الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              فصل

              وللنظر في ضوابط ما يدخل تحت العفو - إن قيل - به نظر ; فإن الاقتصار به على محال النصوص نزغة ظاهرية ، والانحلال في اعتبار ذلك على الإطلاق خرق لا يرقع ، والاقتصار فيه على بعض المحال دون بعض تحكم يأباه المعقول والمنقول ، فلا بد من وجه يقصد نحوه في المسألة حتى تتبين بحول الله ، والقول في ذلك ينحصر في ثلاثة أنواع : أحدها : الوقوف مع مقتضى الدليل المعارض قصد نحوه وإن قوي معارضه .

              والثاني : الخروج عن مقتضاه عن غير قصد أو عن قصد ، لكن بالتأويل .

              والثالث : العمل بما هو مسكوت عن حكمه رأسا .

              فأما الأول : فيدخل تحته العمل بالعزيمة ، وإن توجه حكم الرخصة ظاهرا ; فإن العزيمة لما توخيت على ظاهر العموم أو الإطلاق ؛ كان الواقف معها واقفا على دليل مثله معتمد على الجملة ، وكذلك العمل بالرخصة ، وإن [ ص: 264 ] توجه حكم العزيمة ; فإن الرخصة مستمدة من قاعدة رفع الحرج ، كما أن العزيمة راجعة إلى أصل التكليف ، وكلاهما أصل كلي ، فالرجوع إلى حكم الرخصة وقوف مع ما مثله معتمد .

              لكن لما كان أصل رفع الحرج واردا على أصل التكليف ورود المكمل ، ترجح جانب أصل العزيمة بوجه ما ، غير أنه لا يخرم أصل الرجوع ; لأن بذلك المكمل قيام أصل التكليف .

              وقد اعتبر في مذهب مالك هذا ، ففيه : إن سافر في رمضان أقل من أربعة برد ، فظن أن الفطر مباح به فأفطر ، فلا كفارة عليه ، وكذلك من أفطر فيه بتأويل ، وإن كان أصله غير علمي ، بل هذا جار في كل متأول ; كشارب المسكر ظانا أنه غير مسكر ، وقاتل المسلم ظانا أنه كافر ، وآكل المال الحرام عليه ظانا أنه حلال له ، والمتطهر بماء نجس ظانا أنه طاهر ، وأشباه ذلك ، ومثله المجتهد المخطئ في اجتهاده .

              وقد خرج أبو داود عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه جاء يوم الجمعة والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب ، فسمعه يقول : اجلسوا ، فجلس بباب المسجد ، فرآه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : تعال يا عبد الله بن مسعود . فظاهر من هذا أنه رأى الوقوف [ ص: 265 ] مع مجرد الأمر ، وإن قصد غيره ، مسارعة إلى امتثال أوامره .

              وسمع عبد الله بن رواحة وهو بالطريق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو يقول : اجلسوا ، فجلس في الطريق ، فمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : ما شأنك . فقال : سمعتك تقول : اجلسوا ، فجلست . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - زادك الله طاعة ، [ ص: 266 ] وظاهر هذه القصة أنه لم يقصد بالأمر بالجلوس ، ولكنه لما سمع ذلك سارع إلى امتثاله ، ولذلك سأله النبي - صلى الله عليه وسلم - حين رآه جالسا في غير موضع جلوس .

              وقد قال عليه السلام : لا يصل أحد العصر إلا في بني قريظة ، فأدركهم وقت العصر في الطريق فقال بعضهم : لا نصلي حتى نأتيها ، وقال بعضهم : بل نصلي ، ولم يرد منا ذلك . فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يعنف واحدة من الطائفتين .

              ويدخل هاهنا كل قضاء قضى به القاضي من مسائل الاجتهاد ، ثم يتبين له خطؤه ما لم يكن قد أخطأ نصا أو إجماعا أو بعض القواطع ، وكذلك الترجيح بين الدليلين ; فإنه وقوف مع أحدهما وإهمال للآخر ، فإذا فرض مهملا للراجح فذلك لأجل وقوفه مع المرجوح ، وهو في الظاهر دليل يعتمد مثله ، وكذلك العمل بدليل منسوخ أو غير صحيح ; فإنه وقوف مع ظاهر دليل يعتمد [ ص: 267 ] مثله في الجملة ، فهذه وأمثالها مما يدخل تحت معنى العفو المذكور .

              وإنما قلنا : " الوقوف مع مقتضى الدليل المعارض " ، فشرط فيه المعارضة لأنه إن كان غير معارض لم يدخل تحت العفو ، لأنه أمر أو نهي أو تخيير عمل على وفقه ، فلا عتب يتوهم فيه ، ولا مؤاخذة تلزمه بحكم الظاهر ، فلا موقع للعفو فيه .

              وإنما قيل : " وإن قوي معارضه " لأنه إن لم يقو معارضه لم يكن من هذا النوع ، بل من النوع الذي يليه على إثر هذا ; فإنه ترك لدليل ، وهنا وإن كان إعمالا لدليل أيضا ; فأعماله من حيث هو أقوى عند الناظر أو في نفس الأمر ، كإعمال الدليل غير المعارض ; فلا عفو فيه .

              وأما النوع الثاني ، وهو الخروج عن مقتضى الدليل عن غير قصد أو عن قصد ، لكن بالتأويل ، فمنه الرجل يعمل عملا على اعتقاد إباحته ; لأنه لم يبلغه دليل تحريمه أو كراهيته ، أو يتركه معتقدا إباحته إذا لم يبلغه دليل وجوبه أو ندبه ، كقريب العهد بالإسلام لا يعلم أن الخمر محرمة فيشربها ، أو لا يعلم [ ص: 268 ] أن غسل الجنابة واجب ، فيتركه ، وكما اتفق في الزمان الأول حين لم تعلم الأنصار طلب الغسل من التقاء الختانين ، ومثل هذا كثير يتبين للمجتهدين ، وقد روي عن مالك أنه كان لا يرى تخليل أصابع الرجلين في الوضوء ، ويراه من التعمق ، حتى بلغه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخلل ; فرجع إلى القول به ، وكما اتفق لأبي يوسف مع مالك في المد والصاع ، حتى رجع إلى القول بذلك .

              ومن ذلك العمل على المخالفة خطأ أو نسيانا ، ومما يروى من الحديث : رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ، وما استكرهوا عليه ; فإن صح [ ص: 269 ] فذلك ، وإلا فالمعنى متفق عليه .

              ومما يجري مجرى الخطأ والنسيان في أنه من غير قصد ، وإن وجد القصد - الإكراه المضمن في الحديث ، وأبين من هذا العفو عن عثرات ذوي الهيئات ; فإنه ثبت في الشرع إقالتهم في الزلات ، وأن لا يعاملوا بسببها معاملة غيرهم ، جاء في الحديث : أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم ، وفي حديث آخر : تجافوا عن عقوبة ذوي المروءة والصلاح ، وروي العمل بذلك عن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم ; فإنه قضى به في رجل من آل عمر بن الخطاب شج رجلا ، وضربه فأرسله ; وقال : أنت من ذوي الهيئات .

              وفي خبر آخر : عن عبد العزيز بن عبد الله بن عبيد الله بن عمر بن الخطاب أنه قال : استأدى علي مولى لي جرحته يقال : له سلام البربري إلى ابن حزم فأتاني فقال : جرحته ؟ قلت : نعم . قال : سمعت خالتي عمرة تقول : [ ص: 270 ] قالت عائشة : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم فخلى [ ص: 271 ] سبيله ، ولم يعاقبه .

              وهذا أيضا من شئون رب العزة سبحانه ; فإنه قال : " ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم " الآية [ النجم : 31 - 32 ] ، لكنها أحكام أخروية ، وكلامنا في الأحكام الدنيوية .

              ويقرب من هذا المعنى درء الحدود بالشبهات ; فإن الدليل يقوم هنالك مفيدا للظن في إقامة الحد ، ومع ذلك فإذا عارضه شبهة وإن ضعفت ، غلب [ ص: 272 ] حكمها ، ودخل صاحبها في حكم العفو ، وقد يعد هذا المجال مما خولف فيه الدليل بالتأويل ، وهو من هذا النوع أيضا ، ومثال مخالفته بالتأويل مع المعرفة بالدليل ، ما وقع في الحديث في تفسير قوله تعالى : ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا الآية [ المائدة : 93 ] عن قدامة بن مظعون حين قال لعمر بن الخطاب : إن كنت شربتها فليس لك أن تجلدني ، قال عمر : ولم ؟ قال : لأن الله يقول : ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا الآية [ المائدة : 93 ] . فقال عمر : إنك أخطأت التأويل يا قدامة ، إذا اتقيت اجتنبت ما حرم الله .

              قال القاضي إسماعيل : وكأنه أراد أن هذه الحالة تكفر ما كان من شربه ; لأنه كان ممن اتقى وآمن وعمل الصالحات ، وأخطأ في التأويل ، بخلاف من استحلها ; كما في حديث علي - رضي الله عنه - ، ولم يأت في حديث قدامة أنه حد .

              [ ص: 273 ] ومما وقع في المذهب في المستحاضة تترك الصلاة زمانا جاهلة بالعمل - أنه لا قضاء عليها فيما تركت ، قال في مختصر ما ليس في المختصر : لو طال بالمستحاضة والنفساء الدم فلم تصل النفساء ثلاثة أشهر ، ولا المستحاضة شهرا ، لم يقضيا ما مضى إذا تأولنا في ترك الصلاة دوام ما بهما من الدم ، وقيل في المستحاضة : إذا تركت بعد أيام أقرائها يسيرا أعادته ، وإن كان كثيرا فليس عليها قضاؤه بالواجب ، وفي سماع أبي زيد عن مالك : أنها إذا تركت الصلاة بعد الاستظهار جاهلة ، لا تقضي صلاة تلك الأيام ، واستحب ابن القاسم لها القضاء ; فهذا كله مخالفة للدليل مع الجهل والتأويل ; فجعلوه من قبيل العفو ، ومن ذلك أيضا المسافر يقدم قبل الفجر ، فيظن أن من لم يدخل قبل غروب الشمس فلا صوم له ، أو تطهر الحائض قبل طلوع الفجر ; فتظن أنه لا يصح صومها حتى تطهر قبل الغروب ، فلا كفارة هنا ، وإن خالف الدليل لأنه متأول ، وإسقاط الكفارة هو معنى العفو .

              وأما النوع الثالث ، وهو العمل بما هو مسكوت عن حكمه ففيه نظر ، فإن خلو بعض الوقائع عن حكم لله - مما اختلف فيه ، فأما على القول بصحة [ ص: 274 ] الخلو ، فيتوجه النظر ، وهو مقتضى الحديث وما سكت عنه فهو عفو ، وأشباهه مما تقدم .

              وأما على القول الآخر فيشكل الحديث ; إذ ليس ثم مسكوت عنه بحال ، بل هو إما منصوص ، وإما مقيس على منصوص ، والقياس من جملة الأدلة الشرعية ، فلا نازلة إلا ولها في الشريعة محل حكم ; فانتفى المسكوت عنه إذا ، ويمكن أن يصرف السكوت على هذا القول إلى ترك الاستفصال مع وجود مظنته ، وإلى السكوت عن مجاري العادات مع استصحابها في الوقائع ، وإلى السكوت عن أعمال أخذت قبل من شريعة إبراهيم عليه السلام .

              فالأول : كما في قوله تعالى : وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم [ المائدة : 5 ] ، فإن هذا العموم يتناول بظاهره ما ذبحوا لأعيادهم ، وكنائسهم ، وإذا نظر إلى المعنى [ أشكل ] ، لأن في ذبائح الأعياد زيادة تنافي أحكام الإسلام فكان للنظر هنا مجال ، ولكن مكحولا سئل عن المسألة فقال : كله ، قد علم الله ما يقولون ، وأحل ذبائحهم ، يريد - والله أعلم - أن الآية لم يخص عمومها ، وإن وجد هذا الخاص المنافي . وعلم الله مقتضاه ، ودخوله تحت عموم [ ص: 275 ] اللفظ ، ومع ذلك فأحل ما ليس فيه عارض وما هو فيه ، لكن بحكم العفو عن وجه المنافاة .

              وإلى نحو هذا يشير قوله عليه السلام : وعفا عن أشياء رحمة بكم لا عن نسيان ، فلا تبحثوا عنها ، وحديث الحج أيضا مثل هذا ، حين قال : أحجنا هذا لعامنا أو للأبد ؟ لأن اعتبار اللفظ يعطي أنه للأبد ، فكره عليه السلام سؤاله ، وبين له علة ترك السؤال عن مثله ، وكذلك حديث : إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما . . . إلخ ، يشير إلى هذا المعنى ; فإن السؤال عما لم يحرم ، ثم يحرم لأجل المسألة إنما يأتي في الغالب من جهة إبداء وجه فيه يقتضي التحريم ، مع أن له أصلا يرجع إليه في الحلية ، وإن اختلفت فروعه في أنفسها ، أو دخلها معنى يخيل الخروج عن حكم ذلك الأصل ، ونحو حديث : ذروني ما تركتكم ، وأشباه ذلك .

              والثاني : كما في الأشياء التي كانت في أول الإسلام على حكم الإقرار ، ثم حرمت بعد ذلك بتدريج كالخمر ; فإنها كانت معتادة الاستعمال في الجاهلية ، ثم جاء الإسلام فتركت على حالها قبل الهجرة ، وزمانا بعد ذلك ، [ ص: 276 ] ولم يتعرض في الشرع للنص على حكمها حتى نزل : يسألونك عن الخمر والميسر [ البقرة : 219 ] ; فبين ما فيها من المنافع ، والمضار ، وأن الأضرار فيها أكبر من المنافع ، وترك الحكم الذي اقتضته المصلحة ـ وهو التحريم ـ لأن القاعدة الشرعية أن المفسدة إذا أربت على المصلحة فالحكم للمفسدة ، والمفاسد ممنوعة ، فبان وجه المنع فيهما ، غير أنه لما لم ينص على المنع ـ وإن ظهر وجهه ـ تمسكوا بالبقاء مع الأصل الثابت لهم بمجاري العادات ، ودخل لهم تحت العفو إلى أن نزل ما في سورة المائدة من قوله تعالى : فاجتنبوه ; فحينئذ استقر حكم التحريم ، وارتفع العفو ، وقد دل على ذلك قوله تعالى : ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا الآية [ المائدة : 93 ] ; فإنه لما حرمت قالوا : كيف بمن مات ، وهو يشربها فنزلت الآية ، فرفع الجناح هو معنى العفو .

              ومثال ذلك الربا المعمول به في الجاهلية وفي أول الإسلام ، وكذلك بيوع الغرر الجارية بينهم ، كبيع المضامين ، والملاقيح ، والثمر قبل بدو صلاحه ، وأشباه ذلك كلها كانت مسكوتا عنها ، وما سكت عنه ، فهو في معنى [ ص: 277 ] العفو ، والنسخ بعد ذلك لا يرفع هذا المعنى لوجود جملة منه باقية إلى الآن على حكم إقرار الإسلام كالقراض ، والحكم في الخنثى بالنسبة إلى الميراث ، وغيره ، وما أشبه ذلك مما نبه عليه العلماء .

              والثالث : كما في النكاح والطلاق والحج والعمرة وسائر أفعالهما إلا ما غيروا ، فقد كانوا يفعلون ذلك قبل الإسلام فيفرقون بين النكاح والسفاح ويطلقون ، ويطوفون بالبيت أسبوعا ، ويمسحون الحجر الأسود ، ويسعون بين الصفا والمروة ويلبون ، ويقفون بعرفات ، ويأتون مزدلفة ويرمون الجمار ، ويعظمون الأشهر الحرم ، ويحرمونها ، ويغتسلون من الجنابة ، ويغسلون موتاهم ويكفنونهم ، ويصلون عليهم ، ويقطعون السارق ويصلبون قاطع الطريق إلى غير ذلك مما كان فيهم من بقايا ملة أبيهم إبراهيم ; فكانوا على ذلك إلى أن جاء الإسلام فبقوا على حكمه حتى أحكم الإسلام منه ما أحكم وانتسخ ما خالفه فدخل ما كان قبل ذلك في حكم العفو مما لم يتجدد فيه خطاب زيادة على التلقي من الأعمال المتقدمة ، وقد نسخ منها ما نسخ ، وأبقي منها ما أبقي على المعهود الأول .

              فقد ظهر بهذا البسط مواقع العفو في الشريعة ، وانضبطت . ـ والحمد لله ـ على أقرب ما يكون ، إعمالا لأدلته الدالة على ثبوته ، إلا أنه بقي النظر في العفو هل هو حكم أم لا ؟ ، وإذا قيل : حكم ; فهل يرجع إلى خطاب التكليف أم إلى خطاب الوضع ؟ هذا محتمل كله ، ولكن لما لم يكن مما ينبني عليه حكم عملي ، لم يتأكد البيان فيه ، فكان الأولى تركه . والله الموفق للصواب .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية