينتظرونك يا رسول الله . والناس عكوف في المسجد ينتظرون النبي صلى الله عليه وسلم لصلاة العشاء الآخرة ، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر بأن يصلي بالناس ، فأتاه الرسول ، فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تصلي بالناس ، فقال أبو بكر - وكان رجلا رقيقا - : يا عمر ! صل بالناس ، فقال له عمر : أنت أحق بذلك ، فصلى أبو بكر تلك الأيام . ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم وجد في نفسه خفة ، وخرج بين رجلين أحدهما العباس لصلاة الظهر ، وأبو بكر يصلي بالناس ، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر ، فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وسلم بأن لا يتأخر ، قال : " أجلساني إلى جنبه " ، فأجلساه إلى جنب أبي بكر ، والنبي صلى الله عليه وسلم قاعد ، وقال عبيد الله : فدخلت على عبد الله بن عباس ، فقلت له : ألا أعرض عليك ما حدثتني به عائشة من مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : هات ، فعرضت عليه حديثها فما أنكر منه شيئا ، غير أنه قال : أسمت لك الرجل الذي كان مع العباس ؟ قلت : لا ، قال : هو علي رضي الله عنه . متفق عليه .

التالي السابق


الفصل الثالث

1147 - ( عن عبيد الله بن عبد الله ) أي : ابن عتبة بن مسعود قاله ميرك : وقد صرح به ابن الهمام ، وقول ابن حجر ، أي : ابن عمرو غير صحيح ، قال المؤلف : هو من كبار التابعين ( قال : دخلت على عائشة ، فقلت : ألا تحدثيني عن مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ) أي : مرض موته ( قالت : بلى ، ثقل النبي صلى الله عليه وسلم ) : بضم القاف ، أي اشتد [ ص: 882 ] مرضه ( فقال : " أصلى الناس ؟ " فقلنا ) : وفي نسخة : قلت : ( لا ) أي : ما صلوا ( يا رسول الله وهم ينتظرونك ) أي : خروجك أو أمرك ، قال الطيبي : حال من المقدر ، أي : لم يصلوا ، والحال أنهم ينتظرونك ( فقال ) : وفي نسخة عفيف قال : ( ضعوا ) : أمر من الوضع ( لي ) أي : لأجلي ( ماء في المخضب ) : بكسر الميم شبه المركن وهي إجانة يغسل فيها الثياب . ( قالت : ففعلنا ) أي : نحن مع الخدم ( فاغتسل ، فذهب ) أي : شرع ( لينوء ) أي : يقوم ، قال الطيبي : النوء النهوض والطلوع . ( فأغمي عليه ) أي : لشدة ما حصل له من تناهي الضعف وفتور الأعضاء عن تمام الحركة ، وفيه جواز الإغماء على الأنبياء ، وحكمة ما يعتريهم من المرض ومصائب الدنيا تكثير أجورهم وتسلية الناس بأحوالهم وأمورهم ، ولئلا يفتنوا بهم لما ظهر على يديهم من خوارق المعجزات . ( ثم أفاق فقال : " أصلى الناس ؟ " فقلنا ) : بلا فاء ( لا ، هم ) : وفي نسخة : وهم ( ينتظرونك يا رسول الله ! قال : " ضعوا لي ماء في المخضب " . قالت ) : كذا في النسخ المصححة ( فقعد فاغتسل ) : قال الطيبي : في الحديث دليل على استحباب الغسل من الإغماء ، وإذا تكرر الإغماء استحب تكرار الغسل ، ولو اغتسل مرة لتعدد الإغماء جاز اهـ .

وجاز أن يكون الاغتسال لأجل التبريد والتقوية على الاغتسال ( ثم ذهب لينوء ، فأغمي عليه ، ثم أفاق ، فقال : " أصلى الناس ؟ " فقلنا : لا ; هم ينتظرونك يا رسول الله ؟ قال : " ضعوا لي ماء في المخضب " ، فقعد فاغتسل ، ثم ذهب لينوء ، فأغمي عليه ، ثم أفاق ) : من وقع الإغماء والإفاقة ثلاث مرات قال الأسنوي في المهمات : نقل القاضي حسين أن الإغماء لا يجوز على الأنبياء إلا ساعة أو ساعتين ، فأما الشهر أو الشهرين فلا يجوز كالجنون ، ( فقال : " أصلى الناس ؟ " قلنا : لا . هم ينتظرونك يا رسول الله ) : وفيه إشارة إلى أنه عليه السلام بكلية باطنه متوجه إلي أداء الصلاة مع أمته ، ( والناس عكوف ) : بضم العين جمع ، أي : عاكفون مقيمون ( في المسجد ) : قال الطيبي : العكوف : الإقامة على الشيء أو بالمكان ولزومهما ، ( ينتظرون النبي صلى الله عليه وسلم ) أي : خروجه ( لصلاة العشاء الآخرة ) : قال الشيخ : كذا للأكثر بلام التعليل ، وفي رواية المستملي والسرخسي : العشاء الأخيرة ، وتوجيهه أن الراوي كأنه فسر الصلاة المسئول عنها في قوله عليه السلام : " أصلى الناس " فذكر أن الصلاة المسئول عنها هي العشاء الأخيرة ، كذا ذكره الأبهري .

( فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر : بأن ) : وفي نسخة لأن ( يصلي بالناس ، فأتاه الرسول ) أي : رسول النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو بلال المؤذن ، قاله العسقلاني . ( فقال : إن رسول الله ) : وفي نسخة : النبي ( صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تصلي بالناس ، فقال أبو بكر - وكان رجلا ) : جملة معترضة مقول عائشة ( رقيقا - ) أي : رقيق القلب فلم يقدر أن يقوم مقامه صلى الله عليه وسلم ، أو كان رحيما لطيفا متواضعا خليقا ، وقال ابن حجر : أي هينا لينا ضعيفا ، وفي رواية : إنه رجل أسيف من الأسف وهو شدة الحزن والبكاء ، والمراد به رقيق القلب ، وفسره أحد رواته بأنه رقيق رحيم ( يا عمر ! صل بالناس ) : كأنه علم بالقرائن أنه - عليه السلام - لم يعينه على جهة الإلزام له ، كذا ذكره ابن حجر ، أو بناء على تواضعه وجواز الإذن لغيره ، سيما مع ظهور عذره مما يوجب البكاء في قيامه مقامه مع كمال رقة قلبه ، ورأى أن عمر أقوى قلبا منه ( فقال له عمر : أنت أحق بذلك ) أي : في نفس الأمر ، أو لاختصاصه بالأمر الذي يترتب عليه الأمور ( فصلى أبو بكر تلك الأيام ) أي : أيام المرض كلها من الصلوات السبعة عشر .

[ ص: 883 ] ( ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم وجد من نفسه ) : وفي نسخة : في نفسه ( خفة ) أي : من المرض وقوة على الخروج إلى الجماعة ( وخرج بين رجلين أحدهما : العباس ) : والآخر : علي ، كما سيأتي ( لصلاة الظهر ، وأبو بكر يصلي بالناس ، فلما رآه أبو بكر ذهب ) أي : شرع ( ليتأخر ، فأومأ ) أي : أشار ( إليه النبي صلى الله عليه وسلم بأن لا يتأخر ، قال : " أجلساني إلى جنبه " ، فأجلساه إلى جنب أبي بكر ، والنبي صلى الله عليه وسلم قاعد ، وقال عبيد الله ) أي الراوي : ( فدخلت على عبد الله بن عباس ، فقلت له : ألا أعرض عليك ما حدثتني عائشة عن مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ) أي : وعن صلاته في تلك الحالة ، وإنما اقتصر على الأول ; لأنه المقصود بالسؤال ( قال : هات ) : مفرد هاتوا بمعنى أحضر ( فعرضت عليه ) أي : على ابن عباس ( حديثها فما أنكر ) أي : عليه ( منه ) أي : مما ذكره ( شيئا ) : مصدر ، أي : ما أنكر شيئا من الإنكار فهو مفعول مطلق ، كذا ذكره ابن حجر ، والأظهر أن يكون مفعولا به ، أي : ما أنكر شيئا من الأشياء ( غير أنه قال : أسمت لك الرجل ) أي : إلا هذا الإنكار ، والمعنى : إلا أنه أنكر عدم تسميتها لمن مع العباس ; حيث قال : أسمت لك الرجل ( الذي كان مع العباس ؟ ) : قيل : كأنه أنكر على عائشة أنها لم تسم عليا مع العباس لما كان عندها شيء من علي .

قلت : إنما هجرت اسمه لا أنها أبغضته بقلبها ، وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لها : " إني أعرف رضاك وعدم رضاك عني " فقالت : كيف يا رسول الله ؟ فقال : " تقولين عند الرضا ، لا ورب محمد ، وعند عدم الرضا لا ورب إبراهيم " . فقالت : نعم يا رسول الله ، لكني ما أهجر إلا اسمك مع أنه يحتمل أنها ما سمته لنسيانها ، أو ذهولها ، أو لوقوع الشك أنه الثاني أو أسامة كما قيل ، والله تعالى أعلم . ثم رأيت ابن حجر قال : ووجه عدم تسميتها له قيل : ما كان في نفسها منه لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم في قضية الإفك قبل نزول براءتها : النساء سواها كثير ، وفيه نظر ; لأنها سمته في رواية : وإنما أبهمته في هذه ; لأنه جاء في روايات أن الذي كان مع العباس ولده الفضل تارة أخرى وعلي أخرى ، فإبهامه لأنه تعدد لا لما ذكر اهـ .

والحاصل أنه قال : أسمته لك أو ما سمته لك ؟ ( قلت : لا ، قال : هو علي رضي الله عنه . متفق عليه ) : قال ابن الهمام : وما روى الترمذي عن عائشة قالت : صلى النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي توفي فيه خلف أبي بكر قاعدا ، وقال : حسن صحيح . وأخرج النسائي عن أنس : آخر صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع القوم في ثوب واحد متوشحا خلف أبي بكر ، فأولا : لا يعارض ما في الصحيح ، وثانيا : قال البيهقي : لا تعارض ، فالصلاة التي كان فيها إماما صلاة الظهر يوم السبت أو الأحد ، والتي كان فيها مأموما الصبح من الاثنين وهى آخر صلاة صلاها حتى خرج من الدنيا ، ولا يخالف هذا ما ثبت عن الزهري ، عن أنس في صلاتهم يوم الاثنين ، وكشف الستر ثم إرخائه ، فإنه كان في الركعة الأولى ، ثم إنه وجد من نفسه خفة ، فخرج وأدرك معه الثانية ، يدل عليه ما ذكر موسى بن عقبة في المغازي عن الزهري .

وذكره أبو الأسود ، عن عروة أنه عليه السلام أقلع عنه الوعك ، أي : الحمى ليلة الاثنين ، فغدا إلى الصبح يتوكأ على الفضل بن عباس وغلام له ، وقد سجد الناس مع أبي بكر حتى قام إلى جنب أبي بكر فاستأخر أبو بكر ، فأخذ عليه السلام بثوبه فقدمه في مصلاة فصفا جميعا ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وأبو بكر يقرأ ، فركع معه الركعة الأخرى ، ثم جلس أبو بكر حتى قضى سجوده فتشهد وسلم ، وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالركعة الأخرى ، ثم انصرف إلى جذع من جذوع المسجد فذكر القصة في عهده إلى أسامة بن زيد فيما بعثه إليه ، ثم في وفاته عليه السلام يومئذ أخبرنا به أبو عبد الله الحافظ بسنده إلى ابن لهيعة ، حدثنا الأسود عن عروة فذكره ، فالصلاة التي صلاها أبو بكر مأموما صلاة الظهر ، وهي التي خرج فيها بين العباس وعلي والتي كان فيها إماما الصبح وهي التي خرج فيها بين الفضل بن عباس وغلام له فقد حصل بذلك الجمع اهـ .

والمراد بحديث كشف الستارة ما في الصحيحين من أن كشفها يوم الاثنين وهم صفوف في الصلاة ، ثم تبسم ضاحكا ، ونكص أبو بكر على عقبه ظنا أنه - عليه السلام - خارج للصلاة ، فأشار إليهم أن أتموا ، ثم دخل وأرخى الستر ، وتوفي صلى الله عليه وسلم من يومه ذلك . وفي البخاري أن ذلك كان صلاة الفجر .

قال الشافعي - رحمه الله - بعدما أسند عن جابر ، وأسيد بن حضير اقتداء الجالسين بهما وهما جالسان للمرض ، وإنما فعلا ذلك لأنهما لم يعلما بالناسخ ، وكذا ما حكي عن غيرهم من الصحابة أنهم أموا جالسين والناس جلوس محمول عليه ، وعلم الخاصة يوجد عند بعض ويعزب عن بعض اهـ كلام المحقق .

[ ص: 884 ]



الخدمات العلمية