الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      القول في تأويل قوله تعالى:

                                                                                                                                                                                                                                      [64] فكذبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوما عمين

                                                                                                                                                                                                                                      فكذبوه " أي أصروا على تكذيبه مع طول مدة إقامته فيهم ولم يؤمن معه منهم إلا قليل فأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوما عمين أي: عن الحق، فلم يستبصروا الحق ولم يستنيروا بنور الوحي الذي هو كالشمس، ولا بظهور الآيات، ولا بآية الطوفان المغرق لهم، بعد إنذاره به، على تكذيبهم، والعمى ذهاب بصر العينين، وبصر القلب. يقال: عمي فهو أعمى وعم، كما في القاموس.

                                                                                                                                                                                                                                      وكان من أمر نوح عليه السلام، أن قومه، لما أعرضوا عن الإيمان، وتمادوا على العصيان، وعبادة الأوثان، وطال عليه أمرهم، شكاهم إلى الله تعالى، فأوحى الله إليه أنه: لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن وهم ناس قليل، فحينئذ دعا عليهم فقال: وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا فأوحى الله إليه أن يصنع السفينة، وصار قومه يسخرون منه، ويقولون: يا نوح ! قد صرت نجارا بعد النبوة ! فقال: إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون فسوف تعلمون من يأتيه [ ص: 2766 ] عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم فلما فرغ من صنع السفينة، أمره الله تعالى أن يحمل فيها من كل زوجين اثنين من أنواع الحيوانات، حتى لا ينقطع نسلها. وحشرها إليه من كل جهة. ولما رأى فوران التنور، وكان هو العلامة بينه وبين الله تعالى في ابتداء الطوفان، ركب الفلك هو ومن آمن معه، وحمل من كل زوجين اثنين، وأمر الله تعالى السماء أن تمطر. والأرض أن تتفجر عيونا، وارتفع الماء في هذا الطوفان فوق رؤوس الجبال، فهلك جميع ما على الأرض من جنس الحيوان، ولم يبق حيا غير أهل السفينة.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي التوراة: أن الأمطار هطلت أربعين يوما وليلة دون انقطاع، حتى غمرت المياه وجه الأرض، وعلت خمسة عشر ذراعا فوق الجبال الشامخة، وهلك بالطوفان كل جسم حي. ثم أرسل الله ريحا عاصفة، فانقطعت الأمطار ونقصت المياه شيئا فشيئا، وقضى نوح سنة كاملة داخل الفلك، وحين خروجه منه بنى مذبحا للقرابين، شكرا لله تعالى، وتناسلت الناس من أولاد نوح الثلاثة: سام وحام ويافث . وتوطن سام بلاد آسية ، وأقام حام بنواحي إفريقية ، وسكن يافث الديار الأوروبية -والله أعلم-.

                                                                                                                                                                                                                                      تنبيه:

                                                                                                                                                                                                                                      قال الجشمي : في الآيات فوائد منها: أن نوحا دعاهم أولا إلى التوحيد، والرسول وإن حمل الشرائع، فلا طريق له إلى بيان الشرائع إلا بعد العلم بالتوحيد. ولأنهم لا ينتفعون بذلك إلا بعد اعتقاد التوحيد، فلذلك بدأ به. وجميع الرسل بدؤوا بالتوحيد ثم بالشرائع، ولذلك كان أكثر حجاج نبينا عليه السلام بمكة ، في التوحيد. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن كثير : بين تعالى في هذه القصة أنه انتقم لأوليائه من أعدائه، وأنجى رسوله [ ص: 2767 ] والمؤمنين، وأهلك أعداءهم الكافرين، كقوله: إنا لننصر رسلنا الآية، وهذه سنة الله في عباده، في الدنيا والآخرة، أن العاقبة للمتقين، والظفر والغلب لهم، كما أهلك قوم نوح بالغرق، ونجى نوحا وأصحابه المؤمنين.

                                                                                                                                                                                                                                      قال مالك عن زيد بن أسلم : كان قوم نوح قد ضاق بهم السهل والجبل. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : ما عذب الله قوم نوح إلا والأرض ملأى بهم، وليس بقعة من الأرض إلا ولها مالك وحائز.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى:

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية