الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ثم علل ذلك بما هو أعظم منه فقال : بديع السماوات والأرض أي : خالقهما على غير مثال سبق ، وما أبدع كلية أمر كان أحرى أن يكون ما في طيه وإحاطته وإقامته من الأشياء المقامة به من مبدعه فكيف يجعل له شبيه منه ؟ لأن الولد مستخرج شبيه بما استخرج من عينه ، ذكره الحرالي . وإذا قضى أي : أراد أمرا منهما أو من غيرهما ، والقضاء : إنفاذ المقدر . والمقدر : ما حد من مطلق المعلوم ، قاله الحرالي . فإنما يقول له كن من الكون وهو كمال البادي [ ص: 129 ] في ظاهره وباطنه فيكون فهو منزه عن حاجة التوالد وكل حاجة ، وسر التعبير بالمضارع يذكر إن شاء الله تعالى في آل عمران . قال الحرالي : وصيغته تمادي الكائن في أطوار وأوقات وأسنان يمتد تواليها في المكون إلى غاية الكمال . انتهى . قالوا : ورفع "يكون" للاستئناف أي : فهو يكون ، أو العطف على " يقول " إيذانا بسرعة التكوين على جهة التمثيل ، ومن قال بالأول منع العطف على " يقول " لاقتضاء الفاء أن القول مع التكوين فيلزم قدم التكوين ، وقال الإمام أبو علي الفارسي في كتاب الحجة : إن ذلك لا يطرد في مثل ثاني حرفي آل عمران وهو قوله : ثم قال له كن فيكون لأنه لا يحسن تخالف الفعلين المتعاطفين بالمضي وغيره ، وأول قوله :


                                                                                                                                                                                                                                      ولقد أمر على اللئيم يسبني . . . فمضيت ثم أقول لا يعنيني



                                                                                                                                                                                                                                      بأن معناه : مررت ماضيا ، وطعن فيه أبو شامة بأن يكون في الآية ماض مثله وقد صرح أبو علي والحق معه بأنه على بابه يعني ; وفائدة التعبير [ ص: 130 ] به مضارعا ، تصوير الحال والإرشاد إلى أن التقدير : كن فكان ، لأنه متى قضى شيئا قال له : كن ، فيكون ، وجعل الأحسن عطفه على " كن " لأنه وإن كان بلفظ الأمر فمعناه الخبر أي : يكون ; وقال : إن ذلك أكثر اطرادا لانتظامه لمثل قوله : ثم قال له كن فيكون وهذا الموضع مجمع على رفعه ، وكذا قوله تعالى في الأنعام : ويوم يقول كن فيكون وإنما الخلاف في ستة مواضع اختص ابن عامر منها بأربعة : وهي هذا الموضع ، وقوله تعالى في آل عمران : إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون وفي مريم مثله سواء ، وفي غافر : فإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ووافقه الكسائي في حرفين في النحل : إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون وفي يس : إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فجعلوا النصب [ ص: 131 ] في هذين عطفا على " يقول " وفي الأربعة الأولى جوابا للأمر في قوله : كن اعتبارا بصورة اللفظ وإن لم يكن المعنى على الأمر فالتقدير : يقول له يكون فيكون ، أي : فيطاوع ، فطاح قول من ضعفه بأن المعنى على الخبر وأنه لا يصح النصب إلا إذا تخالف الأمر وجوابه ، وهذا ليس كذلك بل يلزم فيه أن يكون الشيء شرطا لنفسه ، لأن التقدير : إن يكن يكن ; وصرح ابن مجاهد بوهم ابن عامر وأن هذا غير جائز في العربية ، كما نقله عنه الإمام أبو شامة في شرح الشاطبية ; فأمعنت النظر في ذلك لوقوع القطع بصحة قراءة ابن عامر لتواترها نقلا عمن أنزل عليه القرآن ، فلما رأيته لم ينصب إلا ما في حيز " إذا " علمت أن ذلك لأجلها لما فيها من معنى الشرط ، فيكون مثل قوله تعالى في الشورى :

                                                                                                                                                                                                                                      ويعلم الذين يجادلون في آياتنا بنصب "يعلم" في قراءة غير نافع وابن عامر على بعض التوجيهات ، وذلك ماش على نهج السداد من غير كلفة ولا استبعاد إذا تؤمل الكلام على "إذا" قال الرضي وهو العلامة نجم الدين محمد بن حسن الإستراباذي في الظرف من شرحه لقول العلامة أبي عمرو عثمان بن الحاجب في كافيته : ومنها "إذا" وهي للمستقبل وفيها معنى الشرط ، فلذلك اختير بعدها الفعل ، والأصل في استعمال "إذا" أن تكون لزمان من أزمنة المستقبل مختص من بينها بوقوع حدث فيه مقطوع به ، ثم قال : وكلمة الشرط ما يطلب جملتين يلزم من وجود مضمون أولاهما فرضا حصول [ ص: 132 ] مضمون الثانية ، فالمضمون الأول مفروض ملزوم ، والثاني لازمه ; ثم قال : و "إن" موضوعة لشرط مفروض وجوده في المستقبل مع عدم قطع المتكلم لا بوقوعه ولا بعدم وقوعه ، وذلك لعدم القطع في الجزاء لا بالوجود ولا بالعدم ، سواء شك في وقوعه كما في حقنا ، أو لم يشك كان الواقعة في كلامه تعالى ; وقال : ولا يكون الشرط في اسم إلا بتضمن معناها ; ثم قال : فنقول : لما كان "إذا" للأمر المقطوع بوجوده في اعتقاد المتكلم في المستقبل لم يكن لمفروض وجوده ، لتنافي القطع والفرض في الظاهر ، فلم يكن فيه معنى "إن" الشرطية ، لأن الشرط كما بينا هو المفروض وجوده ، لكنه لما كان ينكشف لنا الحال كثيرا في الأمور التي نتوقعها قاطعين بوقوعها عن خلاف ما نتوقعه جوزوا تضمين "إذا" معنى "إن" كما في "متى" وسائر الأسماء الجوازم ، فيقول القائل : إذا جئتني فأنت مكرم - شاكا في مجيء المخاطب غير مرجح وجوده على عدمه بمعنى متى جئتني سواء ; ثم قال : ولما كثر دخول معنى الشرط في "إذا" وخروجه عن أصله من الوقت المعين جاز استعماله وإن لم يكن فيه معنى "إن" الشرطية ، وذلك في الأمور القطعية استعمال "إذا" المتضمنة لمعنى "إن" ، وذلك لمجيء جملتين بعده على طرز الشرط والجزاء وإن لم يكونا شرطا وجزاء ، ثم قال في الكلام على الفاء في نواصب الفعل ، وقد تضمر "أن" بعد الفاء والواو الواقعتين [ ص: 133 ] بعد الشرط قبل الجزاء ، نحو إن تأتيني فتكرمني - أو لو تكرمني - آتك ، أو بعد الشرط والجزاء ، نحو إن تأتني آتك فأكرمك - أو : وأكرمك - وذلك لمشابهة الشرط في الأول والجزاء في الثاني المنفي ، إذ الجزاء مشروط وجوده بوجود الشرط ، ووجود الشرط مفروض ، فكلاهما غير موصوفين بالوجود حقيقة ، وعليه حمل قوله تعالى : إن يشأ يسكن الريح فيظللن إلى قوله : ويعلم الذين يجادلون على قراءة النصب ; ثم قال : وإنما صرفوا ما بعد فاء السببية من الرفع إلى النصب لأنهم قصدوا التنصيص على كونها سببية والمضارع المرتفع بلا قرينة مخلصة للحال والاستقبال ظاهر في معنى الحال ، كما تقدم في باب المضارع ، فلو أبقوه مرفوعا لسبق إلى الذهن أن الفاء لعطف جملة حالية الفعل على الجملة التي قبل الفاء ، يعني فكان يلزم أن يكون الكون قديما كالقول ، فصرفه إلى النصب منبه في الظاهر على أنه ليس معطوفا ، إذ المضارع المنصوب بأن مفرد ، وقبل الفاء المذكورة جملة ، ويتخلص المضارع للاستقبال اللائق بالجزائية كما ذكرنا في المنصوب بعد إذن ، فكان فيه شيئان : رفع جانب كون الفاء للعطف . وتقوية كونه للجزاء ; فيكون إذن ما بعد الفاء مبتدأ محذوف الخبر وجوبا . انتهى . فالتقدير هنا والله أعلم : فكونه واقع حق ليس بخيال كالسحر والتمويهات ، فعلى هذا قراءة النصب أبلغ لظهورها في الصرف عن الحال إلى الاستقبال مع [ ص: 134 ] ما دلت عليه من سرعة الكون وأنه حق ، ثم رأيت البرهان بن إبراهيم بن محمد السفاقسي حكى في إعرابه ما خرجته عن ابن الضائع - يعني بالضاد المعجمة والعين المهملة - وهو الأستاذ أبو الحسن علي بن محمد بن يوسف الكتامي شيخ أبي حيان فقال ما نصه : زاد ابن الضائع في نصب " فيكون " وجها حسنا وهو نصبه في جواب الشرط وهو إذا ، وكان مراده التسبيب عن الجواب كما ذكرت ، قال السفاقسي : ويصح فيه وجه ثالث على مذهب الكوفيين وهو نصبه في جواب الحصر بإنما ، لأنهم أجازوا : إنما هي ضربة أسد فيتحطم ظهره .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية