الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            غزوة بدر

            في السابع عشر من رمضان في السنة الثانية من الهجرة وقعت غزوة بدر الكبرى يوم الفرقان الذي التقى فيه الجمعان ففرق الله فيه بين الحق والباطل، وذلك أن أبا سفيان بن حرب كان قد خرج بعير لقريش فيها جل أموالهم إلى الشام، فخرج إليها النبي صلى الله عليه وسلم وقد ندب إليها أصحابه فقال صلى الله عليه وسلم: هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها

            وكان أبو سفيان يتحسس الخبر فعلم بخروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى العير فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري نذيرا لقريش يستنفرهم ليستنقذوا أموالهم.

            وكانت عاتكة بنت عبد المطلب قد رأت في منامها نذيرا صرخ في قريش أن انفروا يا آل غدر إلى مصارعكم في ثلاث، وقد حدثت بها أخاها العباس بن عبد المطلب وكتمتها إياها إلا أنه حدث بها وفشى الحديث في قريش وقد سخروا منها فلما مرت ثلاث أيام جاء ضمضم بن عمرو بمصداق رؤيا عاتكة، ففزعت قريش إلى التجهيز للخروج لاستنقاذ العير.

            فتجهزت قريش في ثلاثة أيام، وكانت بين رجلين: خارج بنفسه، أو باعث أحدا مكانه ، وخرج معهم العباس بن عبد المطلب مكرها.

            ولما أتمت قريش جهازها وهموا بالخروج ومعهم القيان والدفوف ذكروا ما كان بينهم وبين بني بكر بن عبد مناة بن كنانة من دماء، فتبدى إبليس لهم في صورة سراقة بن مالك الكناني، فقال لهم: إني جار لكم من أن تأتيكم كنانة بشيء تكرهونه، فخرجت قريش حينئذ بطرا ورياء في ألف مقاتل يصدون عن سبيل الله تعالى.

            وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن استعرض أصحابه ورد من استصغر سنهم مثل عبد الله بن عمر وأسامة بن زيد وغيرهما، في قرابة ثلاثمائة مقاتل، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم على الصلاة بالناس ورد أبا لبابة من الروحاء واستعمله على المدينة، ودفع لواء المهاجرين إلى مصعب بن عمير، ولواء الخزرج مع الحباب بن المنذر، ولواء الأوس مع سعد بن معاذ، وكانت للنبي صلى الله عليه وسلم رايتان سوداوان إحداهما مع علي رضي الله عنه، وكان مع المسلمين فرسان فقط.

            وبينما النبي صلى الله عليه وسلم في طريقه علم بأن قريشا قد خرجت للقائه فاستشار أصحابه فقام المقداد فقال وأحسن، وقام أبو بكر وعمر فقالا وأحسنا، وظل النبي صلى الله عليه وسلم يطلب أن يشير عليه أصحابه ففطن سعد بن معاذ من الأنصار بأنهم المقصودون بالمشورة فقام فقال وأحسن فكان مما قال: فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد ... إلى آخر ما قال رضي الله عنه فسر النبي صلى الله عليه وسلم لقوله وبشرهم بأن الله تعالى وعده إحدى الطائفتين.

            ولما علم أبو سفيان بخروج النبي صلى الله عليه وسلم خالف الطريق ونجا بالعير وأرسل إلى قريش بأن العير قد نجت فقام الأخنس بن شريق وخطب في بني زهرة بالرجوع فرجعوا معه واغتبطوا بعد ذلك برأيه.

            وتقدمت قريش وتقدم المسلمون وغلب المسلمون على الماء فنزلوا عند أدنى ماء من المشركين، وأنزل الله عليهم المطر يطهرهم به ويذهب عنهم رجس الشيطان ووبالا على المشركين وكان الذي أشار بذلك على النبي صلى الله عليه وسلم الحباب بن الجموح.

            وكانت قريش أرسلت عمير بن وهب الجمحي ليحذروا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ويعرف ما هم عليه فأقبل عليهم ثم رجع إلى قريش فكان مما قال: يا معشر قريش ما وجدت شيئا، إلا أني وجدت البلايا تحمل المنايا نواضح يثرب تحمل الموت الناقع، قوم ليس معهم منعة ملجأ إلا سيوفهم والله ما أرى يقتل رجل منهم حتى يقتل رجلا منكم فإذا أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك.

            وهنا دب شيء من الخلاف بين قريش ومشى حكيم بن حزام وعتبة بن ربيعة وأرادوا أن يعودوا بالقوم إلا أن أبا جهل أصر على اللقاء، وقد كان فخرج الأسود بن عبد الأسد المخزومي وأقسم أن يشرب من ماء بدر أو يموت دونه فقام إليه حمزة فقتله، وبدأت المناوشات فقتل حمزة شيبة بن ربيعة وقتل علي الوليد بن عتبة واختلف عبيدة بن الحارث، وعتبة بن ربيعة ضربتين فقطعت رجل عبيدة فحمل حمزة وعلي على عتبة فقتلاه واحتملا عبيدة.

            وقد وضع النبي صلى الله عليه وسلم خطة واضحة للحرب فقال لأصحابه: لا تقاتلوا حتى أوذنكم، وإن كثبوكم فارموهم بالنبل، ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم واستبقوا نبلكم

            وظل النبي صلى الله عليه وسلم يناشد ربه ما وعده من النصر ويقول: اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد وقد نزل جبريل عليه السلام بالنصر من الله تعالى.

            وقام النبي صلى الله عليه وسلم محرضا المؤمنين على القتال وقد ظهرت معادن الرجال وضربت أورع الأمثال في الفداء وكان من هؤلاء عمير بن الحمام لما قال النبي صلى الله عليه وسلم قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض ، والذي نفسي بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة فقال -كما في صحيح مسلم وغيره- عمير بن الحمام أخو بني سلمة وفي يده تمرات يأكلهن : بخ بخ يا رسول الله ، عرضها السموات والأرض ؟ ! قال : «نعم» . قال : أفما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء ؟ وفي رواية قال : لئن حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة ، ثم قذف التمرات من يده ، وأخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل.

            ورمى النبي صلى الله عليه وسلم بكف من الحصباء وقال: شاهت الوجوه ، اللهم أرعب قلوبهم ، وزلزل أقدامهم فهزمهم الله تعالى بين فار وقتيل وأسير.

            وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة عن قتل أبي البختري بن هشام، إلا أنه قتل لرفضه ترك صاحب له فقاتل عنه حتى قتل.

            وفي هذه الغزوة قتل النبي صلى الله عليه وسلم أمية بن خلف، وقتل فيها أبو جهل قتله معاذ بن عمرو بن الجموح، ومعاذ بن العفراء وأجهز عليه عبد الله بن مسعود وقد فرح النبي صلى الله عليه وسلم لمقتله.

            وقد طرح من مات من المشركين في قليب بدر إلا أمية بن خلف.

            وقد وقعت في هذه الغزوة آيات منها رد النبي صلى الله عليه وسلم عين قتادة بن النعمان، وانقلاب العرجون في يد عكاشة بن محصن سيفا.

            وقد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة مبشرين إلى المدينة بنصر الله لهم في بدر.

            وقد عاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وفي طريق عودته أمر بقتل النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط.

            وقد وصل الخبر إلى قريش بهزيمتهم وقتل كبرائهم، فعم النواح والبكاء. كما وصل الخبر إلى النجاشي ففرح بنصر الله لنبيه صلى الله عليه وسلم.

            ومما وقع في هذه الغزوة اختلاف الصحابة حول غنائم بدر لمن تكون، فأنزل الله قوله تعالى: يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين [ الأنفال : 1 ].

            كما اختلفوا في شأن الأسارى هل يقتلون أم يفادون حينما شاورهم النبي صلى الله عليه وسلم فكان رأي عمر رضي الله عنه أن يقتلوا وكان رأي أبي بكر رضي الله عنه أن يفادوا عسى أن يسلموا بعد ذلك وقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم برأي أبي بكر وأن القرآن نزل موافقا رأي عمر رضي الله عنه.

            وقد أرسلت قريش في فداء أسراها وكان في الأسرى العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بفداء نفسه وبعض أقاربه كما أرسلت زينب رضي الله عنها في فداء زوجها أبي العاص بن الربيع، كما أعطى العهد أن يرسل زينب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد فعل إلا أنها لاقت في سبيل ذلك مشقة شديدة.

            ولما اشتد الأمر على كفار قريش تعاقد صفوان وعمير بن وهب على قتل النبي صلى الله عليه وسلم وقد أطلع الله نبيه على ما أرادوا فلما قدم عمير وأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بما ينتويه آمنه به وصدقه كما أسلم بعد ذلك أيضا أبي العاص بن الربيع رضي الله عنه زوج زينب رضي الله عنها فردها إليه النبي صلى الله عليه وسلم بنكاحها الأول.

            التالي السابق


            الخدمات العلمية