الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        ( قوله : يتيمم لبعده ميلا عن ماء ) أي يتيمم الشخص ، وهذا شروع في بيان شرائطه فمنها أن لا يكون واجدا للماء قدر ما يكفي لطهارته في الصلاة التي تفوت إلى خلف وما هو من أجزائها لقوله تعالى { فلم تجدوا ماء فتيمموا } وغير الكافي كالمعدوم ، وهذا عندنا وقال الشافعي : يلزمه استعمال الموجود والتيمم للباقي ; لأن ما نكرة في النفي فتعم وقياسا على إزالة بعض النجاسة وستر بعض العورة وكالجمع في حالة الاضطرار بين الذكية والميتة قلنا الآية سيقت لبيان الطهارة الحكمية فكأن التقدير فلم تجدوا ماء محللا للصلاة ، فإن وجود الماء النجس لا يمنعه من التيمم إجماعا وباستعمال القليل لم يثبت شيء من الحل يقينا على الكمال ، فإن الحل حكم والعلة غسل الأعضاء كلها وشيء من الحكم لا يثبت ببعض العلة كبعض النصاب في حق الزكاة وكبعض الرقبة في حق الكفارة والقياس على الحقيقية والعورة فاسد ; لأنهما يتجزآن فيفيد إلزامه باستعمال القليل للتقليل ولا يفيد هنا إذ لا يتجزأ هنا بل الحدث قائم ما بقي أدنى لمعة فيبقى مجرد إضاعة مال خصوصا في موضع عزته مع بقاء الحدث كما هو ، وأما الجمع حالة الاضطرار ; فلأن الذكية لما لم تدفع الاضطرار صارت كالعدم كذا ذكر في كثير من الشروح لكن في الخلاصة ولو وجد من الماء قدر ما يغسل به بعض النجاسة الحقيقية أو وجد من الثوب قدر ما يستر بعض العورة لا يلزمه ا هـ .

                                                                                        ولو وجد ماء يكفي للحدث أو إزالة النجاسة المانعة غسل به الثوب منها وتيمم للحدث عند عامة العلماء ، وإن توضأ به وصلى في النجس أجزأه ، وكان مسيئا كذا في الخانية وفي المحيط ولو تيمم أولا ثم غسل النجاسة يعيد التيمم ; لأنه تيمم ، وهو قادر على ما يتوضأ به ا هـ .

                                                                                        وفيه نظر بل الظاهر الحكم بجواز التيمم تقدم على غسل الثوب أو تأخر ; لأنه مستحق الصرف إلى الثوب على ما قالوا والمستحق الصرف إلى جهة معدوم حكما بالنسبة إلى غيرها كما في مسألة اللمعة مع الحدث قبل التيمم له إذا كان الماء كافيا لأحدهما فبدأ بالتيمم للحدث قبل غسلها كما هو رواية الأصل وكالماء المستحق للعطش ونحوه نعم يتمشى ذلك على رواية الزيادات القائلة بأنه لو تيمم قبل غسل اللمعة لا يصح والله سبحانه أعلم .

                                                                                        ولهذا قال في شرح الوقاية ثم إنما ثبتت القدرة إذا لم يكن مصروفا إلى جهة أهم أصاب بدن المتيمم قذر فصلى ولم يمسحه جاز ; لأن المسح لا يزيل النجاسة والمستحب أن يمسح تقليلا للنجاسة . ا هـ .

                                                                                        ثم العدم على نوعين : عدم من حيث الصورة والمعنى وعدم من حيث المعنى لا من حيث الصورة فالأول أن يكون بعيدا عنه قال في البدائع ولم يذكر حد البعد في ظاهر الروايات فعن محمد التقدير بالميل ، فإن تحقق كونه ميلا جاز له التيمم ، وإن تحقق كونه أقل أو ظن أنه ميل أو أقل لا يجوز قال في الهداية : والميل هو المختار في المقدار ; لأنه يلحقه الحرج بدخول المصر والماء معدوم حقيقة والميل في كلام العرب منتهى مد البصر وقيل للأعلام المبنية في طريق مكة أميال ; لأنها بنيت على مقادير منتهى البصر كذا في الصحاح والمغرب والمراد هنا ثلث الفرسخ والفرسخ اثنا عشر ألف خطوة كل خطوة ذراع ونصف بذراع العامة ، وهو أربع وعشرون أصبعا كذا في الينابيع [ ص: 147 ] وعن الكرخي رحمه الله أنه إن كان في موضع يسمع صوت أهل الماء فهو قريب ، وإن كان لا يسمع فهو بعيد ، وبه أخذ أكثر مشايخنا كذا في الخانية ، وعن أبي يوسف إذا كان بحيث لو ذهب إليه وتوضأ تذهب القافلة وتغيب عن بصره فهو بعيد ويجوز له التيمم واستحسن المشايخ هذه الرواية كذا في التجنيس وغيره إلا أن ظاهره أنه في حق المسافر لا المقيم ، وهو جائز لهما ، ولو في المصر ; لأن الشرط هو العدم فأينما تحقق جاز التيمم نص عليه في الأسرار لكن قال في شرح الطحاوي لا يجوز التيمم في المصر إلا لخوف فوت جنازة أو صلاة عيد أو للجنب الخائف من البرد وكذا ذكر التمرتاشي بناء على كونه نادرا والحق الأول لما ذكرنا والمنع بناء على عادة الأمصار فليس خلافا حقيقيا وتصحيحالزيلعي لا يفسده وفي الخانية قليل السفر وكثيره سواء في التيمم والصلاة على الدابة خارج المصر إنما الفرق بين القليل والكثير في ثلاثة في قصر الصلاة والإفطار والمسح على الخفين ا هـ

                                                                                        وفي المحيط المسافر يطأ جاريته ، وإن علم أنه لا يجد الماء ; لأن التراب شرع طهورا حالة عدم الماء ولا تكره الجنابة حال وجود الماء فكذا حال عدمه ا هـ .

                                                                                        وبما قررناه علم أن المعتبر المسافة دون خوف فوت الوقت خلافا لزفر وفي المبتغى بالغين المعجمة ومن كان في كلة جاز تيممه لخوف البق أو مطر وحر شديد إن خاف فوت الوقت ا هـ .

                                                                                        ولا يخفى أن هذا مناسب لقول زفر لا لقول أئمتنا ، فإنهم لا يعتبرون خوف الفوت ، وإنما العبرة للبعد كما قدمناه كذا في شرح منية المصلي لكن ظفرت بأن التيمم لخوف فوت الوقت رواية عن مشايخنا ذكرها في القنية في مسائل من ابتلي ببليتين ويتفرع على هذا الاختلاف ما لو ازدحم جمع على بئر لا يمكن الاستقاء منها إلا بالمناوبة لضيق الموقف أو لاتحاد الآلة للاستقاء ونحو ذلك ، فإن كان يتوقع وصول النوبة إليه قبل خروج الوقت لم يجز له التيمم بالاتفاق

                                                                                        وإن علم أنها لا تصير إليه إلا بعد خروج الوقت يصبر عندنا ليتوضأ بعد الوقت ، وعند زفر يتيمم ولو كان جمع من العراة وليس معهم إلا ثوب يتناوبونه وعلم أن النوبة لا تصل إليه إلا بعد الوقت ، فإنه يصبر ولا يصلي عاريا ولو اجتمعوا في سفينة أو بيت ضيق وليس هناك موضع يسع أن يصلي قائما فقط لا يصلي قاعدا بل تصبر ويصلي قائما بعد الوقت كما لو كان مريضا عاجزا عن القيام واستعمال الماء في الوقت ويغلب على ظنه القدرة بعده وكذا لو كان معه ثوب نجس ومعه ماء يغسله ولكن لو غسله خرج الوقت لزم غسله ، وإن خرج الوقت كذا في التوشيح وأما العدم معنى لا صورة فهو أن يعجز عن استعمال الماء لمانع مع قرب الماء منه وسيأتي بيانه مفصلا .

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        ( قوله : كما في مسألة اللمعة ) أي لو اغتسل الجنب وفرغ ماؤه ثم علم أنه بقيت منه لمعة من جسده لم يصبها الماء ، فإنه يتيمم لها ; لأنه لم يخرج عن الجنابة ولو أحدث قبل أن يتيمم لها ، فإنه يتيمم تيمما واحدا لها للحدث ، وإذا أحدث بعد التيمم ثم وجد ماء يكفي لكل واحد منهما على الانفراد غسل به اللمعة ; لأن الجنابة أغلظ ثم يتيمم للحدث ولو بدأ بالتيمم ثم غسلها في رواية لا يجوز ويعيد التيمم وفي رواية له أن يبدأ بأيهما شاء قيل الأولى قول محمد والثانية قول أبي يوسف وفي المسألة تفاصيل بينها في السراج وقد ذكر في السراج مسألة النجاسة بعد هذه وقال لو بدأ بالتيمم أولا ثم غسل النجاسة أعاد التيمم إجماعا بخلاف المسألة الأولى أي مسألة اللمعة على قول أبي يوسف ; لأنه تيمم هنا ، وهو قادر على ماء لو توضأ به جاز وهناك أي في مسألة اللمعة لو توضأ بذلك الماء لم يجز ; لأنه عاد جنبا برؤية الماء ا هـ .

                                                                                        وبه يندفع النظر فتدبر ( قوله : والفرسخ اثنا عشر ألف خطوة إلخ ) قال الرملي هذا مخالف لما في الزيلعي والجوهرة أن قدر الميل أربعة آلاف ذراع والذي هنا ستة آلاف ذراع ورأيت في القلادة الجوهرية ما صورته قال صاحبنا أبو العباس أحمد شهاب الدين بن الهائم رحمه الله وإليه يرجع في هذا الباب البريد أربعة فراسخ والفرسخ ثلاثة أميال والميل ألف [ ص: 147 ] باع والباع أربعة أذرع والذراع أربعة وعشرون أصبعا والأصبع ست شعيرات مرصوصة بالعرض والشعير ست شعرات بشعر البرذون ا هـ كلامه ، وهو موافق لما في الزيلعي .

                                                                                        قد نظم ذلك بعضهم فقال

                                                                                        إن البريد من الفراسخ أربع ولفرسخ فثلاث أميال ضعوا والميل ألف أي من الباعات قل
                                                                                        والباع أربع أذرع تتتبع ثم الذراع من الأصابع أربع
                                                                                        من بعدها العشرون ثم الأصبع ست شعيرات فظهر شعيرة
                                                                                        منها إلى بطن لأخرى توضع ثم الشعيرة ست شعرات فقل
                                                                                        من شعر بغل ليس فيها مدفع

                                                                                        أقول : فتحصل من هذا كله أن ما نقله الزيلعي هو المعول فتأمل ا هـ .

                                                                                        كلام الرملي ملخصا وفي الشرنبلالية قال بعد نقله ما ذكره الزيلعي عن البرهان عن ابن شجاع قلت يمكن أن يقال لا خلاف لحمل كلام ابن شجاع على أن مراده بالذراع ما فيه أصبع قائمة عند كل قبضة فيبلغ ذراعا ونصفا بذراع العامة ويؤيده ما قاله الزيلعي مقتصرا عليه ، وهو أي الميل ثلث الفرسخ أربعة آلاف ذراع بذراع محمد بن فرج بن الشاشي طولها أربعة وعشرون أصبعا وعرض كل أصبع ست حبات شعير ملصقة ظهر البطن ا هـ .

                                                                                        قلت : لكن ما ادعاه من تأييد عبارة الزيلعي لما قاله من التوفيق غير ظاهر بعد تحديده الذراع وكذا ما مر عن ابن الهائم تأمل ( قوله : ومن كان في كلة ) قال في القاموس هي الستر الرقيق وغشاء رقيق يتوقى به من البعوض .




                                                                                        الخدمات العلمية