الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            ذكر انهزام المشركين وإرسال الله تعالى عليهم البرد والريح والملائكة تزلزلهم

            قال ابن إسحاق : وبعث الله الريح في ليلة باردة شاتية . فجعلت تكفأ قدورهم ، وتطرح آنيتهم .

            وروى ابن سعد ، عن سعيد بن جبير قال : لما كان يوم الخندق أتى جبريل ومعه الريح ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى جبريل : «ألا أبشروا !»

            ثلاثا ، فأرسل الله تعالى عليهم الريح ، فهتكت القباب ، وكفأت القدور ، ودفنت الرجال ، وقطعت الأوتاد ، فانطلقوا لا يلوي أحد على أحد ، وأنزل الله تعالى : إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها
            [الأحزاب 9] .

            وروى ابن أبي حاتم وأبو نعيم والبزار برجال الصحيح ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لما كانت ليلة الأحزاب جاءت الشمال إلى الجنوب فقالت : انطلقي فانصري الله ورسوله ، فقالت الجنوب : إن الحرة لا تسري بالليل ، فغضب الله تعالى عليها فجعلها عقيما ، وأرسل الصبا ، فأطفأت نيرانهم ، وقطعت أطنابهم ،

            فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «نصرت بالصبا ، وأهلكت عاد بالدبور» .

            وروى الإمام أحمد والشيخان والنسائي عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «نصرت بالصبا ، وأهلكت عاد بالدبور» .

            وروى البيهقي عن مجاهد في قوله تعالى : فأرسلنا عليهم ريحا قال : يعني ريح الصبا ، أرسلت على الأحزاب يوم الخندق ، حتى كفأت قدورهم على أفواهها ، ونزعت فساطيطهم حتى أظعنتهم . وجنودا لم تروها قال : الملائكة . قال : ولم تقاتل يومئذ .

            وروى ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة قال : بعث الله تعالى عليهم الريح والرعب كلما بنوا قطع الله أطنابه ، وكلما ربطوا دابة قطع الله رباطها ، وكلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ، حتى لقد ذكر لنا : أن سيد كل حي يقول : يا بني فلان ، هلم إلي حتى إذا اجتمعوا عنده قال : «النجاة النجاة ، أتيتم» ! لما بعث الله تعالى عليهم من الرعب .

            قال البلاذري : ثم إن الله تعالى نصر المسلمين عليهم بالريح ، وكانت ريحا صفراء فملأت عيونهم ، فداخلهم الفشل والوهن وانهزم المشركون ، وانصرفوا إلى معسكرهم ، ودامت عليهم الريح ، وغشيتهم الملائكة تطمس أبصارهم ، فانصرفوا ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا [الأحزاب 25] .

            قال أبو الخطاب بن دحية : هذه الملائكة بعثها الله تعالى فنفثت في روعهم الرعب والفشل ، وفي قلوب المؤمنين القوة والأمل ، وقيل : إنما بعث الله الملائكة تزجر خيل العدو وإبلهم ، فقطعوا مدة ثلاثة أيام في يوم واحد . فارين منهزمين . ذكر انصراف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخندق بعد رحيل أعدائه وإخباره بأن قريشا لا تغزوه أبدا وأنه هو الذي يغزوهم

            روى الإمام أحمد والبخاري عن سليمان بن صرد والبزار برجال ثقات وأبو نعيم ، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهم ، والبيهقي عن قتادة رحمه الله : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أجلى الله تعالى عنه الأحزاب : «الآن نغزوهم ولا يغزوننا ، نحن نسير إليهم» .

            قال ابن إسحاق : فلم تعد قريش بعد ذلك ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزوهم بعد ذلك حتى فتح مكة .

            وروى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : «لا إله إلا الله وحده ، أعز جنده ، ونصر عبده ، وغلب- وفي لفظ : وهزم- الأحزاب وحده ، فلا شيء بعده» .

            قالوا : وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق ، وليس بحضرته أحد من عساكر المشركين ، قد هربوا وانقشعوا إلى بلادهم ، فأذن للمسلمين في الانصراف إلى منازلهم ، فخرجوا مبادرين مسرورين بذلك ، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعلم بنو قريظة حب رجعتهم إلى منازلهم ، فأمر بردهم ، فبعث من ينادي في إثرهم ، فما رجع منهم رجل واحد .

            روى الطبراني من طريقين رجالهما ثقات ، ومحمد بن عمر ، عن عبد الله بن عمر ، ومحمد بن عمر عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بردهم ، قالا :

            فجعلنا نصيح في إثرهم في كل ناحية : «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن ترجعوا» ، فما رجع منهم رجل واحد ، من القر والجوع . قالا : وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم سرعتهم ، وكره أن يكون لقريش عيون . قال جابر : فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلقيته في بني حرام منصرفا فأخبرته ، فضحك صلى الله عليه وسلم
            .

            وكان المنافقون بناحية المدينة يتحدثون بنبي الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، ويقولون : ما هلكوا بعد ، ولم يعلموا بذهاب الأحزاب ، وسرهم أن جاءهم الأحزاب وهم بادون في الأعراب ، مخافة القتال . ذكر إرسال رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان رضي الله عنه ليكشف له خبرهم

            روى الحاكم وصححه ابن مردويه ، وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل من طرق عن حذيفة ومسلم ، وابن عساكر عن إبراهيم بن يزيد التيمي عن أبيه ، وابن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي ، وأبو نعيم مختصرا عن ابن عمر : أن حذيفة رضي الله عنه ذكر مشاهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال جلساؤه : أما والله لو شهدنا ذلك لكنا فعلنا وفعلنا- وفي لفظ : فقال رجل : لو أدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلت معه وأبليت- فقال حذيفة : لا تتمنوا ذلك ، لقد رأيتنا ليلة الأحزاب ونحن صافون قعود ، وأبو سفيان ومن معه من الأحزاب فوقنا ، وقريظة اليهود أسفل منا نخافهم على ذرارينا ، وما أتت علينا ليلة قط أشد ظلمة ، ولا أشد ريحا منها ، وفي أصوات ريحها أمثال الصواعق ، وهي ظلمة ما يرى أحدنا إصبعه ، فجعل المنافقون يستأذنون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون : إن بيوتنا عورة وما هي بعورة [الأحزاب 13] فما يستأذنه أحد منهم إلا أذن له ، فيتسللون ، ونحن ثلاثمائة أو نحو ذلك ، فاستقبلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا رجلا ،

            يقول : ألا رجل يأتيني بخبر القوم يكون معي يوم القيامة- وفي لفظ : جعله الله رفيق إبراهيم يوم القيامة-

            فلم يجبه منا أحد ، ثم الثانية ، ثم الثالثة مثله . فقال

            أبو بكر : يا رسول الله ابعث حذيفة ، فقلت : دونك والله ، فمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم وما علي جنة من العدو ولا من البرد إلا مرطا لامرأتي ما يجاوز ركبتي ،

            قال : فأتاني وأنا جاث على ركبتي فقال : «من هذا ؟ » فقلت : حذيفة ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «حذيفة» . فقال حذيفة :

            فتقاصرت للأرض ، فقلت : بلى يا رسول الله ، كراهية أن أقوم ، قال : «قم» ، فقمت ، فقال : «إنه كائن في القوم خبر ، فأتني بخبر القوم» . فقلت : والذي بعثك بالحق ، ما قمت إلا حياء منك من البرد . قال : «لا بأس عليك من حر ولا برد حتى ترجع إلي» . قال : «وأنا من أشد الناس فزعا وأشدهم قرا» ، فقلت : والله ما بي أن أقتل ، ولكن أخشى أن أوسر ، فقال : «إنك لن تؤسر» ، قال :

            فخرجت ، فقال : «اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه ، وعن شماله ، ومن فوقه ومن تحته» . قال : فوالله ما خلق الله تعالى في جوفي فزعا ولا قرا إلا خرج ، فما أجد فيه شيئا ، فمضيت كأنما أمشي في حمام ، فلما وليت ، دعاني فقال : «يا حذيفة ، لا تحدثن في القوم شيئا حتى تأتيني» .

            وفي رواية : فقلت : يا رسول الله مرني بما شئت ، فقال صلى الله عليه وسلم : «اذهب حتى تدخل بين ظهري القوم ، فأت قريشا ، فقل : يا معشر قريش ، إنما يريد الناس إذا كان غدا أن يقولوا : أين قريش ؟ أين قادة الناس ؟ أين رؤوس الناس ؟ فيقدموكم ، فتصلوا القتال فيكون القتل فيكم ، ثم ائت بني كنانة فقل : يا معشر بني كنانة ، إنما يريد الناس إذ كان غدا أن يقولوا : أين بني كنانة ؟

            أين رماة الحدق فيقدموكم ، فتصلوا القتال ، فيكون القتل فيكم ، ثم ائت قيسا فقل : يا معشر قيس ، إنما يريد الناس إذا كان غدا أن يقولوا : أين قيس ؟ أين أحلاس الخيل ؟ أين الفرسان ؟

            فيقدموكم ، فتصلوا القتال ، فيكون القتل فيكم» .

            فقال حذيفة : فخرجت حتى إذا دنوت من عسكر القوم نظرت في ضوء نار لهم توقد ، وإذا رجل أدهم ضخم يقول بيده على النار ويمسح خاصرته ، وحوله عصبة ، قد تفرق عنه الأحزاب ، وهو يقول : الرحيل الرحيل ولم أكن أعرف أبا سفيان قبل ذلك فانتزعت سهما من كنانتي أبيض الريش فوضعته في كبد القوس لأرميه في ضوء النار ، فذكرت

            قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا تحدثن في القوم شيئا ، حتى تأتيني»

            فأمسكت ورددت سهمي . فلما جلست فيهم أحس أبو سفيان أن قد دخل فيهم غيرهم ، فقال : ليأخذ كل رجل منكم بيد جليسه ، وفي لفظ : فلينظر من جليسه . فضربت بيدي على يد الذي عن يميني فأخذت بيده ، فقلت : من أنت ؟ قال : معاوية بن أبي سفيان ، ثم ضربت بيدي على يد الذي عن شمالي فقلت : من أنت ؟ قال : عمرو بن العاص ، فعلت ذلك خشية أن يفطن بي فبدرتهم بالمسألة ، ثم تلبثت فيهم هنيهة . وأتيت بني كنانة وقيسا ، وقلت ما أمرني به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم دخلت في العسكر ، فإذا أدنى الناس مني بنو عامر ، ونادى عامر بن علقمة بن علاثة : يا بني عامر ، إن الريح قاتلتي وأنا على ظهر ، وأخذتهم ريح شديدة ، وصاح

            بأصحابه . فلما رأى ذلك أصحابه جعلوا يقولون : يا بني عامر ، الرحيل الرحيل ، لا مقام لكم .

            وإذا الريح في عسكر المشركين ما تجاوز عسكرهم شبرا ، فوالله إني لأسمع صوت الحجارة في رحالهم ، وفرشهم والريح تضرب بها ، فلما دنا الصبح نادوا : أين قريش ؟ أين رؤوس الناس ؟

            فقالوا : أيهات ، هذا الذي أتينا به البارحة . أين كنانة ؟ فقالوا : أيهات ، هذا الذي أتينا به البارحة ، أين قيس ؟ أين أحلاس الخيل ؟ فقالوا : أيهات ، هذا الذي أتينا به البارحة . فلما رأى ذلك أبو سفيان أمرهم بأن تحملوا فتحملوا ، وإن الريح لتغلبهم على بعض أمتعتهم حتى رأيت أبا سفيان وثب على جمل له معقول ، فجعل يستحثه ولا يستطيع أن يقوم ، حتى حل بعد . ثم خرجت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما انتصف بي الطريق أو نحو ذلك إذا أنا بعشرين فارسا أو نحو ذلك معتمين ، قالوا : - وفي لفظ : فارسين ، فقالا- : أخبر صاحبك أن الله تعالى كفاه القوم بالجنود والريح ، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مشتمل في شملة يصلي ، فوالله ما عدا أن رجعت راجعني القر ، وجعلت أقرقف ، فأومأ إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ، [وهو يصلي] فدنوت منه ، فسدل علي من فضل شملته- وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى- فأخبرته خبر القوم ، وأني تركتهم يرحلون .

            فلم أزل نائما حتى جاء الصبح فلما أن أصبحت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

            «قم يا نومان» .

            وذكر ابن سعد أن عمرو بن العاص وخالد بن الوليد أقاما في مائتي فارس ساقة للعسكر ، وردءا لهم مخافة الطلب .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية