الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            ذكر ثبات رسول الله صلى الله عليه وسلم

            روى البيهقي عن المقداد بن عمرو رضي الله عنه فذكر حديثا في يوم أحد وقال : فأوجعوا والله قتلا ذريعا ، ونالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما نالوا ، ألا والذي بعثه بالحق إن زال رسول الله صلى الله عليه وسلم شبرا واحدا ، وإنه لفي وجه العدو ويفيء إليه طائفة من أصحابه مرة ، وتفترق مرة عنه ، فربما رأيته قائما يرمي عن قوسه ، ويرمي بالحجر حتى تحاجزوا ، وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في عصابة ثبتت معه . [ ما لقيه الرسول يوم أحد ]

            قال ابن إسحاق : وانكشف المسلمون ، فأصاب فيهم العدو ، وكان يوم بلاء وتمحيص ، أكرم الله فيه من أكرم من المسلمين بالشهادة ، حتى خلص العدو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . فدث بالحجارة حتى وقع لشقه ، فأصيبت رباعيته ، وشج في وجهه ، وكلمت شفته ، وكان الذي أصابه عتبة بن أبي وقاص .

            قال ابن إسحاق : فحدثني حميد الطويل ، عن أنس بن مالك ، قال : كسرت رباعية النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، وشج في وجهه ، فجعل الدم يسيل على وجهه ، وجعل يمسح الدم وهو يقول : كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم ، وهو يدعوهم إلى ربهم فأنزل الله عز وجل في ذلك : ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون .



            قال ابن هشام : وذكر ربيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه ، عن أبي سعيد الخدري : أن عتبة بن أبي وقاص رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ، فكسر رباعيته اليمنى السفلى ، وجرح شفته السفلى ، وأن عبد الله بن شهاب الزهري شجه في جبهته ، وأن ابن قمئة جرح وجنته فدخلت حلقتان من حلق المغفر وجنته ، ووقع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرة من الحفر التي عمل أبو عامر ليقع فيها المسلمون ، وهم لا يعلمون ، فأخذ علي بن أبي طالب بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورفعه طلحة بن عبيد الله حتى استوى قائما ، ومص مالك بن سنان ، أبو أبي سعيد الخدري الدم : عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم ازدرده ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من مس دمي دمه لم تصبه النار .

            قال ابن هشام : وذكر عبد العزيز بن محمد الدراوردي : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من أحب أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله

            . وعن أم المؤمنين عائشة قالت : كان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد بكى ثم قال : ذاك يوم كله لطلحة . ثم أنشأ يحدث . قال : كنت أول من فاء يوم أحد فرأيت رجلا يقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم دونه . وأراه قال : يحميه . قال : فقلت : كن طلحة . حيث فاتني ما فاتني ، فقلت : يكون رجلا من قومي أحب إلي ، وبيني وبين المشرق رجل لا أعرفه ، وأنا أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه ، وهو يخطف المشي خطفا لا أخطفه ، فإذا هو أبو عبيدة بن الجراح فانتهينا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كسرت رباعيته ، وشج في وجهه ، وقد دخل في وجنتيه حلقتان من حلق المغفر . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : عليكما صاحبكما يريد طلحة وقد نزف فلم نلتفت إلى قوله ، قال : وذهبت لأنزع ذاك من وجهه ، فقال أبو عبيدة : أقسمت عليك بحقي لما تركتني فتركته ، فكره أن يتناولها بيده ، فيؤذى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأزم عليهما بفيه ، فاستخرج إحدى الحلقتين ، ووقعت ثنيته مع الحلقة ، وذهبت لأصنع ما صنع ، فقال : أقسمت عليك بحقي لما تركتني . قال : ففعل مثل ما فعل في المرة الأولى ، فوقعت ثنيته الأخرى مع الحلقة ، فكان أبو عبيدة رضي الله عنه ، من أحسن الناس هتما ، فأصلحنا من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم أتينا طلحة في بعض تلك الجفار ، فإذا به بضع وسبعون من بين طعنة ورمية وضربة ، وإذا قد قطعت أصبعه ، فأصلحنا من شأنه وعن أبي حازم أنه سمع سهل بن سعد وهو يسأل عن جرح النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : أما والله إني لأعرف من كان يغسل جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن كان يسكب الماء ، وبما دووي . قال : كانت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تغسله ، وعلي يسكب الماء بالمجن ، فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة من حصير ، فأحرقتها وألصقتها ، فاستمسك الدم ، وكسرت رباعيته يومئذ وجرح وجهه ، وكسرت البيضة على رأسه . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اشتد غضب الله على قوم فعلوا بنبيه - يشير إلى رباعيته - اشتد غضب الله على رجل يقتله رسول الله في سبيل الله . وتفرق عن النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه ، ودخل بعضهم المدينة وانطلق طائفة فوق الجبل إلى الصخرة ، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس : إلي عباد الله ، إلي عباد الله . فاجتمع إليه ثلاثون رجلا ، فجعلوا يسيرون بين يديه ، فلم يقف أحد إلا طلحة ، وسهل بن حنيف فحماه طلحة فرمي بسهم في يده فيبست يده وفشا في الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل ، فقال : بعض أصحاب الصخرة : ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبي فيأخذ لنا أمنة من أبي سفيان ، يا قوم ، إن محمدا قد قتل ، فارجعوا إلى قومكم قبل أن يأتوكم فيقتلوكم . [ أول من عرف الرسول بعد الهزيمة ]

            قال ابن إسحاق : وكان أول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهزيمة ، وقول الناس : قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما ذكر لي ابن شهاب الزهري كعب بن مالك ، قال : عرفت عينيه تزهران من تحت المغفر ، فناديت بأعلى صوتي : يا معشر المسلمين ، أبشروا ، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأشار إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن أنصت .

            قال ابن إسحاق : فلما عرف المسلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم نهضوا به ، ونهض معهم نحو الشعب ، معه أبو بكر الصديق ، وعمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وطلحة بن عبيد الله ، والزبير بن العوام ، رضوان الله عليهم ، والحارث بن الصمة ، ورهط من المسلمين . وروى أبو يعلى بسند حسن ، عن علي رضي الله عنه قال : لما انجلى الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد نظرت في القتلى ، فلم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت : والله ما كان ليفر وما أراه في القتلى ، ولكن أرى الله تعالى غضب علينا بما صنعنا ، فرفع نبيه صلى الله عليه وسلم ، فما لي خير من أن أقاتل حتى أقتل ، فكسرت جفن سيفي ، ثم حملت على القوم فأفرجوا لي ، فإذا أنا برسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم ، أي يقاتلهم صلى الله عليه وسلم . وروى ابن المنذر عن كليب بن شهاب قال : خطبنا عمر فكان يقرأ على المنبر آل عمران ويقول : إنها أحدية فلما انتهى إلى قوله تعالى : إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان [آل عمران 155 ] قال : لما كان يوم أحد هزمنا ونفرت ، حتى صعدت في الجبل ، فلقد رأيتني أنزو كأنني أروي ، فسمعت يهوديا يقول : قتل محمد ، فقلت : لا أسمع أحدا يقول : قتل محمد إلا ضربت عنقه ، فنظرت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس يتراجعون إليه .

            قال ابن إسحاق : وكان أول من أقبل من المسلمين بعد التولية قيس بن محرث ، ويقال : قيس بن الحارث بن عدي بن جشم مع طائفة من الأنصار ، فصادفوا المشركين فدخلوا حومتهم ، فما أفلت منهم رجل حتى قتل ، ولقد ضاربهم قيس حتى قتل نفرا ، فما قتلوه إلا بالرماح ، نظموه ، ووجد به أربع عشرة طعنة ، قد جافته ، وعشر ضربات في بدنه .

            ونادى الحباب بن المنذر : يا آل سلمة ، فأقبلوا عليه عنقا واحدا : لبيك داعي الله .

            وكان عباس بن عبادة بن نضلة - بالنون والضاد المعجمة - وخارجة بن زيد ، وأوس بن أرقم ، يرفعون أصواتهم ، فيقول عباس : يا معشر المسلمين : الله ونبيكم ، هذا الذي أصابكم بمعصية نبيكم ، فوعدكم النصر ما صبرتم ، ثم نزع مغفره وخلع درعه ، وقال لخارجة بن زيد : هل لك فيها ؟ قال : لا ، أنا أريد الذي تريد ، فخالطوا القوم جميعا ، وعباس يقول : ما عذرنا عند ربنا إن أصيب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومنا عين تطرف ؟ فيقول خارجة : لا عذر لنا عند ربنا ولا حجة . فقتل سفيان بن عبد شمس عباسا ، وأخذت خارجة بن زيد الرماح فجرح بضعة عشر جرحا ، وأجهز عليه صفوان بن أمية - وأسلم صفوان بعد ذلك - وقتل أوس بن أرقم رضي الله عنه . [ شعر حسان في عتبة وما أصاب به الرسول ]

            قال ابن إسحاق : وقال حسان بن ثابت لعتبة بن أبي وقاص :


            إذا الله جازى معشرا بفعالهم وضرهم الرحمن رب المشارق     فأخزاك ربي يا عتيب بن مالك
            ولقاك قبل الموت إحدى الصواعق     بسطت يمينا للنبي تعمدا
            فأدميت فاه ، قطعت بالبوارق     فهلا ذكرت الله والمنزل الذي
            تصير إليه عند إحدى البوائق



            قال ابن هشام : تركنا منها بيتين أقذع فيهما .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية