الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      هذا (ومن باب الإشارة في الآيات يسألونك عن الأنفال إذ لم يرتفع عنهم إذ ذاك حجاب الأفعال [ ص: 183 ] قل الأنفال لله والرسول أي: حكمها مختص بالله تعالى وبالرسول مظهرية فاتقوا الله بالاجتناب عن رؤية الأفعال برؤية فعل الله تعالى وأصلحوا ذات بينكم بمحو صفحات نفوسكم التي هي منشأ صدور ما يوجب التنازع والتخالف وأطيعوا الله ورسوله بفنائها ليتيسر لكم قبول الأمر بالإرادة القلبية الصادقة إن كنتم مؤمنين الإيمان الحقيقي إنما المؤمنون كذلك الذين إذا ذكر الله بملاحظة عظمته تعالى وكبريائه وسائر صفاته وهو ذكر القلب وذكره سبحانه وتعالى بالأفعال ذكر النفس وجلت قلوبهم أي: خافت لإشراق أنوار تجليات تلك الصفات عليها وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا بالترقي من مقام العلم إلى العين.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد جاء أن الله تجلى لعباده في كلامه لو يعلمون وعلى ربهم يتوكلون إذ لا يرون فعلا لغيره تعالى، وذكر بعض أهل العلم أنه سبحانه وتعالى نبه أولا بقوله عز قائلا: وجلت قلوبهم على بدء حال المريد لأن قلبه لم يقو على تحمل التجليات في المبدأ فيحصل له الوجل كضربة السعفة ويقشعر لذلك جلده وترتعد فرائصه، وأما المنتهي فقلما يعرض له ذلك لما أنه قد قوي قلبه على تحمل التجليات وألفها فلا يتزلزل لها ولا يتغير، وعلى هذا حمل السهروردي قدس سره ما روي عن الصديق الأكبر رضي الله تعالى عنه أنه رأى رجلا يبكي عند قراءة القرآن فقال: هكذا حتى قست القلوب حيث أراد حتى قويت القلوب إذ أدمنت سماع القرآن وألفت أنواره فما تستغربه حتى تتغير، ونبه ثانيا سبحانه وتعالى بقوله جل وعلا: زادتهم إيمانا على أخذ المريد في السلوك والتجلي وعروجه في الأحوال، وثالثا بقوله عز شأنه: وعلى ربهم يتوكلون على صعوده في الدرجات والمقامات، وفي تقديم المعمول إيذان بالتبري عن الحول والقوة والتفويض الكامل وقطع النظر عما سواه تعالى، وفي صيغة المضارع تلويح إلى استيعاب مراتب التوكل كلها، وهو كما قال العارفأبو إسماعيل الأنصاري أن يفوض الأمر كله إلى مالكه ويعول على وكالته، وهو من أصعب المنازل، وهو دليل العبودية التي هي تاج الفخر عند الأحرار، والظاهر أن الخوف الذي هو خوف الجلال والعظمة يتصف به الكاملون أيضا ولا يزول عنهم أصلا، وهذا بخلاف خوف العقاب فإنه يزول، وإلى ذلك الإشارة بما شاع في الأثر: «نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه».

                                                                                                                                                                                                                                      الذين يقيمون الصلاة أي صلاة الحضور القلبي وهي المعراج المعنوي إلى مقام القرب ومما رزقناهم من العلوم التي حصلت لهم بالسير ينفقون أولئك هم المؤمنون حقا ؛ لأنهم الذين ظهرت فيهم الصفات الحقة وغدوا مرايا لها ومن هنا قيل: المؤمن مرآة المؤمن لهم درجات عند ربهم من مراتب الصفات وروضات جنات القلب ومغفرة لذنوب الأفعال ورزق كريم من ثمرات أشعار التجليات الصفاتية، وقال بعض العارفين: المغفرة إزالة الظلمات الحاصلة من الاشتغال بغير الله تعالى، والرزق الكريم الأنوار الحاصلة بسبب الاستغراق في معرفته ومحبته وهو قريب مما ذكرنا كما أخرجك ربك من بيتك متلبسا بالحق وإن فريقا من المؤمنين وهم المحتجبون برؤية الأفعال لكارهون أي: حالهم في تلك الحال كحالهم في هذه الحال يجادلونك في الحق بعدما تبين لك أولهم بالمعجزات إذ تستغيثون ربكم بالبراءة عن الحول والقوة والانسلاخ عن ملابس الأفعال والصفات النفسية فاستجاب لكم عند ذلك أني ممدكم من عالم الملكوت لمشابهة قلوبكم إياه حينئذ بألف من الملائكة أي: القوة السماوية وروحانياتها مردفين لملائكة أخرى وهو إجمال ما في آل عمران وما جعله الله أي: ما جعل الله تعالى الإمداد [ ص: 184 ] إلا بشرى أي: بشارة لكم بالنصر ولتطمئن به قلوبكم لما فيها من اتصالها بما يناسبها. وما النصر إلا من عند الله والأسباب في الحقيقة ملغاة إن الله عزيز قوي على النصر من غير سبب حكيم يفعله على مقتضى الحكمة، وقد اقتضت فعله على الوجه المذكور. إذ يغشيكم النعاس وهو هدو القوى البدنية والصفات النفسانية بنزول السكينة أمنة منه أي: أمنا من عنده سبحانه وتعالى وينزل عليكم من السماء أي: سماء الروح ماء وهو ماء علم اليقين ليطهركم به عن حدث هواجس الوهم وجنابة حديث النفس ويذهب عنكم رجز الشيطان وسوسته وتخويفه وليربط على قلوبكم أي: يقويها بقوة اليقين ويسكن جأشكم ويثبت به الأقدام إذ الشجاعة وثبات الأقدام في المخاوف من ثمرات قوة اليقين إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم أي: يمد الملكوت بالجبروت فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب لانقطاع المدد عنهم واستيلاء قتام الوهم عليهم فاضربوا فوق الأعناق لئلا يرفعوا رأسا واضربوا منهم كل بنان لئلا يقدروا على المدافعة، وبعضهم جعل الإشارة في الآيات نفسية والخطاب فيها حسبما يليق له الخطاب من المرشد والسالك مثلا، ولكل مقام مقال، وفي تأويل النيسابوري نبذة من ذلك فارجع إليه إن أردته وما ذكرناه يكفي لغرضنا وهو عدم إخلاء كتابنا من كلمات القوم ولا نتقيد بآفاقية أو أنفسية، والله تعالى الموفق للرشاد.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية