الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                        صفحة جزء
                                        217 - الحديث الرابع : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله عليه السلام { لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا ومعها حرمة } . وفي لفظ البخاري " لا تسافر مسيرة يوم إلا مع ذي محرم " .

                                        التالي السابق


                                        فيه مسائل . الأولى : اختلف الفقهاء في أن المحرم للمرأة من الاستطاعة أم [ ص: 439 ] لا ؟ حتى لا يجب عليها الحج ، إلا بوجود المحرم . والذين ذهبوا إلى ذلك : استدلوا بهذا الحديث . فإن سفرها للحج من جملة الأسفار الداخلة تحت الحديث . فيمتنع إلا مع المحرم . والذين لم يشترطوا ذلك قالوا : يجوز أن تسافر مع رفقة مأمونين إلى الحج ، رجالا أو نساء . وفي سفرها مع امرأة واحدة : خلاف في مذهب الشافعي .

                                        وهذه المسألة تتعلق بالنصين إذا تعارضا ، وكان كل واحد منهما عاما من وجه ، خاصا من وجه . بيانه : أن قوله تعالى { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } يدخل تحته الرجال والنساء . فيقتضي ذلك : أنه إذا وجدت الاستطاعة المتفق عليها : أن يجب عليها الحج .

                                        وقوله عليه السلام " لا يحل لامرأة - الحديث " خاص بالنساء ، عام في الأسفار . فإذا قيل به وأخرج عنه سفر الحج ، لقوله تعالى { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } قال المخالف : نعمل بقوله تعالى { ولله على الناس حج البيت } فتدخل المرأة فيه . ويخرج سفر الحج عن النهي . فيقوم في كل واحد من النصين عموم وخصوص . ويحتاج إلى الترجيح من خارج .

                                        وذكر بعض الظاهرية . أنه يذهب إلى دليل من خارج . وهو قوله عليه السلام { لا تمنعوا إماء الله مساجد الله } . ولا يتجه ذلك ، فإنه عام في المساجد ، فيمكن أن يخرج عنه المسجد الذي يحتاج إلى السفر في الخروج إليه بحديث النهي . .



                                        الثانية : لفظ " المرأة " عام بالنسبة إلى سائر النساء . وقال بعض المالكية : هذا عندي في الشابة . وأما الكبيرة غير المشتهاة : فتسافر حيث شاءت في كل الأسفار ، بلا زوج ولا محرم . وخالفه بعض المتأخرين من الشافعية من حيث إن المرأة مظنة الطمع فيها ، ومظنة الشهوة ، ولو كانت كبيرة . وقد قالوا : لكل ساقطة لاقطة . والذي قاله المالكي : تخصيص للعموم بالنظر إلى المعنى . وقد اختار هذا الشافعي : أن المرأة تسافر في الأمن . ولا تحتاج إلى أحد ، بل تسير وحدها في جملة القافلة ، فتكون آمنة . وهذا مخالف لظاهر الحديث .



                                        الثالثة : قوله " مسيرة يوم وليلة " اختلف في هذا العدد في الأحاديث . فروي " فوق ثلاث " وروي " مسيرة ثلاث ليال " وروي " لا تسافر امرأة يومين " وروي " مسيرة ليلة " وروي " مسيرة يوم " وروي " يوما وليلة " وروي [ ص: 440 ] بريدا " وهو أربع فراسخ . وقد حملوا هذا الاختلاف على حسب اختلاف السائلين ، واختلاف المواطن ، وأن ذلك متعلق بأقل ما يقع عليه اسم السفر .



                                        الرابعة " ذو المحرم " عام في محرم النسب ، كأبيها وأخيها وابن أخيها وابن أختها وخالها وعمها ، ومحرم الرضاع ، ومحرم المصاهرة ، كأبي زوجها وابن زوجها .

                                        واستثنى بعضهم ابن زوجها .

                                        فقال : يكره سفرها معه ، لغلبة الفساد في الناس بعد العصر الأول . ; لأن كثيرا من الناس لا ينزل زوجة الأب في النفرة عنها منزلة محارم النسب . والمرأة فتنة إلا فيما جبل الله عز وجل النفوس عليه من النفرة عن محارم النسب ، والحديث عام . فإن كانت هذه الكراهة للتحريم - مع محرمية ابن الزوج - فهو مخالف لظاهر الحديث بعيد . وإن كانت كراهة تنزيه للمعنى المذكور فهو أقرب تشوفا إلى المعنى . وقد فعلوا مثل ذلك في غير هذا الموضع . وما يقوي ههنا : أن قوله " لا يحل " استثنى منه السفر مع المحرم . فيصير التقدير : إلا مع ذي محرم فيحل . ويبقى النظر في قولنا " يحل " هل يتناول المكروه أم لا يتناوله ؟ بناء على أن لفظة " يحل " تقتضي الإباحة المتساوية الطرفين ، فإن قلنا : لا يتناول المكروه ، فالأمر قريب مما قاله ، إلا أنه تخصيص يحتاج إلى دليل شرعي عليه ، وإن قلنا : يتناول ، فهو أقرب ; لأن ما قاله لا يكون حينئذ منافيا لما دل عليه اللفظ .

                                        و " المحرم " الذي يجوز معه السفر والخلوة : كل من حرم نكاح المرأة عليه لحرمتها على التأبيد بسبب مباح ، فقولنا " على التأبيد " احترازا من أخت الزوجة وعمتها وخالتها ، وقولنا " بسبب مباح " احترازا من أم الموطوءة بشبهة ، فإنها ليست محرما بهذا التفسير ، فإن وطء الشبهة لا يوصف بالإباحة ، وقولنا " لحرمتها " احترازا من الملاعنة ، فإن تحريمها ليس لحرمتها ، بل تغليظا ، هذا ضابط مذهب الشافعية .

                                        الخامسة : لم يتعرض في هاتين الروايتين للزوج .

                                        وهو موجود في رواية أخرى ولا بد من إلحاقه بالحكم بالمحرم في جواز السفر معه ، اللهم إلا أن يستعملوا لفظة " الحرمة " في إحدى الروايتين في غير معنى المحرمية استعمالا لغويا فيما يقتضي الاحترام . فيدخل فيه الزواج لفظا . والله أعلم .




                                        الخدمات العلمية