الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                فصل وأما الذين يصفونه بالعلو والسفول فالذين يقولون : هو فوق العرش وهو أيضا في كل مكان والذين يقولون : إذا نزل كل ليلة فإنه [ ص: 107 ] يخلو منه العرش أو غيره من المخلوقات أكبر منه ويقولون : لا يمتنع أن يكون الخالق أصغر من المخلوق كما يقول شيوخهم : إنه لا يمتنع أن يكون الخالق أسفل من المخلوق فهؤلاء لا يصفونه بأنه أكبر من كل شيء بل ولا هو على قولهم الكبير المتعال ولا هو العلي العظيم .

                وقد بسط الرد على هؤلاء في " مسألة النزول " لما ذكر قول أئمة السنة مثل حماد بن زيد وإسحاق بن راهويه وغيرهما : " إنه ينزل ولا يخلو منه العرش " ذكر قول من أنكر ذلك من المتأخرين المنتسبين إلى الحديث والسنة وبين فساد قولهم شرعا وعقلا .

                وهؤلاء في مقابلة الذين ينفون النزول .

                وإذا قيل : حديث النزول ونحوه ظاهره ليس [ يحتمل التأويل ] فهذا صحيح إذا أريد بالظاهر ما يظهر لهؤلاء ونحوهم [ من أنه ينزل إلى أسفل ] فيصير تحت العرش كما ينزل الإنسان من سطح داره إلى أسفل . وعلى قول هؤلاء ولا يبقى حينئذ العلي ولا الأعلى بل يكون تارة أعلى وتارة أسفل - تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا .

                وكذلك ما ورد من نزوله يوم القيامة في ظلل من الغمام ومن نزوله [ ص: 108 ] إلى الأرض لما خلقها ومن نزوله لتكليم موسى وغير ذلك كله من باب واحد كقوله تعالى : { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام } وقوله : { وجاء ربك والملك صفا صفا } وقوله : { هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك } والنفاة المعطلة ينفون المجيء والإتيان بالكلية ويقولون : ما ثم إلا ما يحدث في المخلوقات والحلولية يقولون : إنه يأتي ويجيء بحيث يخلو منه مكان ويشغل آخر فيخلو منه ما فوق العرش ويصير بعض المخلوقات فوقه . فإذا أتى وجاء لم يصر على قولهم العلي الأعلى ولا كان هو العلي العظيم . لا سيما إذا قالوا : إنه يحويه بعض المخلوقات فتكون أكبر منه سبحانه وتعالى عما يقول هؤلاء وهؤلاء علوا عظيما .

                وكذلك قوله : { أأمنتم من في السماء } إن كان قد قال أحد : إنه في جوف السماء فهو شر قولا من هؤلاء ولكن هذا ما علمت به قائلا معينا منسوبا إلى علم حتى أحكيه قولا .

                ومن قال : " إنه في السماء " فمراده أنه في العلو ليس مراده أنه في جوف الأفلاك إلا [ أن بعض ] الجهال يتوهم ذلك . وقد ظن طائفة أن هذا ظاهر اللفظ .

                [ ص: 109 ] ( الظاهر ولا ريب أنه محمول على خلاف هذا بالاتفاق ; لكن هذا هو الذي يظهر لعامة المسلمين الذين يطلقون هذا القول ويسمعونه أو هو مدلول اللفظ في اللغة هو مما لا يسلم لهم كما قد يبسط في مواضع .

                وقد قال تعالى : { قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله } فاستثنى نفسه والعالم " من في السموات والأرض " ولا يجوز أن يقال هذا استثناء منقطع لأن المستثنى مرفوع ولو كان منقطعا لكان منصوبا . والمرفوع على البدل والعامل فيه هو العامل في المبدل منه وهو بمنزلة المفرغ كأنه قال " لا يعلم الغيب إلا الله " . فيلزم أنه داخل في " من في السموات والأرض " .

                وقد قدمنا أن لفظ " السماء " يتناول كل ما سما ويدخل فيه السموات والكرسي والعرش وما فوق ذلك . لأن هذا في جانب النفي وهو لم يقل هنا : " السموات السبع " بل عم بلفظ " السموات " . وإذا كان لفظ " السماء " قد يراد به السحاب ويراد به الفلك ويراد به ما فوق العالم ويراد به العلو مطلقا ف " السموات " جمع " سماء " وكل من فيما يسمى " سماء " وكل من فيما يسمى " أرضا " لا يعلم الغيب إلا الله .

                [ ص: 110 ] وهو سبحانه قال { قل لا يعلم من } ولم يقل " ما " فإنه لما اجتمع ما يعقل وما لا يعقل غلب ما يعقل وعبر عنه بـ " من " لتكون أبلغ فإنهم مع كونهم من أهل العلم والمعرفة لا يعلم أحد منهم الغيب إلا الله .

                وهذا هو الغيب المطلق عن [ جميع المخلوقين ] الذي قال فيه { فلا يظهر على غيبه أحدا } . [ والغيب المقيد ما علمه ] بعض المخلوقات من الملائكة أو الجن أو الإنس وشهدوه فإنما هو غيب عمن غاب عنه ليس هو غيبا عمن شهده . والناس كلهم قد يغيب عن هذا ما يشهده هذا فيكون غيبا مقيدا أي غيبا عمن غاب عنه من المخلوقين لا عمن شهده ليس غيبا مطلقا غاب عن المخلوقين قاطبة . وقوله : { عالم الغيب والشهادة } أي عالم ما غاب عن العباد مطلقا ومعينا وما شهدوه فهو سبحانه يعلم ذلك كله .

                والنفاة للعلو ونحوه من الصفات معترفون بأنه ليس مستندهم خبر الأنبياء لا الكتاب ولا السنة ولا أقوال السلف ولا مستندهم فطرة العقل وضرورته ولكن يقولون : معنا النظر العقلي . وأما أهل السنة المثبتون للعلو فيقولون : إن ذلك ثابت بالكتاب والسنة والإجماع مع فطرة الله التي فطر العباد عليها وضرورة العقل ومع نظر العقل واستدلاله .

                [ ص: 111 ] لكن الذين يقولون بأنه ينزل ولا يبقى فوق العرش وأنه يكون في جوف المخلوقات ونحو هؤلاء قد يقولون إن مستندهم في ذلك السمع وهو ما فهموه من القرآن أو من الأحاديث الصحيحة أو غير الصحيحة أو من أقوال السلف وهم أخطئوا من حيث نظروا اقتصروا على فهمه من نص واحد كفهمهم من حديث النزول ولم يتدبروا ما في الكتاب والسنة مما يصفه بالعلو والعظمة ونحو ذلك مما ينافي أن يكون شيء أعلى منه أو أكبر منه .

                [ ولم ] ويتدبروا أيضا دلالة النص مثل نزوله إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر بأن الليل يختلف فيكون ليل أهل المشرق ونصفه وثلثه الآخر قبل ذلك في المغرب بقريب من يوم . فيلزم على قولهم أنه لا يزال تحت العرش وهو قد أخبر أنه استوى على العرش بعد خلق السموات والأرض . وما ذكروه ينافي استواءه على العرش وأنه ليس فوق العرش كما قد بسط في مواضع .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية