الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي

السخاوي - شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي

صفحة جزء
فروع .


105 - قول الصحابي " من السنة " أو نحو " أمرنا " حكمه الرفع ولو      106 - بعد النبي قاله بأعصر
على الصحيح وهو قول الأكثر      107 - وقوله " كنا نرى " إن كان مع
عصر النبي من قبيل ما رفع      108 - وقيل لا ، أو لا فلا ، كذاك له
وللخطيب قلت لكن جعله      109 - مرفوعا الحاكم والرازي
ابن الخطيب وهو القوي

.

[ ص: 141 ] فروع سبعة حسن إيرادها بعد الانتهاء من كل من المرفوع والموقوف : أحدها - وقدم على غيره ، مما يصدر عن الصحابي لقربه إلى الصراحة - ( قول الصحابي ) - رضي الله عنه - ( من السنة ) كذا ; كقول علي - رضي الله عنه - : ومن السنة وضع الكف على الكف في الصلاة تحت السرة . ( أو نحو أمرنا ) بالبناء للمفعول ، كأمر فلان .

وكنا نؤمر ، وأمر بلا إضافة ، ونهينا ; كقول أم عطية - رضي الله عنها - : أمرنا أن نخرج إلى العيدين العواتق وذوات الخدور و أمر الحيض أن يعتزلن مصلى المسلمين ، و نهينا عن اتباع الجنائز ، ولم يعزم علينا وأبيح أو رخص لنا ، أو حرم أو أوجب علينا ، كل ذلك مع كونه موقوفا لفظا ( حكمه الرفع ولو بعد ) وفاة ( النبي ) - صلى الله عليه وسلم - ( قاله ) الصحابي ( بأعصر ) فضلا عن كونه بعده بيسير ، أو في زمنه - صلى الله عليه وسلم - لكنه في الزمن النبوي في " أمرنا " أبعد عن الاحتمال فيما يظهر .

ويساعده تصريح بعض أئمة الأصول بقوة الاحتمال " في السنة " ; لكثرة استعمالها في الطريقة ، وسواء قاله في محل الاحتجاج أم لا ، تأمر عليه غير النبي - صلى الله عليه وسلم - أم لا ، كبيرا كان أو صغيرا .

وإن لم أر تصريحهم به في الصغير ، فهو محتمل ، ويمكن إخراجه من تقييد الحاكم الصحابي بالمعروف الصحبة ، وكذا من التفرقة بين المجتهد وغيره ، كما سيأتي ، وما تقدم في المسألتين هو ( على الصحيح ) عند المحدثين والفقهاء والأصوليين .

ونص الشافعي في الأم في " باب عدد كفن الميت " بعد أن ذكر ابن عباس [ ص: 142 ] والضحاك بن قيس : وابن عباس والضحاك رجلان من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقولان السنة إلا سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن البيهقي قد جزم بنفي الخلاف عن أهل النقل فيهما ، وأنه مسند ، يعني مرفوع .

وكذا شيخه الحاكم ; حيث قال في الجنائز من ( مستدركه ) أجمعوا على أن قول الصحابي : من السنة كذا ، حديث مسند ، وقال في موضع آخر : إذا قال الصحابي أمرنا بكذا ، أو نهينا عن كذا ، أو كنا نفعل كذا ، أو كنا نتحدث - فإني لا أعلم بين أهل النقل خلافا فيه أنه مسند .

وممن حكى الاتفاق أيضا لكن في السنة ابن عبد البر ، والحق ثبوت الخلاف فيهما ، نعم قيد ابن دقيق العيد محل الخلاف بما إذا كان المأمور به يحتمل التردد بين شيئين ، أما إذا كان مما لا مجال للاجتهاد فيه ; كحديث : " أمر بلال أن يشفع الأذان ، فهو محمول على الرفع قطعا .

وممن ذهب إلى خلاف ما حكيناه فيهما من الشافعية أبو بكر الصيرفي صاحب الدلائل ، ومن الحنفية أبو الحسن الكرخي ، وفي السنة فقط الشافعي في أحد قوليه من الجديد ، كما جزم الرافعي بحكايتهما عنه ، ورجحه جماعة ، بل [ ص: 143 ] حكاه إمام الحرمين في البرهان عن المحققين .

ومن الحنفية أبو بكر الرازي ، وابن حزم من الظاهرية ، وبالغ في إنكار الرفع ; مستدلا بقول ابن عمر رضي الله عنهما : أليس حسبكم سنة نبيكم ; إن حبس أحدكم عن الحج طاف بالبيت وبالصفا والمروة ، ثم حل من كل شيء ، حتى يحج عاما قابلا فيهدي ; أو يصوم إن لم يجد هديا .

قال : لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يقع منه إذ صد ما ذكره ابن عمر ، بل حل حيث كان بالحديبية . وكذا من أدلتهم لمنع الرفع استلزامه ثبوت سنة للنبي - صلى الله عليه وسلم - بأمر محتمل ; إذ يحتمل إرادة سنة غيره من الخلفاء ، فقد سماها النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة في قوله : " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين أو سنة البلد ، وهي الطريقة ، أو نحو ذلك .

ونحوه تعليل الكرخي لـ " أمرنا " بأنه متردد بين كونه مضافا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أو إلى أمر القرآن ، أو الأمة ، أو بعض الأئمة ، أو القياس والاستنباط ، وسوغ إضافته إلى صاحب الشرع - يعني لكونه صاحب الأمر حقيقة - بناء على أن القياس مأمور باتباعه من الشارع .

قال : وهذه احتمالات تمنع كونه مرفوعا ، وفي " أمرنا " فقط - كما قال ابن الصلاح - فريق منهم أبو بكر الإسماعيلي .

وخص ابن الأثير - كما في مقدمة جامع الأصول له - نفي الخلاف فيها بأبي بكر الصديق - رضي الله عنه - خاصة ; إذ لم [ ص: 144 ] يتأمر عليه أحد غير النبي - صلى الله عليه وسلم - بخلاف غيره ، فقد تأمر عليهم أبو بكر وغيره من الأمراء في زمنه - صلى الله عليه وسلم - ، ووجب عليهم امتثال أمره ، فطرقه الاحتمال الناشئ عنه الاختلاف .

ونحوه قول غيره في أمر بلال أن يشفع الأذان أنه نظر ، فلم يجد أحدا تأمر عليه في الأذان غير النبي - صلى الله عليه وسلم - فتمحض أن يكون هو الآمر .

ويتأيد بالرواية المصرحة بذلك ، وكذا قال آخر : ينبغي أن يقيد الاختلاف فيهما ، بما إذا كان في غير محل الاحتجاج ، أما في محل الاحتجاج فإن المجتهد لا يقلد مثله ، فلا يريد بالسنة وبالأمر والنهي إلا من له ذلك حقيقة ، لكن الأول هو الصحيح فيهما كما تقدم .

( وهو قول الأكثر ) من العلماء ; إذ هو المتبادر إلى الذهن من الإطلاق ; لأن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - أصل ، وسنة غيره تبع لسنته ، وكذلك الأمر والنهي لا ينصرف بظاهره إلا لمن هو إليه ، وهو الشارع - صلى الله عليه وسلم - ، وأمر غيره تبع ، فحمل كلامهم على الأصل أولى ، خصوصا والظاهر أن مقصود الصحابة بيان الشرع .

وقال ابن الأثير في مقدمة جامع الأصول في " أبيح " وما بعدها يقوى في جانبه ألا يكون مضافا إلا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ; لأن هذه الأمور له دون غيره ، قال : ولا يقال : أوجب الإمام إلا على تأويل .

واستدلال ابن حزم الماضي للمنع بقول ابن عمر - ممنوع بأنه لا انحصار لمستنده في الفعل ، حتى يمنع إرادة ابن عمر بالسنة الرفع فيمن صد عن الحج ممن هو بمكة بقصة الحديبية التي صد فيها عن دخولها ، بل الدائرة أوسع من القول أو الفعل أو غيرهما ، ويتأيد بإضافته السنة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - .

[ ص: 145 ] وكذا ما أبداه الكرخي من الاحتمالات في المنع أيضا بعيد - كما قاله شيخنا - " فإن أمر الكتاب ظاهر للكل ، فلا يختص بمعرفته الواحد دون غيره ، وعلى تقدير التنزل فهو مرفوع ; لأن الصحابي وغيره إنما تلقوه من النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمر الأمة لا يمكن الحمل عليه ; لأن الصحابي من الأمة ، وهو لا يأمر نفسه .

وأمر بعض الأئمة إن أراد من الصحابة مطلقا فبعيد ; لأن قوله ليس حجة على غيره منهم ، وإن أراد من الخلفاء فكذلك ; لأن الصحابي في مقام تعريف الشرع بهذا الكلام والفتوى ، فيجب حمله على من صدر منه الشرع ، وبالجملة فهم من حيث إنهم مجتهدون لا يحتجون بأمر مجتهد آخر ، إلا أن يكون القائل ليس من مجتهدي الصحابة ، فيحتمل أنه يريد بالآمر أحد المجتهدين منهم .

وحمله على القياس والاستنباط بعيد أيضا ; لأن قوله : " أمرنا بكذا " يفهم منه حقيقة الأمر والنهي ، لا خصوص الأمر باتباع القياس ، وما قاله ابن الأثير في الصديق فهو - كما قال شيخنا وغيره - مقبول ، وإن تأمر عمرو بن العاص في غزوة " ذات السلاسل " على جيش فيه الشيخان ، أرسل بهما النبي - صلى الله عليه وسلم - في مدد ، وأمر عليه أبا عبيدة الجراح ، فلما قدم بهم على عمرو صار الأمير ، بل كان أبو عبيدة أمير سرية " الخبط " على ثلاثمائة من المهاجرين والأنصار ، فيهم عمر ، وأظن أبا بكر أيضا .

وكذا تأمر أسامة بن زيد على جيش هما فيه ، وأبو عبيدة وخلق من المهاجرين والأنصار ، وتوفي - صلى الله عليه وسلم - قبل خروجه ، فأنفذه أبو بكر بعد أن استخلف ; امتثالا لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقيل : إن أبا بكر سأل أسامة أن يأذن لعمر في الإقامة ، فأذن له ، وفي شرحها طول .

[ ص: 146 ] وبالجملة فقد ثبت أن كلا من أبي عبيدة وعمرو وأسامة تأمر عليهما ، وصار ذلك أحد الأدلة في ولاية المفضول على الفاضل أو بحضرته ، فطروق الاحتمال فيه بعيد جدا .

وما قيل في بلال ليس بمتفق عليه ، فلابن أبي شيبة وابن عبد البر أنه أذن لأبي بكر مدة خلافته ، ولم يؤذن لعمر ، [ نعم عند أبي داود عن سعيد بن المسيب ; أن بلالا لما مات النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يخرج إلى الشام ، فقال له أبو بكر : تكون عندي ، قال : إن كنت أعتقتني لنفسك فاحبسني ، وإن كنت أعتقتني لله فذرني ، فذهب إلى الشام ، فكان بها حتى مات - رضي الله عنه - ، وهو أصح مما قبله ، وهو ] مقتضى قول مالك : لم يؤذن لغير النبي - صلى الله عليه وسلم - سوى مرة لعمر حين دخل الشام ، فبكى الناس بكاء شديدا .

ومن أدلة الأكثرين سوى ما تقدم ما رواه البخاري في صحيحه عن الزهري ، عن سالم بن عبد الله بن عمر ; أن الحجاج عام نزل بابن الزبير سأل عبد الله - يعني ابن عمر رضي الله عنهما - كيف نصنع في الموقف يوم عرفة ؟ فقال سالم : إن كنت تريد السنة ، فهجر بالصلاة يوم عرفة .

فقال ابن عمر : صدق ، إنهم كانوا يجمعون بين الظهر والعصر في السنة .

قال الزهري : فقلت لسالم : أفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال : وهل يتبعون في ذلك إلا سنته
. انتهى .

وكل ما سلف فيما إذا لم يضف السنة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلو أضافها - كقول عمر للصبي بن معبد : هديت لسنة نبيك - فمقتضى كلام الجمهور السابق [ ص: 147 ] الرفع ، بل أولى ، وابن حزم يخالف فيه كما تقدم ، بل نقل أبو الحسين بن القطان عن الشافعي أنه قال : قد يجوز أن يراد بذلك ما هو الحق من سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - .

وجزم البلقيني في محاسنه بأنها على مراتب في احتمال الوقف قربا وبعدا ، فأرفعها مثل قول ابن عباس : " الله أكبر سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم " ، ودونها قول عمرو بن العاص : " لا تلبسوا علينا سنة نبينا ، عدة أم الولد كذا " ، ودونها قول عمر لعقبة بن عامر : " أصبت السنة " ; إذ الأول أبعد احتمالا ، والثاني أقرب احتمالا ، والثالث لا إضافة فيه . انتهى .

وقال غيره في قول عمرو بن العاص : قال الدارقطني : الصواب فيه : لا تلبسوا علينا ديننا . موقوف ; فدل قوله هذا على أن الأول مرفوع ، أما إذا صرح بالآمر ; كقوله : أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكذا ، أو سمعته يأمر بكذا ، فهو مرفوع بلا خلاف ; لانتفاء الاحتمال السابق .

لكن حكى القاضي أبو الطيب الطبري ، وتلميذه ابن الصباغ في " العدة " عن داود الظاهري وبعض المتكلمين - : أنه لا يكون حجة حتى ينقل لفظه ; لاختلاف الناس في صيغ الأمر والنهي فيحتمل أن يكون سمع صيغة ظنها أمرا أو نهيا ، وليست كذلك في نفس الأمر .

وقال الشارح : إنه ضعيف مردود ، ثم وجهه بما له وجه في الجملة ، [ ص: 148 ] ووجهه غيره بجواز أن نحو هذا من الرواية بالمعنى ، وهم ممن لا يجوزها .

وأما شيخنا فرده أصلا فيما نقله عن غيره ; حيث قال : وأجيب بأن الظاهر من حال الصحابي مع عدالته ومعرفته بأوضاع اللغة - أنه لا يطلق ذلك إلا فيما تحقق أنه أمر أو نهي ، من غير شك ، نفيا للتلبيس عنه ، لنقل ما يوجب على سامعه اعتقاد الأمر والنهي فيما ليس أمرا ولا نهيا .

تتمة : قول الصحابي : إني لأشبهكم صلاة بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وما أشبه كـ " لأقربن لكم صلاة النبي صلى الله عليه وسلم " - كله مرفوع . وهل يلتحق التابعي بالصحابي في " من السنة " أو " أمرنا " ؟ سيأتي في خامس الفروع .

وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أمرت " هو كقوله : " أمرني الله " ; لأنه لا آمر له إلا الله ، كما سيأتي نظيره في " يرفعه " ، و " يرويه " ، وأمثلته كثيرة .

فمن المتفق عليه : أمرت بقرية تأكل القرى ، يقولون : يثرب " ومن غيره : أمرنا أن نضع أيماننا على شمائلنا في الصلاة .

والحاصل أن من اشتهر بطاعة كبير إذا قال ذلك ، فهم منه أن الآمر له هو ذلك الكبير ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية