الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألني ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " وقيل يا أرض ابلعي ماءك " وقف قوم على ظاهر الآية ، وقالوا : إنما ابتلعت ما نبع منها ، ولم تبتلع ماء السماء ، فصار ذلك بحارا وأنهارا ، وهو معنى قول ابن عباس . وذهب آخرون إلى أن المراد : ابلعي ماءك الذي عليك ، وهو ما نبع من الأرض ونزل من السماء ، وذلك بعد أن غرق ما على وجه الأرض .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " ويا سماء أقلعي " أي : أمسكي عن إنزال الماء . قال ابن الأنباري : لما تقدم ذكر الماء ، علم أن المعنى : أقلعي عن إنزال الماء .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " وغيض الماء " أي : نقص . قال الزجاج : يقال غاض الماء يغيض : إذا غاب في الأرض . ويجوز إشمام الضم في الغين .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " وقضي الأمر " قال ابن عباس : غرق من غرق ، ونجا من نجا . وقال مجاهد : قضي الأمر : هلاك قوم نوح . وقال ابن قتيبة : " وقضي [ ص: 112 ] الأمر " أي : فرغ منه . قال ابن الأنباري : والمعنى : أحكمت هلكة قوم نوح ، فلما دلت القصة على ما يبين هلكتهم ، أغنى عن نعت الأمر .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " واستوت " يعني السفينة " على الجودي " وهو اسم جبل . وقرأ الأعمش ، وابن أبي عبلة : " على الجودي " بسكون الياء . قال ابن الأنباري : وتشديد الياء في " الجودي " لأنها ياء النسبة ، فهي كالياء في علوي ، وهاشمي . وقد خففها بعض القراء ، ومن العرب من يخفف ياء النسبة ، فيسكنها في الرفع ، والخفض ، ويفتحها في النصب ، فيقول : قام زيد العلوي ، ورأيت زيدا العلوي .

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن عباس : دارت السفينة بالبيت أربعين يوما ، ثم وجهها الله إلى الجودي فاستقرت عليه .

                                                                                                                                                                                                                                      واختلفوا أين هذا الجبل على ثلاثة أقوال :

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها : أنه بالموصل ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال الضحاك .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : بالجزيرة ، قاله مجاهد ، وقتادة . وقال مقاتل : هو بالجزيرة قريب من الموصل .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث : أنه بناحية آمد ، قاله الزجاج .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي علة استوائها عليه قولان :

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما : أنه لم يغرق ، لأن الجبال تشامخت يومئذ وتطاولت ، وتواضع هو فلم يغرق ، فأرست عليه ، قاله مجاهد .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : أنه لما قل الماء أرست عليه ، فكان استواؤها عليه دلالة على قلة الماء .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " وقيل بعدا للقوم الظالمين " قال ابن عباس : بعدا من رحمة الله للقوم الكافرين .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 113 ] فإن قيل : ما ذنب من أغرق من البهائم والأطفال ؟

                                                                                                                                                                                                                                      فالجواب : أن آجالهم حضرت ، فأميتوا بالغرق ، قاله الضحاك ، وابن جريج .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " رب إن ابني من أهلي " إنما قال نوح هذا ، لأن الله تعالى وعده نجاة أهله ، فقال : " وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين " قال ابن عباس : أعدل العادلين . وقال ابن زيد : فأنت أحكم الحاكمين بالحق .

                                                                                                                                                                                                                                      واختلفوا في هذا الذي سأل فيه نوح على قولين :

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما : أنه ابن نوح لصلبه ، قاله ابن عباس ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، والضحاك ، والجمهور .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : أنه ولد على فراشه لغير رشدة ولم يكن ابنه . روى ابن الأنباري بإسناده عن الحسن أنه قال : لم يكن ابنه ، إن امرأته فجرت . وعن الشعبي قال : لم يكن ابنه ، إن امرأته خانته ، وعن مجاهد نحو ذلك . وقال ابن جريج : ناداه نوح وهو يحسب أنه ابنه ، وكان ولد على فراشه . فعلى القول الأول ، يكون في معنى قوله : " إنه ليس من أهلك " قولان :

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما : ليس من أهل دينك .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : ليس من أهلك الذين وعدتك نجاتهم . قال ابن عباس : ما بغت امرأة نبي قط ، وإنما المعنى : ليس من أهلك الذين وعدتك نجاتهم . وعلى القول [ ص: 114 ] الآخر : الكلام على ظاهره ، والأول أصح ، لموافقته ظاهر القرآن ، ولاجتماع الأكثرين عليه ، وهو أولى من رمي زوجة نبي بفاحشة .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " إنه عمل غير صالح " قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة : " إنه عمل " رفع منون " غير صالح " برفع الراء ، وفيه قولان :

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما : أنه يرجع إلى السؤال فيه ، فالمعنى : سؤلك إياي فيه عمل غير صالح ، قاله ابن عباس ، وقتادة ، وهذا ظاهر ، لأنه قد تقدم السؤال فيه في قوله : " رب إن ابني من أهلي " فرجعت الكناية إليه .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : أنه يرجع إلى المسؤول فيه .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي هذا المعنى قولان : أحدهما : أنه لغير رشدة ، قاله الحسن . والثاني : أن المعنى : إنه ذو عمل غير صالح ، قاله الزجاج . قال ابن الأنباري : من قال : هو لغير رشدة ، قال : المعنى : إن أصل ابنك الذي تظن أنه ابنك عمل غير صالح . ومن قال : إنه ذو عمل غير صالح ، قال : حذف المضاف ، وأقام العمل مقامه ، كما تقول العرب : عبد الله إقبال وإدبار ، أي : صاحب إقبال وإدبار . وقرأ الكسائي : " عمل " بكسر الميم وفتح اللام " غير صالح " بفتح الراء ، يشير إلى أنه مشرك .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " فلا تسألني ما ليس لك به علم " قرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر : " فلا تسألن " بفتح اللام ، وتشديد النون ، غير أن نافعا ، وابن عامر ، كسرا النون ، وفتحها ابن كثير ، وحذفوا الياء في الوصل والوقف . وقرأ عاصم ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي ، بسكون اللام وتخفيف النون ، غير أن أبا عمرو ، [ ص: 115 ] وأبا جعفر ، أثبتا الياء في الوصل ، وحذفاها في الوقف ، ووقف عليها يعقوب بالياء ، والباقون يحذفونها في الحالين . قال أبو علي : من كسر النون ، فقد عدى السؤال إلى مفعولين ، أحدهما : اسم المتكلم ، والآخر : الاسم الموصول ، وحذفت النون المتصلة بياء المتكلم لاجتماع النونات . وأما إثبات الياء في الوصل فهو الأصل ، وحذفها أخف ، والكسرة تدل عليها ، وتعلم أن المفعول مراد في المعنى .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم في معنى الكلام ثلاثة أقوال :

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها : أنه نسبته إليه ، وليس منه .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : في إدخاله إياه في جملة أهله الذين وعده نجاتهم .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث : سؤاله في إنجاء كافر من العذاب .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " إني أعظك أن تكون من الجاهلين " فيه ثلاثة أقوال :

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها : أن تكون من الجاهلين في سؤالك من ليس من حزبك .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : من الجاهلين بوعدي ، لأني وعدت بإنجاء المؤمنين .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث : من الجاهلين بنسبك ، لأنه ليس من أهلك .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية