الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب شراب الحلواء والعسل وقال الزهري لا يحل شرب بول الناس لشدة تنزل لأنه رجس قال الله تعالى أحل لكم الطيبات وقال ابن مسعود في السكر إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم

                                                                                                                                                                                                        5291 حدثنا علي بن عبد الله حدثنا أبو أسامة قال أخبرني هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه الحلواء والعسل

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله : ( باب شراب الحلواء والعسل ) في رواية المستملي " الحلواء " بالمد ولغيره بالقصر ، وهما لغتان ، قال الخطابي : هي ما يعقد من العسل ونحوه ، وقال ابن التين عن الداودي : هي النقيع الحلو ، وعليه يدل تبويب البخاري " شراب الحلواء " كذا قال ، وإنما هو نوع منها ، والذي قاله الخطابي هو مقتضى العرف ، وقال ابن بطال : الحلوى كل شيء حلو ، وهو كما قال ، لكن استقر العرف على تسمية ما لا يشرب من أنواع الحلو حلوى ولأنواع ما يشرب مشروب ونقيع أو نحو ذلك ، ولا يلزم مما قال اختصاص الحلوى بالمشروب .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقال الزهري : لا يحل شرب بول الناس لشدة تنزل لأنه رجس ، قال الله - تعالى - : ( أحل لكم الطيبات ) وصله عبد الرزاق عن معمر عن الزهري ووجهه ابن التين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمى البول رجسا ، وقال الله - تعالى - : ويحرم عليهم الخبائث والرجس من جملة الخبائث ، ويرد على استدلال الزهري جواز أكل الميتة عند الشدة وهي رجس أيضا ، ولهذا قال ابن بطال : الفقهاء على خلاف قول الزهري ، وأشد حال البول أن يكون في النجاسة والتحريم مثل الميتة والدم ولحم الخنزير ، ولم يختلفوا في جواز تناولها عند الضرورة . وأجاب بعض العلماء عن الزهري باحتمال أنه كان يرى أن القياس لا يدخل الرخص ، والرخصة في الميتة لا في البول . قلت : وليس هذا بعيدا من مذهب الزهري ، فقد أخرج البيهقي في " الشعب " من رواية ابن أخي الزهري قال : كان الزهري يصوم يوم عاشوراء في السفر ، فقيل له أنت تفطر في رمضان إذا كنت مسافرا ، فقال : إن الله - تعالى - قال في رمضان فعدة من أيام أخر وليس ذلك لعاشوراء . قال ابن التين : وقد يقال إن الميتة لسد الرمق ، والبول لا يدفع العطش ، فإن صح هذا صح ما قال الزهري إذ لا فائدة فيه . قلت : وسيأتي نظيره في الأثر الذي بعده .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقال ابن مسعود في السكر : إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم ) . قال ابن التين : اختلف في السكر بفتحتين : فقيل هو الخمر ، وقيل : ما يجوز شربه كنقيع التمر قبل أن يشتد وكالخل ، وقيل : هو نبيذ التمر إذا اشتد . قلت : وتقدم في تفسير النحل عن أكثر أهل العلم أن السكر في قوله - تعالى - : تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا وهو ما حرم منها ، والرزق الحسن ما أحل . وأخرج الطبري من طريق أبي رزين أحد كبار التابعين قال : نزلت هذه الآية قبل تحريم الخمر . ومن طريق النخعي نحوه . ومن طريق الحسن البصري بمعناه . ثم أخرج من طريق الشعبي قال : السكر نقيع الزبيب يعني قبل أن يشتد والخل ، واختار الطبري هذا القول وانتصر له لأنه [ ص: 82 ] لا يستلزم منه دعوى نسخ ، ويستمر الامتنان بما تضمنته الآية على ظاهره ، بخلاف القول الأول فإنه يستلزم النسخ والأصل عدمه . قلت : وهذا في الآية محتمل ، لكنه في هذا الأثر محمول على المسكر ، وقد أخرج النسائي بأسانيد صحيحة عن النخعي والشعبي وسعيد بن جبير أنهم قالوا : السكر خمر ، ويمكن الجمع بأن السكر بلغة العجم الخمر وبلغة العرب النقيع قبل أن يشتد ، ويؤيده ما أخرجه الطبراني من طريق قتادة قال : السكر خمور الأعاجم ، وعلى هذا ينطبق قول ابن مسعود " إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم " ونقل ابن التين عن الشيخ أبي الحسن يعني ابن القصار : إن كان أراد مسكر الأشربة فلعله سقط من الكلام ذكر السؤال ، وإن كان أراد السكر بالضم وسكون الكاف قال : فأحسبه هذا أراد ، لأنني أظن أن عند بعض المفسرين سئل ابن مسعود عن التداوي بشيء من المحرمات فأجاب بذلك . والله أعلم بمراد البخاري . قلت : قد رويت الأثر المذكور في " فوائد علي بن حرب الطائي " عن سفيان بن عيينة عن منصور عن أبي وائل قال : اشتكى رجل منا يقال له خثيم بن العداء داء ببطنه يقال له الصفر فنعت له السكر ، فأرسل إلى ابن مسعود يسأله ، فذكره . وأخرجه ابن أبي شيبة عن جرير عن منصور وسنده صحيح على شرط الشيخين ، وأخرجه أحمد في كتاب الأشربة والطبراني في الكبير من طريق أبي وائل نحوه ، وروينا في " نسخة داود بن نصير الطائي " بسند صحيح عن مسروق قال : " قال عبد الله هو ابن مسعود : لا تسقوا أولادكم الخمر فإنهم ولدوا على الفطرة ، وإن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم " وأخرجه ابن أبي شيبة من وجه آخر عن ابن مسعود كذلك ، وهذا يؤيد ما قلناه أولا في تفسير السكر . وأخرج إبراهيم الحربي في غريب الحديث ، من هذا الوجه قال : أتينا عبد الله في مجدرين أو محصبين نعت لهم السكر فذكر مثله . ولجواب ابن مسعود شاهد آخر أخرجه أبو يعلى وصححه ابن حبان من حديث أم سلمة قالت اشتكت بنت لي فنبذت لها في كوز ، فدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يغلي فقال : ما هذا ؟ فأخبرته ، فقال : إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم ثم حكى ابن التين عن الداودي قال : قول ابن مسعود حق لأن الله حرم الخمر لم يذكر فيها ضرورة وأباح الميتة وأخواتها في الضرورة . قال : ففهم الداودي أن ابن مسعود تكلم على استعمال الخمر عند الضرورة وليس كذلك ، وإنما تكلم على التداوي بها فمنعه ، لأن الإنسان يجد مندوحة عن التداوي بها ولا يقطع بنفعه ، بخلاف الميتة في سد الرمق . وكذا قال النووي في الفرق بين جواز إساغة اللقمة لمن شرق بها بالجرعة من الخمر فيجوز وبين التداوي بها فلا يجوز لأن الإساغة تتحقق بها بخلاف الشفاء فإنه لا يتحقق . ونقل الطحاوي عن الشافعي أنه قال : لا يجوز سد الرمق من الجوع ولا من العطش بالخمر لأنها لا تزيده إلا جوعا وعطشا ، ولأنها تذهب بالعقل . وتعقبه بأنه إن كانت لا تسد من الجوع ولا تروي من العطش لم يرد السؤال أصلا ، وأما إذهابها العقل فليس البحث فيه بل هو فيما يسد به الرمق وقد لا يبلغ إلى حد إذهاب العقل . قلت : والذي يظهر أن الشافعي أراد أن يردد الأمر بأن التناول منها إن كان يسيرا فهو لا يغني من الجوع ولا يروي من العطش ، وإن كانت كثيرا فهو يذهب العقل ، ولا يمكن القول بجواز التداوي بما يذهب العقل لأنه يستلزم أن يتداوى من شيء فيقع في أشد منه . وقد اختلف في جواز شرب الخمر للتداوي وللعطش ، قال مالك لا يشربها لأنها لا تزيده إلا عطشا ، وهذا هو الأصح عند الشافعية ، لكن التعليل يقتضي قصر المنع على المتخذ من شيء يكون بطبعه حارا كالعنب والزبيب ، أما المتخذ من شيء بارد كالشعير فلا . وأما التداوي فإن بعضهم قال إن المنافع التي كانت فيها قبل التحريم سلبت بعد التحريم بدليل الحديث المتقدم ذكره ، وأيضا فتحريمها مجزوم به ، وكونها دواء مشكوك بل يترجح أنها ليست بدواء بإطلاق الحديث . ثم الخلاف إنما هو فيما لا يسكر منها ، [ ص: 83 ] أما ما يسكر منها فإنه لا يجوز تعاطيه في التداوي إلا في صورة واحدة وهو من اضطر إلى إزالة عقله لقطع عضو من الأكلة والعياذ بالله ، فقد اطلق الرافعي تخريجه على الخلاف في التداوي ، وصحح النووي هنا الجواز ، وينبغي أن يكون محله فيما إذا تعين ذاك طريقا إلى سلامة بقية الأعضاء ولم يجد مرقدا غيرها ، وقد صرح من أجاز التداوي بالثاني ، وأجازه الحنفية مطلقا لأن الضرورة تبيح الميتة وهي لا يمكن أن تنقلب إلى حالة تحل فيها ، فالخمر التي من شأنها أن تنقلب خلا فتصير حلالا أولى ، وعن بعض المالكية إن دعته إليها ضرورة يغلب على ظنه أنه يتخلص بشربها جاز كما لو غص بلقمة ، والأصح عند الشافعية في الغص الجواز . وهذا ليس من التداوي المحض ، وسيأتي في أواخر الطب ما يدل على النهي عن التداوي بالخمر وهو يؤيد المذهب الصحيح .

                                                                                                                                                                                                        ثم ساق البخاري . حديث عائشة ، " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجبه الحلواء والعسل " قال ابن المنير : ترجم على شيء وأعقبه بضده وبضدها تتبين الأشياء ، ثم عاد إلى ما يطابق الترجمة نصا ، ويحتمل أن يكون مراده بقول الزهري الإشارة لقوله - تعالى - : أحل لكم الطيبات إلى أن الحلواء والعسل من الطيبات فهو حلال ، وبقول ابن مسعود الإشارة إلى قوله - تعالى - : فيه شفاء للناس فدل الامتنان ، به على حله ، فلم يجعل الله الشفاء فيما حرم ، قال ابن المنير : ونبه بقوله شراب الحلواء على أنها ليست الحلوى المعهودة التي يتعاطاها المترفون اليوم ، وإنما هي حلو يشرب إما عسل بماء أو غير ذلك مما يشاكله انتهى . ومحتمل أن تكون الحلوى كانت تطلق لما هو أعم مما يعقد أو يؤكل أو يشرب ، كما أن العسل قد يؤكل إذا كان جامدا وقد يشرب إذا كان مائعا وقد يخلط فيه الماء ويذاب ثم يشرب ، وقد تقدم في كتاب الطلاق من طريق علي بن مسهر عن هشام بن عروة في حديث الباب زيادة " وإن امرأة من قوم حفصة أهدت لها عكة عسل فشرب النبي - صلى الله عليه وسلم - منه شربة " الحديث في ذكر المغافير . فقوله : " سقته شربة من عسل " محتمل لأن يكون صرفا حيث يكون مائعا ، ويحتمل أن يكون ممزوجا . وقال النووي : المراد بالحلوى في هذا الحديث كل شيء حلو ، وذكر العسل بعدها للتنبيه على شرفه ومزيته ، وهو من الخاص بعد العام ، وفيه جواز أكل لذيذ الأطعمة والطيبات من الرزق ، وأن ذلك لا ينافي الزهد والمراقبة ، لا سيما إن حصل اتفاقا . وروى البيهقي في " الشعب " عن أبي سليمان الداراني قال : قول عائشة " كان يعجبه الحلوى " ليس على معنى كثرة التشهي لها وشدة نزاع النفس إليها وتأنق الصنعة في اتخاذها كفعل أهل الترفه والشره . وإنما كان إذا قدمت إليه ينال منها نيلا جيدا فيعلم بذلك أنه يعجبه طعمها ، وفيه دليل على اتخاذ الحلاوات والأطعمة من أخلاط شتى .

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 84 ]



                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية