nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=16nindex.php?page=treesubj&link=28981_32238_31064قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون
هذا جواب عن لازم اقتراحهم وكنايته عن رميهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالكذب عن الله فيما ادعى من إرساله وإنزال القرآن عليه كما تقدم في الجواب قبله . ولكونه جوابا مستقلا عن معنى قصدوه من كلامهم جاء الأمر به مفصولا عن الأول غير معطوف عليه تنبيها على استقلاله وأنه ليس بتكملة للجواب الأول .
[ ص: 120 ] وفي هذا الجواب استدلال على أنه مرسل من الله تعالى ، وأنه لم يختلق القرآن من عنده بدليل التفت في مطاويه أدلة ، وقد نظم فيه الدليل بانتفاء نقيض المطلوب على إثبات المطلوب إذ قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=16لو شاء الله ما تلوته تقديره لو شاء الله أن لا أتلوه عليكم ما تلوته ، فإن فعل المشيئة يكثر حذف مفعوله في جملة الشرط لدلالة الجزاء عليه ، وإنما بني الاستدلال على عدم مشيئة الله نفي تلاوته لأن ذلك مدعى الكفار لزعمهم أنه ليس من عند الله ، فكان الاستدلال إبطالا لدعواهم ابتداء وإثباتا لدعواه مآلا . وهذا الجمع بين الأمرين من بديع الاستدلال ، أي لو شاء الله أن لا آتيكم بهذا القرآن لما أرسلني به ولبقيت على الحالة التي كنت عليها من أول عمري .
والدليل الثاني مطوي هو مقتضى جواب لو ، فإن جواب لو يقتضي استدراكا مطردا في المعنى بأن يثبت نقيض الجواب ، فقد يستغنى عن ذكره وقد يذكر ، كقول
أبي بن سلمى بن ربيعة :
فلو طار ذو حافر قبلها لطارت ولكنه لم يطر
فتقديره هنا : لو شاء الله ما تلوته لكنني تلوته عليكم . وتلاوته هي دليل الرسالة لأن تلاوته تتضمن إعجازه علميا إذ جاء به من لم يكن من أهل العلم والحكمة ، وبلاغيا إذ جاء كلاما أعجز أهل اللغة كلهم مع تضافرهم في بلاغتهم وتفاوت مراتبهم ، وليس من شأن أحد من الخلق أن يكون فائقا على جميعهم ولا من شأن كلامه أن لا يستطيع مثله أحد منهم .
ولذلك فرعت على الاستدلال جملة
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=16فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون تذكيرا لهم بقديم حاله المعروفة بينهم وهي حال الأمية ، أي قد كنت بين ظهرانيكم مدة طويلة ، وهي أربعون سنة ، تشاهدون أطوار نشأتي فلا ترون فيها حالة تشبه حالة العظمة والكمال المتناهي الذي صار إليه لما أوحى الله إليه بالرسالة ، ولا بلاغة قول واشتهارا بمقاولة أهل البلاغة والخطابة والشعر تشبه بلاغة القول الذي نطق به عن وحي القرآن ، إذ لو كانت حالته بعد الوحي حالا معتادا وكانت بلاغة الكلام الذي
[ ص: 121 ] جاء به كذلك لكان له من المقدمات من حين نشأته ما هو تهيئة لهذه الغاية وكان التخلق بذلك أطوارا وتدرجا . فلا جرم دل عدم تشابه الحالين على أن هذا الحال الأخير حال رباني محض ، وأن هذا الكلام موحى إليه من عند الله ليس له بذاته عمل فيه .
فما كان هذا الكلام دليلا على المشركين وإبطالا لادعائهم إلا لما بني على تلاوة القرآن فكان ذكر القرآن في الاستدلال هو مناطه ، ثم لما فرع عليه جملة
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=16فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون إذ كان تذكيرا لهم بحاله قبل أن يتلو عليهم القرآن ولولا ذانك الأمران لعاد الاستدلال مصادرة ، أي استدلالا بعين الدعوى لأنهم ينهض لهم أن يقولوا حينئذ : ما أرسلك الله إلينا وقد شاء أن لا يرسلك إلينا ولكنك تقولت على الله ما لم يقله .
فهذا بيان انتظام هذا الدليل من هذه الآية .
وقد آل الدليل بهذا الوجه إلى الاستدلال عليهم بمعجزة القرآن والأمية . ولكلمة
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=16تلوته هنا من الوقع ما ليس لغيرها لأنها تتضمن تاليا كلاما ، ومتلوا ، وباعثا بذلك المتلو .
فبالأول تشير إلى معجزة المقدرة على تلاوة الكتاب مع تحقق الأمية لأن أسلوب الكتب الدينية غير الأسلوب الذي عرفه العرب من شعرائهم وخطبائهم .
وبالثاني تشير إلى القرآن الذي هو معجزة دالة على صدق الآتي به لما فيه من الحقائق والإرشاد الديني الذي هو من شأن أنبياء الأديان وعلمائها ، كما قال - تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=48وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=49بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون . وبالثالث تشير إلى أنه كلام من عند الله تعالى ، فانتظمت بهذا الاستدلال دلالة صدق النبيء - صلى الله عليه وسلم - في رسالته عن الله تعالى .
والتلاوة : قراءة المكتوب أو استعراض المحفوظ ، فهي مشعرة بإبلاغ كلام من غير المبلغ . وقد تقدمت عند قوله - تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=102واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان في سورة البقرة ، وعند قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=2وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا في سورة الأنفال .
[ ص: 122 ] و
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=16أدراكم عرفكم . وفعل الدراية إذا تعلق بذات يتعدى إليها بنفسه تارة وبالباء أيضا ، يقال : دريته ودريت به . وقد جاء في هذه الآية على الاستعمال الثاني وهو الأكثر في حكاية
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه .
قرأ الجمهور
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=16ولا أدراكم به بحرف النفي عطفا على
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=16ما تلوته عليكم أي لو شاء الله ما أمرني بتلاوة القرآن عليكم ولا أعلمكم الله به . وقرأه
البزي عن
ابن كثير في إحدى روايتين عنه بلام ابتداء في موضع لا النافية ، أي بدون ألف بعد اللام فتكون عطفا على جواب لو فتكون اللام لاما زائدة للتوكيد كشأنها في جواب لو . والمعنى عليه : لو شاء الله ما تلوته عليكم ولو شاء لجعلكم تدرون معانيه فلا تكذبوا .
وتفريع جملة
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=16فقد لبثت فيكم تفريع دليل الجملة الشرطية وملازمتها لطرفيها .
والعمر : الحياة . اشتق من العمران لأن مدة الحياة يعمر بها الحي العالم الدنيوي . ويطلق العمر على المدة الطويلة التي لو عاش المرء مقدارها لكان قد أخذ حظه من البقاء . وهذا هو المراد هنا بدليل تنكير عمرا وليس المراد لبثت مدة عمري ; لأن عمره لم ينته بل المراد مدة قدرها قدر عمر متعارف ، أي بقدر مدة عمر أحد من الناس . والمعنى لبثت فيكم أربعين سنة قبل نزول القرآن .
وانتصب عمرا على النيابة عن ظرف الزمان ; لأنه أريد به مقدار من الزمان .
واللبث : الإقامة في المكان مدة . وتقدم في قوله - تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=259قال كم لبثت في سورة البقرة .
والظرفية في قوله : فيكم على معنى في جماعتكم ، أي بينكم .
و قبل وبعد إذا أضيفا للذوات كان المراد بعض أحوال الذات مما يدل عليه المقام ، أي من قبل نزوله . وضمير قبله عائد إلى القرآن .
وتفريع جملة
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=16أفلا تعقلون على جملة الشرط وما تفرع عليها تفريع للإنكار والتعجب على نهوض الدليل عليهم ، إذ قد ظهر من حالهم ما يجعلهم كمن لا يعقل .
[ ص: 123 ] ولذلك اختير لفظ تعقلون لأن العقل هو أول درجات الإدراك . ومفعول تعقلون إما محذوف لدلالة الكلام السابق عليه . والتقدير أفلا تعقلون أن مثل هذا الحال من الجمع بين الأمية والإتيان بهذا الكتاب البديع في بلاغته ومعانيه لا يكون إلا حال من أفاض الله عليه رسالته إذ لا يتأتى مثله في العادة لأحد ولا يتأتى ما يقاربه إلا بعد مدارسة العلماء ومطالعة الكتب السالفة ومناظرة العلماء ومحاورة أهل البلاغة من الخطباء والشعراء زمنا طويلا وعمرا مديدا ، فكيف تأتى ما هو أعظم من ذلك المعتاد دفعة لمن قضى عمره بينهم في بلاده يرقبون أحواله صباح مساء ، وما عرف بلدهم بمزاولة العلوم ولا كان فيهم من أهل الكتاب إلا من عكف على العبادة وانقطع عن معاشرة الناس .
وإما أن ينزل تعقلون منزلة اللازم فلا يقدر له مفعول ، أي أفلا تكونون عاقلين ، أي فتعرفوا أن مثل هذا الحال لا يكون إلا من وحي الله .
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=16nindex.php?page=treesubj&link=28981_32238_31064قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ
هَذَا جَوَابٌ عَنْ لَازِمِ اقْتِرَاحِهِمْ وَكِنَايَتِهِ عَنْ رَمْيِهِمُ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْكَذِبِ عَنِ اللَّهِ فِيمَا ادَّعَى مِنْ إِرْسَالِهِ وَإِنْزَالِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْجَوَابِ قَبْلَهُ . وَلِكَوْنِهِ جَوَابًا مُسْتَقِلًّا عَنْ مَعْنًى قَصَدُوهُ مِنْ كَلَامِهِمْ جَاءَ الْأَمْرُ بِهِ مَفْصُولًا عَنِ الْأَوَّلِ غَيْرَ مَعْطُوفٍ عَلَيْهِ تَنْبِيهًا عَلَى اسْتِقْلَالِهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِتَكْمِلَةٍ لِلْجَوَابِ الْأَوَّلِ .
[ ص: 120 ] وَفِي هَذَا الْجَوَابِ اسْتِدْلَالٌ عَلَى أَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَأَنَّهُ لَمْ يَخْتَلِقِ الْقُرْآنَ مِنْ عِنْدِهِ بِدَلِيلٍ الْتَفَّتْ فِي مَطَاوِيهِ أَدِلَّةٌ ، وَقَدْ نُظِّمَ فِيهِ الدَّلِيلُ بِانْتِفَاءِ نَقِيضِ الْمَطْلُوبِ عَلَى إِثْبَاتِ الْمَطْلُوبِ إِذْ قَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=16لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ تَقْدِيرُهُ لَوْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ لَا أَتْلُوهُ عَلَيْكُمْ مَا تَلَوْتُهُ ، فَإِنَّ فِعْلَ الْمَشِيئَةِ يَكْثُرُ حَذْفُ مَفْعُولِهِ فِي جُمْلَةِ الشَّرْطِ لِدَلَالَةِ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا بُنِيَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى عَدَمِ مَشِيئَةِ اللَّهِ نَفْيَ تِلَاوَتِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ مُدَّعَى الْكُفَّارِ لِزَعْمِهِمْ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، فَكَانَ الِاسْتِدْلَالُ إِبْطَالًا لِدَعْوَاهُمُ ابْتِدَاءً وَإِثْبَاتًا لِدَعْوَاهُ مَآلًا . وَهَذَا الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ مِنْ بَدِيعِ الِاسْتِدْلَالِ ، أَيْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ لَا آتِيَكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ لَمَا أَرْسَلَنِي بِهِ وَلَبَقِيتُ عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي كُنْتُ عَلَيْهَا مِنْ أَوَّلِ عُمْرِي .
وَالدَّلِيلُ الثَّانِي مَطْوِيٌّ هُوَ مُقْتَضَى جَوَابِ لَوْ ، فَإِنَّ جَوَابَ لَوْ يَقْتَضِي اسْتِدْرَاكًا مُطَّرِدًا فِي الْمَعْنَى بِأَنْ يُثْبِتَ نَقِيضَ الْجَوَابِ ، فَقَدْ يُسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِهِ وَقَدْ يُذْكَرُ ، كَقَوْلِ
أُبَيِّ بْنِ سُلْمَى بْنِ رَبِيعَةَ :
فَلَوْ طَارَ ذُو حَافِرٍ قَبْلَهَا لَطَارَتْ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَطِرْ
فَتَقْدِيرُهُ هُنَا : لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ لَكِنَّنِي تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ . وَتِلَاوَتُهُ هِيَ دَلِيلُ الرِّسَالَةِ لِأَنَّ تِلَاوَتَهُ تَتَضَمَّنُ إِعْجَازَهُ عِلْمِيًّا إِذْ جَاءَ بِهِ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ ، وَبَلَاغِيًّا إِذْ جَاءَ كَلَامًا أَعْجَزَ أَهْلَ اللُّغَةِ كُلَّهُمْ مَعَ تَضَافُرِهِمْ فِي بَلَاغَتِهِمْ وَتَفَاوُتِ مَرَاتِبِهِمْ ، وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِ أَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ أَنْ يَكُونَ فَائِقًا عَلَى جَمِيعِهِمْ وَلَا مِنْ شَأْنِ كَلَامِهِ أَنْ لَا يَسْتَطِيعَ مِثْلَهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ .
وَلِذَلِكَ فُرِّعَتْ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ جُمْلَةُ
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=16فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ تَذْكِيرًا لَهُمْ بِقَدِيمِ حَالِهِ الْمَعْرُوفَةِ بَيْنَهُمْ وَهِيَ حَالُ الْأُمِّيَّةِ ، أَيْ قَدْ كُنْتُ بَيْنَ ظَهْرَانَيْكُمْ مُدَّةً طَوِيلَةً ، وَهِيَ أَرْبَعُونَ سَنَةً ، تُشَاهِدُونَ أَطْوَارَ نَشْأَتِي فَلَا تَرَوْنَ فِيهَا حَالَةً تُشْبِهُ حَالَةَ الْعَظَمَةِ وَالْكَمَالِ الْمُتَنَاهِي الَّذِي صَارَ إِلَيْهِ لَمَّا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ بِالرِّسَالَةِ ، وَلَا بَلَاغَةَ قَوْلٍ وَاشْتِهَارًا بِمُقَاوَلَةِ أَهْلِ الْبَلَاغَةِ وَالْخَطَابَةِ وَالشِّعْرِ تُشْبِهُ بَلَاغَةَ الْقَوْلِ الَّذِي نَطَقَ بِهِ عَنْ وَحْيِ الْقُرْآنِ ، إِذْ لَوْ كَانَتْ حَالَتُهُ بَعْدَ الْوَحْيِ حَالًا مُعْتَادًا وَكَانَتْ بَلَاغَةُ الْكَلَامِ الَّذِي
[ ص: 121 ] جَاءَ بِهِ كَذَلِكَ لَكَانَ لَهُ مِنَ الْمُقَدِّمَاتِ مِنْ حِينِ نَشْأَتِهِ مَا هُوَ تَهْيِئَةٌ لِهَذِهِ الْغَايَةِ وَكَانَ التَّخَلُّقُ بِذَلِكَ أَطْوَارًا وَتَدَرُّجًا . فَلَا جَرَمَ دَلَّ عَدَمُ تَشَابُهِ الْحَالَيْنِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَالَ الْأَخِيرَ حَالٌ رَبَّانِيٌّ مَحْضٌ ، وَأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مُوحًى إِلَيْهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَيْسَ لَهُ بِذَاتِهِ عَمَلٌ فِيهِ .
فَمَا كَانَ هَذَا الْكَلَامُ دَلِيلًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَإِبْطَالًا لِادِّعَائِهِمْ إِلَّا لِمَا بُنِيَ عَلَى تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ فَكَانَ ذِكْرُ الْقُرْآنِ فِي الِاسْتِدْلَالِ هُوَ مَنَاطُهُ ، ثُمَّ لَمَّا فَرَّعَ عَلَيْهِ جُمْلَةَ
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=16فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ إِذْ كَانَ تَذْكِيرًا لَهُمْ بِحَالِهِ قَبْلَ أَنْ يَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ وَلَوْلَا ذَانِكَ الْأَمْرَانِ لَعَادَ الِاسْتِدْلَالُ مُصَادَرَةً ، أَيِ اسْتِدْلَالًا بِعَيْنِ الدَّعْوَى لِأَنَّهُمْ يَنْهَضُ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا حِينَئِذٍ : مَا أَرْسَلَكَ اللَّهُ إِلَيْنَا وَقَدْ شَاءَ أَنْ لَا يُرْسِلَكَ إِلَيْنَا وَلَكِنَّكَ تَقَوَّلْتَ عَلَى اللَّهِ مَا لَمْ يَقُلْهُ .
فَهَذَا بَيَانُ انْتِظَامِ هَذَا الدَّلِيلِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ .
وَقَدْ آلَ الدَّلِيلُ بِهَذَا الْوَجْهِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِمْ بِمُعْجِزَةِ الْقُرْآنِ وَالْأُمِّيَّةِ . وَلِكَلِمَةِ
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=16تَلَوْتُهُ هُنَا مِنَ الْوَقْعِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهَا لِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ تَالِيًا كَلَامًا ، وَمَتْلُوًّا ، وَبَاعِثًا بِذَلِكَ الْمَتْلُوِّ .
فَبِالْأَوَّلِ تُشِيرُ إِلَى مُعْجِزَةِ الْمَقْدِرَةِ عَلَى تِلَاوَةِ الْكِتَابِ مَعَ تَحَقُّقِ الْأُمِّيَّةِ لِأَنَّ أُسْلُوبَ الْكُتُبِ الدِّينِيَّةِ غَيْرُ الْأُسْلُوبِ الَّذِي عَرَفَهُ الْعَرَبُ مِنْ شُعَرَائِهِمْ وَخُطَبَائِهِمْ .
وَبِالثَّانِي تُشِيرُ إِلَى الْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ مُعْجِزَةٌ دَالَّةٌ عَلَى صِدْقِ الْآتِي بِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْحَقَائِقِ وَالْإِرْشَادِ الدِّينِيِّ الَّذِي هُوَ مِنْ شَأْنِ أَنْبِيَاءِ الْأَدْيَانِ وَعُلَمَائِهَا ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=48وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=49بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ . وَبِالثَّالِثِ تُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ كَلَامٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى ، فَانْتَظَمَتْ بِهَذَا الِاسْتِدْلَالِ دَلَالَةُ صِدْقِ النَّبِيءِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي رِسَالَتِهِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى .
وَالتِّلَاوَةُ : قِرَاءَةُ الْمَكْتُوبِ أَوِ اسْتِعْرَاضُ الْمَحْفُوظِ ، فَهِيَ مُشْعِرَةٌ بِإِبْلَاغِ كَلَامٍ مِنْ غَيْرِ الْمُبَلِّغِ . وَقَدْ تَقَدَّمَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ - تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=102وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، وَعِنْدَ قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=2وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ .
[ ص: 122 ] وَ
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=16أَدْرَاكُمْ عَرَّفَكُمْ . وَفِعْلُ الدِّرَايَةِ إِذَا تَعَلَّقَ بِذَاتٍ يَتَعَدَّى إِلَيْهَا بِنَفْسِهِ تَارَةً وَبِالْبَاءِ أَيْضًا ، يُقَالُ : دَرَيْتُهُ وَدَرَيْتُ بِهِ . وَقَدْ جَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الِاسْتِعْمَالِ الثَّانِي وَهُوَ الْأَكْثَرُ فِي حِكَايَةِ
nindex.php?page=showalam&ids=16076سِيبَوَيْهِ .
قَرَأَ الْجُمْهُورُ
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=16وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ بِحَرْفِ النَّفْيِ عَطْفًا عَلَى
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=16مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ أَيْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَمَرَنِي بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ عَلَيْكُمْ وَلَا أَعْلَمَكُمُ اللَّهُ بِهِ . وَقَرَأَهُ
الْبَزِّيُّ عَنِ
ابْنِ كَثِيرٍ فِي إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ عَنْهُ بِلَامِ ابْتِدَاءٍ فِي مَوْضِعِ لَا النَّافِيَةِ ، أَيْ بِدُونِ أَلِفٍ بَعْدَ اللَّامِ فَتَكُونُ عَطْفًا عَلَى جَوَابِ لَوْ فَتَكُونُ اللَّامُ لَامًا زَائِدَةً لِلتَّوْكِيدِ كَشَأْنِهَا فِي جَوَابِ لَوْ . وَالْمَعْنَى عَلَيْهِ : لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَكُمْ تَدْرُونَ مَعَانِيَهُ فَلَا تَكْذِبُوا .
وَتَفْرِيعُ جُمْلَةِ
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=16فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ تَفْرِيعُ دَلِيلِ الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ وَمُلَازَمَتِهَا لِطَرَفَيْهَا .
وَالْعُمُرُ : الْحَيَاةُ . اشْتُقَّ مِنَ الْعُمْرَانِ لِأَنَّ مُدَّةَ الْحَيَاةِ يُعَمِّرُ بِهَا الْحَيُّ الْعَالَمَ الدُّنْيَوِيَّ . وَيُطْلَقُ الْعُمُرُ عَلَى الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ الَّتِي لَوْ عَاشَ الْمَرْءُ مِقْدَارَهَا لَكَانَ قَدْ أَخَذَ حَظَّهُ مِنَ الْبَقَاءِ . وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ هُنَا بِدَلِيلِ تَنْكِيرِ عُمُرًا وَلَيْسَ الْمُرَادُ لَبِثْتُ مُدَّةَ عُمْرِي ; لِأَنَّ عُمْرَهُ لَمْ يَنْتَهِ بَلِ الْمُرَادُ مُدَّةٌ قَدْرُهَا قَدْرُ عُمُرٍ مُتَعَارَفٍ ، أَيْ بِقَدْرِ مُدَّةِ عُمُرِ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ . وَالْمَعْنَى لَبِثْتُ فِيكُمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ .
وَانْتَصَبَ عُمُرًا عَلَى النِّيَابَةِ عَنْ ظَرْفِ الزَّمَانِ ; لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ مِقْدَارٌ مِنَ الزَّمَانِ .
وَاللُّبْثُ : الْإِقَامَةُ فِي الْمَكَانِ مُدَّةً . وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=259قَالَ كَمْ لَبِثْتَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ .
وَالظَّرْفِيَّةُ فِي قَوْلِهِ : فِيكُمْ عَلَى مَعْنَى فِي جَمَاعَتِكُمْ ، أَيْ بَيْنَكُمْ .
وَ قَبْلُ وَبَعْدُ إِذَا أُضِيفَا لِلذَّوَاتِ كَانَ الْمُرَادُ بَعْضَ أَحْوَالِ الذَّاتِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ ، أَيْ مِنْ قَبْلِ نُزُولِهِ . وَضَمِيرُ قَبْلِهِ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ .
وَتَفْرِيعُ جُمْلَةِ
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=16أَفَلَا تَعْقِلُونَ عَلَى جُمْلَةِ الشَّرْطِ وَمَا تَفَرَّعَ عَلَيْهَا تَفْرِيعٌ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّعَجُّبِ عَلَى نُهُوضِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِمْ ، إِذْ قَدْ ظَهَرَ مِنْ حَالِهِمْ مَا يَجْعَلُهُمْ كَمَنْ لَا يَعْقِلُ .
[ ص: 123 ] وَلِذَلِكَ اخْتِيرَ لَفْظُ تَعْقِلُونَ لِأَنَّ الْعَقْلَ هُوَ أَوَّلُ دَرَجَاتِ الْإِدْرَاكِ . وَمَفْعُولُ تَعْقِلُونَ إِمَّا مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ السَّابِقِ عَلَيْهِ . وَالتَّقْدِيرُ أَفَلَا تَعْقِلُونَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْحَالِ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُمِّيَّةِ وَالْإِتْيَانِ بِهَذَا الْكِتَابِ الْبَدِيعِ فِي بَلَاغَتِهِ وَمَعَانِيهِ لَا يَكُونُ إِلَّا حَالَ مَنْ أَفَاضَ اللَّهُ عَلَيْهِ رِسَالَتَهُ إِذْ لَا يَتَأَتَّى مِثْلُهُ فِي الْعَادَةِ لِأَحَدٍ وَلَا يَتَأَتَّى مَا يُقَارِبُهُ إِلَّا بَعْدَ مُدَارَسَةِ الْعُلَمَاءِ وَمُطَالَعَةِ الْكُتُبِ السَّالِفَةِ وَمُنَاظَرَةِ الْعُلَمَاءِ وَمُحَاوَرَةِ أَهْلِ الْبَلَاغَةِ مِنَ الْخُطَبَاءِ وَالشُّعَرَاءِ زَمَنًا طَوِيلًا وَعُمْرًا مَدِيدًا ، فَكَيْفَ تَأَتَّى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ الْمُعْتَادِ دَفْعَةً لِمَنْ قَضَى عُمْرَهُ بَيْنَهُمْ فِي بِلَادِهِ يَرْقُبُونَ أَحْوَالَهُ صَبَاحَ مَسَاءَ ، وَمَا عُرِفَ بَلَدُهُمْ بِمُزَاوَلَةِ الْعُلُومِ وَلَا كَانَ فِيهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا مَنْ عَكَفَ عَلَى الْعِبَادَةِ وَانْقَطَعَ عَنْ مُعَاشَرَةِ النَّاسِ .
وَإِمَّا أَنْ يُنَزَّلَ تَعْقِلُونَ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ فَلَا يُقَدَّرُ لَهُ مَفْعُولٌ ، أَيْ أَفَلَا تَكُونُونَ عَاقِلِينَ ، أَيْ فَتَعْرِفُوا أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْحَالِ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ وَحْيِ اللَّهِ .