الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 1717 ] الفصل الثالث

2479 - ( عن القعقاع أن كعب الأحبار قال : لولا كلمات أقولهن لجعلتني يهود حمارا . فقيل له : ما هن قال : أعوذ بوجه الله العظيم الذي ليس شيء أعظم منه ، وبكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر ، وبأسماء الله الحسنى ما علمت منها وما لم أعلم من شر ما خلق وذرأ وبرأ ) . رواه مالك .

التالي السابق


الفصل الثالث

2479 - ( عن القعقاع ) بالقافين والعينين ، أي ابن حكيم المدني سمع جابر بن عبد الله وأبا يونس مولى عائشة ( أن كعب الأحبار ) بالحاء المهملة ، وهو كان من أحبار اليهود ; أي علمائهم ، أدرك زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأسلم زمن عمر - رضي الله عنه - ( قال : لولا كلمات أقولهن ) أي أدعو بهن ( لجعلتني يهود ) أي من السحر ( حمارا ) أي بليدا أو ذليلا ، والمعنى أنهم سحرة ، وقد أغضبهم إسلامي ، فلولا استعاذتي بهذه الكلمات لتمكنوا مني وغلبوا علي ، وجعلوني بليدا ، وأذلوني كالحمار ، فإنه مثل الذلة قال الطيبي : لعله أراد أن اليهود سحرته ، ولولا استعاذتي بهذه الكلمات لتمكنوا من أن يقلبوا حقيقتي اهـ .

وفيه أن قلب الحقائق ليس إلا لله كما قال تعالى : كونوا قردة وقال يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى فهذا يدل على غاية سحرهم الذي أجمع عليه كيد السحرة في زمان موسى - عليه الصلاة والسلام - فإذا لم يقدروا في حقه فكيف يجوز أن يقدروا على سيد الخلق ومظهر الحق أن يقلبوا حقيقته ، ولذا قال البيضاوي : والمراد بالسحر ما يستعان في تحصيله بالتقرب إلى الشيطان مما لا يستقل به الإنسان وذلك لا يستتب إلا لمن يناسبه في الشرارة وخبث النفس ، فإن التناسب شرط في التضام والتعاون ، وبهذا تميز الساحر عن النبي والولي ، وأما ما يتعجب منه كما يفعله أصحاب الحيل بمعونة الآلات والأدوية فتسميته سحرا على التجوز اهـ . فإذا كان ليس للشيطان أن يجعل نفسه حمارا حقيقة فضلا عن غيره ، فكيف للمتوسل إلى قربه أن يقلب الحقيقة ، وأما قول صاحب المدارك : وللسحر حقيقة عند أهل السنة - كثرهم الله تعالى - وتخييل وتمويه عند المعتزلة خذلهم الله فمعناه قوله - صلى الله عليه وسلم - السحر حق ; أي ثابت واقع لا أنه خيال فاسد كرؤية الأحوال شيئا واحدا شيئين ، وكتخيل الأشياء عند خلل الدماغ وحصول الأفكار الفاسدة لما يدل عليه الكتاب والسنة من قوله تعالى : يعلمون الناس السحر وقوله فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه أي علم السحر الذي يكون سببا في التفريق بين الزوجين بأن يحدث الله عنده النشوز والخلاف وقوله عز وجل : ومن شر النفاثات في العقد كما هو مشهور في سحر اليهود له - عليه الصلاة والسلام - وبهذا يتبين قول البغوي والصحيح أن السحر عبارة عن التمويه والتخييل ، والسحر وجوده حقيقة عند أهل السنة وعليه أكثر الأمم ، حكى عن الشافعي أنه قال : السحر يخبل ويمرض وقد يقتل حتى أوجب القصاص على من قتل به ، وقيل : إنه يؤثر في قلب الأعيان فيجعل الآدمي على صورة الحمار ويجعل الحمار على صورة الكلب والأصح أنه تخييل قال تعالى : يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى لكنه يؤثر في الأبدان بالأمراض والموت والجنون اهـ .

ومما يدل على بطلان قلب الحقائق بعد إجماع أهل السنة والمعتزلة على خلافه أنه لم يقع مثل هذا أبدا في الكون ، ويدل على بطلانه النقل والعقل ، فمن أعجب العجائب قولابن حجر : وكون السحر يقلب الآدمي حمارا باعتبار الصورة لا الحقيقة أو والحقيقة ، على ما في ذلك من خلاف ، أمر واقع شوهد في بعض النواحي كصعيد مصر ، كما شوهد فيه أن رجلا سافر عن زوجته بغير علمها فطال ذكره وصار كلما مشى طال ، فأخذه ولف على رقبته فطال ، فلفه إلى أن أعجزه حمله عن المشي فوقف عيا ، ولم يجد له مخلصا إلا رجوعه إليها ، فرجع فخف ثم لا يزال يخف حتى وصل إلى محلها ، وليس من ذلك شيء اهـ .

ولا دلالة فيه على قلب الصورة فضلا عن الحقيقة ، وإنما تخييل السحر وتمويهه الحاصل من ثبوت أثر السحر ، إذ رجوعه إلى حالة الأول يدل على عدم القلب صريحا ، فإنه لو تحقق القلب لبقي ذكره في حلقه إلى يوم القيامة إذ لم يقع حينئذ سحر آخر قلبه ثانيا ، مع أن دعوى المشاهدة باطلة إذ هي مجرد حكاية فاسدة مما [ ص: 1718 ] يستمرها الناس ويحكونها في بيوت القهوة ، وتجوز في عقول النساء وبعض الرجال ممن سخف عقله وسخف قلبه ، والله المستعان وعليه التكلان ( فقيل له : ما هن ) أي تلك الكلمات ( قال أعوذ بوجه الله العظيم ) أي ذاته ( الذي ليس شيء أعظم منه ) ولا مساويا لعظمته ولا قريبا منها بل ولا عظمة لغيره ، لأن الكل عبيده بل وليس في الكون وجود لغيره ، ثم يحتمل أن يكون الموصول صفة للمضاف أو المضاف إليه والمؤدى واحد ( وبكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر ) إعادة لا لزيادة التأكيد قال الطيبي - رحمه الله تعالى : المراد علم الله الذي ينفد البحر قبل نفاده ، وأراد بقوله : بر ولا فاجر الاستيعاب كقوله : رطب ولا يابس ، فإن تكرير حرف التأكيد للاستيعاب ، وأراد بالكلمات التامات القرآن فيئول البر والفاجر ، المؤمن والكافر ، والمطيع والعاصي لا يتجاوزان حالهما وما عليهما من الوعد والوعيد والثواب والعقاب وغير ذلك ، ويؤيده قوله تعالى : وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لأن الصدق ملائم للوعد والوعيد والخبر من القصص ونبأ الأولين والآخرين مما سبق ومما سيأتي ، والبدل موافق للأمر والنهي والثواب والعقاب وما أشبه ذلك ، وأما قول ابن حجر : وهذا مما يوجب فيه تكرير لا ومع وجوبه لا ينافي تسميتها مؤكدة ، كما وقع في كلام شارح هنا كما هو محرر في محله من حواشي الكشاف وغيرها في : " لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث " ، " لا فارض ولا بكر " ، " لا شرقية ولا غربية " اهـ .

فغير صحيح على إطلاقه ، فإن محل الوجوب على ما ذكره أبو حيان في البحر إنما هو : إذا كان الوصف نفيا بلا فإنه لزم تكراره كما في مررت برجل لا كريم ولا شجاع قال تعالى : لا بارد ولا كريم ولا يجوز بغير تكرار لا إلا في الشعر ، وما نحن فيه من الحديث ليس من ذلك القبيل فتدبر ، ثم قوله : وتفسيري المجاوزة بالإحصاء غير بعيد ، لأنه من أحصى الشيء فقد جاوزه إلى غيره في غاية من البعد ، لأنه إذا كان المراد بالكلمات علومه تعالى فلا يجاوزه أحد ، بمعنى أنه لا يقع من مخلوق في حركاته وسكناته المجاوزة والمخالفة لمعلوماته تعالى ومع صحة هذا المعنى لا وجه للعدول إلى معنى الإحصاء اللازم منه المجاوزة على زعمه ، مع أنه لا معنى لقوله : لا يحصي علمه بر ولا فاجر ، إذ لا يفيد التأكيد حينئذ أصلا كما لا يخفى .

وأيضا تفسير المجاوزة بالإحصاء لا يصح عند إرادة المعنى الثاني بالكلمات وهو القرآن ، ثم من العجيب تبجحه وعلى زعمه ترجحه بقوله ، وهذا الذي ذكرته في شرح قوله : التي إلخ أحسن وأوضح مما ذكره شارح فتأمل هذا .

والإمام أحمد استدل بهذا الحديث ونحوه على أن القرآن غير مخلوق لأنه - عليه الصلاة والسلام - استعاذ به كما استعاذ بالله وبصفاته كرب الناس وبعزته وقدرته ، ولم يكن يستعيذ بمخلوق ( وبأسماء الله الحسنى ما علمت منها ) أي من الكلمات والأسماء أو من الأسماء وهو الأقرب ( وما لم أعلم ) أي منها والمراد العموم ( من شر ما خلق ) أي أنشأ وقدر ( وذرأ ) بالهمز أي بث ونشر ( وبرأ ) أي أوجد مبرأ عن التفاوت فخلق كل عضو على ما ينبغي قال تعالى : ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت ( رواه مالك ) .




الخدمات العلمية