الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون

انتقال من مقارعة المشركين بالحجج الساطعة على بطلان دينهم ، وبالدلائل الواضحة على تفنيد أكاذيبهم وتكذيبهم وما تخلل ذلك من الموعظة والوعيد بالعذاب العاجل والآجل والإرهاب ، إلى التعريض لهم بذكر ما حل بالأمم المماثلة أحوالها لأحوالهم ، استقصاء لطرائق الحجاج على أصحاب اللجاج ; فإن نوحا - عليه السلام - مع قومه مثل لحال محمد - صلى الله عليه وسلم - - مع المشركين من قومه في ابتداء الأمر وتطوره ، ففي ذكر عاقبة قوم نوح - عليه السلام - تعريض للمشركين بأن عاقبتهم كعاقبة أولئك أو أنهم إنما يمتعون قليلا ثم يؤخذون أخذة رابية ، [ ص: 235 ] كما متع قوم نوح زمنا طويلا ثم لم يفلتوا من العذاب في الدنيا ، فذكر قصة نوح مع قومه عظة للمشركين وملقيا بالوجل والذعر في قلوبهم ، وفي ذلك تأنيس للرسول - صلى الله عليه وسلم - وللمسلمين بأنهم أسوة بالأنبياء ، والصالحين من أقوامهم ، وكذلك قصة موسى - عليه السلام - عقبها كما ينبئ عن ذلك قوله في نهاية هذه القصص " أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين " الآيات . وقوله : " فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك " الآيات .

وبهذا يظهر حسن موقع " إذ " من قوله : إذ قال لقومه يا قوم إلى آخره ، فإن تقييد النبأ بزمن قوله : لقومه إيماء إلى أن محاورته قومه وإصرارهم على الإعراض هو محل العبرة ; لأنه وجه الشبه بين المشركين وبين قوم نوح - عليه السلام - في صم آذانهم عن دعوة رسولهم ، وقوله ذلك لهم إنما كان بعد أن كرر دعاءهم زمنا طويلا فكان ذلك آخر جدل بينه وبينهم ، والنبيء - صلى الله عليه وسلم - قد دعا أهل مكة سنين وقت نزول هذه السورة ثم حاورهم وجادلهم ولأن ذلك الزمن هو أعظم موقف وقفه نوح - عليه السلام - مع قومه ، وكان هو الموقف الفاصل الذي أعقبه العذاب بالغرق .

و " إذ " اسم للزمن الماضي ، وهو هنا بدل اشتمال من " نبأ " أو من نوح . وفي ذكر قصة نوح - عليه السلام - وما بعدها تفصيل لما تقدم إجماله من قوله - تعالى : ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات

وضمير " عليهم " عائد إلى الذين يفترون على الله الكذب

والتلاوة : القراءة . وتقدمت في سورة الأنفال .

والنبأ : الخبر . وتقدم في قوله : " ولقد جاءك من نبأ المرسلين " في سورة الأنعام .

[ ص: 236 ] والتعريف بنوح - عليه السلام - وتاريخه مضى في أول آل عمران .

وتعريف قوم نوح بطريق الإضافة إلى ضمير نوح في قوله : " إذ قال لقومه إذ ليس ثمة طريق لتعريفهم غير ذلك إذ لم يكن لتلك الأمة اسم تعرف به ، فإنهم كانوا أمة واحدة في الأرض فلم يحصل داع إلى تسميتهم باسم جد أو أرض إذ لم يكن ما يدعو إلى تمييزهم إذ ليس ثمة غيرهم ، ألا ترى إلى حكاية الله عن هود في قوله لقومه واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح ، ولما حكى عن صالح إذ قال لقومه واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد

وظرف " إذ " وما أضيف إليه في موضع الحال من " نبأ " نوح

وافتتاح خطاب نوح قومه بـ " يا قوم " إيذان بأهمية ما سيلقيه إليهم ; لأن النداء طلب الإقبال . ولما كان هنا ليس لطلب إقبال قومه إليه لأنه ما ابتدأ خطابهم إلا في مجمعهم تعين أن النداء مستعمل مجازا في طلب الإقبال المجازي ، وهو توجيه أذهانهم إلى فهم ما سيقوله .

واختيار التعبير عنهم بوصف كونهم قومه تحبيب لهم في نفسه ليأخذوا قوله مأخذ قول الناصح المتطلب الخير لهم ; لأن المرء لا يريد لقومه إلا خيرا . وحذفت ياء المتكلم من المنادى المضاف إليها على الاستعمال المشهور في نداء المضاف إلى ياء المتكلم .

ومعنى إن كان كبر عليكم مقامي شق عليكم وأحرجكم .

والكبر : وفرة حجم الجسم بالنسبة لأمثاله من أجسام نوعه ، ويستعار الكبر لكون وصف من أوصاف الذوات أو المعاني أقوى فيه منه في أمثاله من نوعه ، فقد يكون مدحا كقوله - تعالى : وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين ، ويكون ذما كقوله : كبرت كلمة تخرج من أفواههم ، ويستعار الكبر للمشقة والحرج ، كقوله - تعالى : كبر على المشركين ما تدعوهم إليه وقوله : وإن كان كبر عليك إعراضهم وكذلك هنا .

[ ص: 237 ] والمقام مصدر ميمي مرادف للقيام . وقد استعمل هنا في معنى شأن المرء وحاله كما في قوله - تعالى : ولمن خاف مقام ربه جنتان وقوله : قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما أي خير حالة وشأنا . وهو استعمال من قبيل الكناية ; لأن مكان المرء ومقامه من لوازم ذاته ، وفيهما مظاهر أحواله .

وخص بالذكر من أحواله فيهم تذكيره إياهم بآيات الله ; لأن ذلك من أهم شئونه مع قومه ، فعطفه من عطف الخاص على العام . فمعنى كبر عليكم مقامي وتذكيري سئمتم أحوالي معكم وخاصة بتذكيري بآيات الله .

وتجهم الحق على أمثالهم شنشنة المتوغلين في الفساد المأسورين للهوى إذ تقع لديهم الدعوة إلى الإقلاع عنه والتثويب بهم إلى الرشاد موقعا مر المذاق من نفوسهم ، شديد الإيلام لقلوبهم ، لما في منازعة الحق نفوسهم من صولة عليها لا يستطيعون الاستخفاف بها ولا يطاوعهم هواهم على الإذعان إليها ، فيتورطون في حيرة ومنازعة نفسانية تثقل عليهم ، وتشمئز منها نفوسهم ، وتكدر عليهم صفو انسياقهم مع هواهم .

وإضافة التذكير إلى ضميره من إضافة المصدر إلى فاعله .

والباء في " بآيات الله " لتأكيد تعدية المصدر إلى مفعوله الثاني ، والمفعول الأول محذوف ، والتقدير : تذكيري إياكم .

و " آيات الله " مفعول ثان للتذكير . يقال : ذكرته أمرا نسيه ، فتعديته بالباء لتأكيد التعدية كقوله - تعالى : وذكرهم بأيام الله ، وقول مسور بن زيادة الحارثي :


أذكر بالبقيا على من أصابني وبقياي أني جاهد غير مؤتلي



ولذلك قالوا في قوله - تعالى : وامسحوا برءوسكم إن الباء لتأكيد اللصوق أي لصوق الفعل بمفعوله .

[ ص: 238 ] و " آيات الله " : دلائل فضله عليهم ، ودلائل وحدانيته ; لأنهم لما أشركوا بالله فقد نسوا تلك الدلائل ، فكان يذكرهم بها ، وذلك يبرمهم ويحرجهم .

وجملة فعلى الله توكلت جواب شرط إن كان كبر عليكم مقامي باعتبار أن ذلك الشرط تضمن أن إنكاره عليهم قد بلغ من نفوسهم ما لا طاقة لهم بحمله ، وأنهم متهيئون لمدافعته فأنبأهم أن احتمال صدور الدفاع منهم ، وهم في كثرة ومنعة وهو في قلة وضعف ، لا يصده عن استمرار الدعوة ، وأنه وإن كان بينهم وحيدا فذلك يوهنه لأنه متوكل على الله .

ولأجل هذا قدم المجرور على عامله في قوله : فعلى الله توكلت أي لا على غيره .

والتوكل : التعويل على من يدبر أمره . وقد مر عند قوله : فإذا عزمت فتوكل على الله في سورة آل عمران .

والفاء في فأجمعوا أمركم للتفريع على جملة على الله توكلت فللجملة المفرعة حكم جواب الشرط لأنها مفرعة على جملة الجواب ، ألا ترى أنه لولا قصده المبادرة بإعلامهم أنه غير مكترث بمناوأتهم لكان مقتضى ظاهر الكلام أن يقول : إن كان كبر عليكم مقامي إلخ ، فأجمعوا أمركم فإني على الله توكلت ، كما قال هود لقومه فكيدوني جميعا ثم لا تنظروني إني توكلت على الله ربي وربكم

وإجماع الأمر : العزم على الفعل بعد التردد بين فعله وفعل ضده . وهو مأخوذ من الجمع الذي هو ضد التفريق ; لأن المتردد في ماذا يعمله تكون عنده أشياء متفرقة فهو يتدبر ويتأمل فإذا استقر رأيه على شيء منها فقد جمع ما كان متفرقا . فالهمزة فيه للجعل ، أي جعل أمره جمعا بعد أن كان متفرقا .

ويقولون : جاءوا وأمرهم جميع ، أي مجموع غير متفرق بوجوه الاختلاف .

والأمر : هو شأنهم من قصد دفعه وأذاه وترددهم في وجوه ذلك ووسائله .

[ ص: 239 ] و " شركاءكم " منصوب في قراءة الجمهور على أنه مفعول معه . والواو بمعنى " مع " أي أجمعوا أمركم ومعكم شركاؤكم الذين تستنصرون بهم .

وقرأ يعقوب " وشركاؤكم " مرفوعا عطفا على ضمير " فأجمعوا " ، وسوغه الفصل بين الضمير وما عطف عليه بالمفعول . والمعنى : وليجمع شركاؤكم أمرهم .

وصيغة الأمر في قوله : " فأجمعوا " مستعملة في التسوية ، أي إن عزمهم لا يضيره بحيث هو يغريهم بأخذ الأهبة التامة لمقاومته . وزاد ذكر شركائهم للدلالة على أنه لا يخشاها لأنها في اعتقادهم أشد بطشا من القوم ، وذلك تهكم بهم ، كما في قوله - تعالى : قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون

وعطف جملة ثم لا يكن أمركم عليكم غمة بثم الدالة على التراخي في الرتبة لما تتضمنه الجملة الثانية من الترقي في قلة مبالاته بما يهيئونه له من الضر بحيث يتصدى لهم تصدي المشير بما يسهل لهم البلوغ إلى الإضرار به الذي ينوونه وإزالة العوائق الحائلة دون مقصدهم . وجاء بما ظاهره نهي أمرهم عن أن يكون غمة عليهم مبالغة في نهيهم عن التردد في تبين الوصول إلى قصدهم حتى كأن شأنهم هو المنهي عن أن يكون التباسا عليهم ، أي اجتهدوا في أن لا يكون ذلك .

والغمة : اسم مصدر للغم . وهو الستر . والمراد بها في مثل هذا التركيب الستر المجازي ، وهو انبهام الحال ، وعدم تبين السداد فيه ، ولعل هذا التركيب جرى مجرى المثل فقد قال طرفة من قبل :


لعمرك ما أمري علي بغمة     نهاري ولا ليلي علي بسرمد



وإظهار لفظ الأمر في قوله : ثم لا يكن أمركم عليكم غمة مع أنه عين الذي في قوله : فأجمعوا أمركم لكون هذا التركيب مما جرى مجرى المثل فيقتضي أن لا تغير ألفاظه .

[ ص: 240 ] و " ثم " في قوله : ثم اقضوا إلي " للتراخي في الرتبة ، فإن رتبة إنفاذ الرأي بما يزمعون عليه من أذاه أقوى من تدبير ذلك ، ومن رتبة إجماع الرأي عليه فهو ارتقاء من الشيء إلى أعلى منه ، فعطف بـ " ثم " التي تفيد التراخي في الرتبة في عطفها الجمل .

و " اقضوا " أمر من القضاء ، فيجوز أن يكون من القضاء بمعنى الإتمام والفصل ، أي أنفذوا ما ترونه من الإضرار بي .

ويجوز أن يكون من القضاء بمعنى الحكم ، وهو قريب من الوجه الأول ، أي أنفذوا حكمكم .

وعدي بـ " إلى " دون " على " لأنه ضمن معنى الإبلاغ والإيصال تنصيصا على معنى التنفيذ بالفعل ; لأن القضاء يكون بالقول فيعقبه التنفيذ أو الإرجاء أو العفو ، ويكون بالفعل ، فهو قضاء بتنفيذ ، ويسمى عند الفقهاء بالقضاء الفعلي .

وقوله : " ولا تنظرون " تأكيد لمدلول التضمين المشار إليه بحرف " إلى " . والإنظار التأخير ، وحذفت ياء المتكلم من " تنظرون " للتخفيف ، وهو حذف كثير في فصيح الكلام ، وبقاء نون الوقاية مشعر بها .

التالي السابق


الخدمات العلمية