الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                        221 192 - وذكر عن هشام بن عروة ، عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لبس خميصة لها علم ، ثم أعطاها أبا جهم ، وأخذ من أبي جهم أنبجانية له ، [ ص: 388 ] فقال : يا رسول الله ، ولم ؟ فقال : " إني نظرت إلى علمها في الصلاة " .

                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                        5562 - وقد روى هذا الحديث ابن شهاب عن عروة ، عن عائشة أن النبي - عليه السلام - صلى في خميصة لها علم ، فقال : " شغلني أعلام هذه ، اذهبوا بها إلى أبي جهم ، وأتوني بأنبجانية " .

                                                                                                                        5563 - هكذا هو في حديث الزهري بالتذكير ، وفي حديث مالك أنبجانية له ، وإنما هو كساء أنبجاني .

                                                                                                                        5564 - والكساء لا يؤنث إلا أن يكون أراد خميصة ، أو شملة ، أو نحو هذا .

                                                                                                                        [ ص: 389 ] 5565 - والخميصة كساء صوف رقيق بعلم أكثر شيء .

                                                                                                                        5566 - وقد يكون بغير علم ، والخمائص من لبس الأشراف في أرض العرب ، وقد يكون العلم فيها أحمر وأصفر وأخضر .

                                                                                                                        5567 - وأما الأنبجاني فكساء صوف غليظ لا علم فيه .

                                                                                                                        5568 - وقال ابن قتيبة : إنما هو كساء منبجاني ، قال : ولا يقال : أنبجاني ; لأنه منسوب إلى منبج .

                                                                                                                        5569 - قال : وفتحت باؤه في النسب ; لأنه خرج مخرج منظراني ومخبراني .

                                                                                                                        5570 - وقال ثعلب : أنبجاني بفتح الباء وكسرها : كل ما كثف والتف .

                                                                                                                        5571 - قالوا : شاة أنبجانية : أي كثيرة الصوف ملتفته .

                                                                                                                        5572 - وغير ابن قتيبة يقول : جائز أن يقال : أنبجاني كما جاء في الحديث ; لأن رواته عرب فصحاء ، ومن الأنساب ما يجري على غير قياس ، وإنما هو مسموع ، وهذا لو صح أنه منسوب إلى منبج .

                                                                                                                        [ ص: 390 ] 5573 - وفي هذا الحديث من الفقه قبول الهدايا ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبل الهدية ويأكلها ، ولا يأكل الصدقة .

                                                                                                                        5574 - والهدية من أفعال المسلمين الكرماء والصالحين والفضلاء ، ويستحبها العلماء ما لم يسلك بها سبيل الرشوة لدفع حق ، أو تحقيق باطل ، أو أخذ على حق يجب القيام به .

                                                                                                                        5575 - وقد أوضحنا ما يجب من الهدايا لإمام المسلمين وعماله وسائر الناس من قبل المسلمين ، ومن قبل أهل الذمة والحربيين - في موضعه من هذا الكتاب .

                                                                                                                        5576 - وأما قوله : " نظرت إلى علمها في الصلاة فكاد يفتنني " - فإن قوله : كاد يفتنني ، دليل على أن الفتنة لم تقع .

                                                                                                                        5577 - وكاد في اللغة توجب القرب ، وتدفع الوقوع ; ولهذا قال بعض العلماء : لا يخطف البرق بصر أحد ; لقوله تعالى : " يكاد البرق يخطف أبصارهم " [ سورة البقرة : 20 ] .

                                                                                                                        5578 - والفتنة التي خشي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تنزل به بسبب تلك الخميصة ونظره إلى علمها - هو الشغل عن إقامة الصلاة بما يجب فيها من خشوع وعمل ، وفكره فيما هو فيه ; لأنه بين يدي الرب العظيم ، لا إله إلا هو .

                                                                                                                        5579 - حدثنا عبد الوارث ، حدثنا قاسم ، حدثنا محمد بن عبد السلام ، حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان عن منصور بن عبد الرحمن ، عن خاله مسافع بن عبد الله بن شيبة ، عن صفية بنت شيبة ، عن امرأة من بني سليم أنها قالت لعثمان بن طلحة : لم دعاك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد خروجه من البيت ؟ فقال : قال : [ ص: 391 ] " إني رأيت قرني الكبش في البيت ، فنسيت أن آمرك أن تخمرهما ; فإنه لا ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل مصليا " .

                                                                                                                        5580 - وسفيان عن منصور وغيره عن إبراهيم أنه كان يكره أن يكون في البيت شيء يشغل مصليا .

                                                                                                                        5581 - وسفيان عن منصور وغيره عن إبراهيم أنه كان يكره أن يكون في القبلة شيء معلق : مصحف ، أو سيف ، أو نحوه .

                                                                                                                        5582 - وسفيان عن الأحوص بن حكيم ، عن راشد بن سعد ، قال : تقدم أبو الدرداء أن يصلي بالناس بحمص ، فرأى في القبلة عرقة ، فقال : غطوا عنا هذه العرقة .

                                                                                                                        5583 - وقال نعيم بن حماد عن سفيان بن عيينة : إنما رد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخميصة إلى أبي جهم ; لأنه كرهها ، إذ كانت سبب غفلة ، وشغل عن ذكر الله ، كما قال : " اخرجوا عن هذا الوادي الذي أصابتكم فيه الغفلة ; فإنه واد به شيطان " .

                                                                                                                        5584 - قال ; ولم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبعث إلى غيره ما يكرهه لنفسه .

                                                                                                                        5585 - ألا ترى إلى قوله لعائشة : " لا تتصدقي مما لا تأكلين " .

                                                                                                                        5586 - قال : وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقوى خلق الله على دفع الوسوسة ، [ ص: 392 ] ولكن كرهها للغفلة عن الذكر .

                                                                                                                        5587 - هذا كله قول ابن عيينة .

                                                                                                                        5588 - ومما قدمته فيما ظهر إلي أولى بتأويل الحديث - إن شاء الله - ; ولأنه معلوم أنه - عليه السلام - لما رد الخميصة إلى مهديها بعد أن أعلمهم وأعلمه بما نابه فيها - كان ذلك دليلا على أنه يستحب لباسها في الصلاة ; لأنه لا محالة أحرى بأن يخشى على نفسه من الشغل بها في صلاته فوق ما خشيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ذلك .

                                                                                                                        5589 - ولهذا - والله أعلم - كان إخبارهم له بما عرض له في صلاته بالنظر إليها .

                                                                                                                        5590 - وقد يمكن أن يكون إعلامه بما نابه في الخميصة عند ردها إلى أبي جهم لتطيب نفسه ، وقد ذهب عنه ما لا يكاد ينفك منه من ردت هديته عليه .

                                                                                                                        5591 - وفيه دليل على أن الواهب والمهدي إذا ردت عليه عطيته من غير أن يكون هو الذي يرجع فيها فإن له أن يقبلها .

                                                                                                                        5592 - وأما قوله : " وائتوني بأنبجانية له " ، أو بأنبجانية " على الرواية في ذلك - ففيه دليل على أن من ردت عليه هديته يشق ذلك عليه ، فلذلك أنسه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن أخذ منه كساء آخر لا علم فيه ; ليعلم أنه لم يرد عليه هديته [ ص: 393 ] استخفافا به ، ولا قلى له ، ولا كراهية لكسبه . والله أعلم .

                                                                                                                        5593 - وفيه أن كل ما يشغل المرء في صلاته إذا لم يمنعه من إقامة فرائضها وأركانها لا يفسدها ولا يوجب عليه إعادتها .

                                                                                                                        5594 - وقد ذكرنا في التمهيد حديث أنس ، قال : كان لعائشة قرام قد سترت به جانب بيتها ، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أميطي عنا قرامك ; فإنه لا تزال تعرض لي تصاويره في صلاتي " .

                                                                                                                        5595 - وروى علي بن المدني ، قال : حدثني يعقوب بن إبراهيم بن سعد ، قال : حدثني أبي عن ابن إسحاق ، قال : حدثني عبد الله بن كعب مولى عثمان بن عفان عن خارجة بن زيد بن ثابت ، قال : سمعت معاذا القارئ يسأل أبي زيد بن ثابت عن الرجل يصلي ، والرجل في قبلته مستقبله بوجهه ، فقال : إني ما أبالي أعمود من عمد المسجد استقبلني في صلاتي ، أو استقبلني رجل ، إن الرجل لا يقطع صلاة الرجل .

                                                                                                                        5596 - قال أبو عمر : إنما كرهه من كرهه خشية أن يشغله النظر إليه عن شيء من صلاته ، وربما كان منه ما يشغل المصلي الذي يستقبله .




                                                                                                                        الخدمات العلمية