الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            وفاة سعد بن معاذ رضي الله عنه

            يروى أن حبان بن العرقة ، لعنه الله ، رماه بسهم فأصاب أكحله ، فحسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم كيا بالنار ، فاستمسك الجرح ، وكان سعد قد دعا الله أن لا يميته حتى يقر عينه من بني قريظة وذلك حين نقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهود والمواثيق والذمام ، ومالوا عليه مع الأحزاب ، فلما ذهب الأحزاب وانقشعوا عن المدينة وباءت بنو قريظة بسواد الوجه والصفقة الخاسرة في الدنيا والآخرة وسار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحاصرهم ، كما تقدم ، فلما ضيق عليهم وأخذهم من كل جانب أنابوا إلى أن ينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحكم فيهم بما أراه الله ، فرد الحكم فيهم إلى رئيس الأوس ، وكانوا حلفاءهم في الجاهلية ، وهو سعد بن معاذ ، فرضوا بذلك ، ويقال : بل نزلوا ابتداء على حكم سعد ؛ لما يرجون من حنوه عليهم وإحسانه وميله إليهم ، ولم يعلموا بأنهم أبغض إليه من أعدادهم من القردة والخنازير ؛ لشدة إيمانه وصديقيته ، رضي الله عنه وأرضاه ، فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان في خيمة في المسجد النبوي ، فجيء به على حمار تحته إكاف قد وطئ تحته لمرضه ، ولما قارب خيمة الرسول صلى الله عليه وسلم أمر عليه السلام من هناك بالقيام له ، قيل : لينزل من شدة مرضه . وقيل : توقيرا له بحضرة المحكوم عليهم ؛ ليكون أبلغ في نفوذ حكمه . والله أعلم . فلما حكم فيهم بالقتل والسبي وأقر الله عينه وشفى صدره منهم وعاد إلى خيمته من المسجد النبوي صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، دعا الله عز وجل أن تكون له شهادة ، واختار الله له ما عنده ، فانفجر جرحه من الليل ، فلم يزل يخرج منه الدم حتى مات رضي الله عنه .

            اهتزاز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ

            قال ابن إسحاق ، فلما انقضى شأن بني قريظة انفجر بسعد بن معاذ جرحه ، فمات منه شهيدا ، حدثني معاذ بن رفاعة الزرقي قال : حدثني من شئت من رجال قومي أن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قبض سعد بن معاذ من جوف الليل ، معتجرا بعمامة من إستبرق ، فقال : يا محمد ، من هذا الميت الذي فتحت له أبواب السماء واهتز له العرش ؟ قال : فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعا يجر ثوبه إلى سعد فوجده قد مات رضي الله عنه .

            وعن جابر بن عبد الله قال : جاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : من هذا العبد الصالح الذي مات ففتحت له أبواب السماء وتحرك له العرش ؟ قال : فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا سعد بن معاذ قال : فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبره وهو يدفن ، فبينما هو جالس إذ قال : " سبحان الله " مرتين . فسبح القوم . ثم قال : " الله أكبر الله أكبر " فكبر القوم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عجبت لهذا العبد الصالح ، شدد عليه في قبره حتى كان هذا حين فرج له .

            وعن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لسعد يوم مات وهو يدفن : " سبحان الله لهذا العبد الصالح الذي تحرك له عرش الرحمن ، وفتحت له أبواب السماء ، شدد عليه ، ثم فرج الله عنه .

            وقال محمد بن إسحاق : وعن جابر بن عبد الله قال : لما دفن سعد ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسبح الناس معه ، ثم كبر فكبر الناس معه ، فقالوا : يا رسول الله ، مم سبحت ؟ قال : " لقد تضايق على هذا العبد الصالح قبره حتى فرجه الله عنه .

            وقال ابن هشام : ومجاز هذا الحديث قول عائشة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن للقبر ضمة ، لو كان أحد منها ناجيا لكان سعد بن معاذ .

            وعن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن للقبر ضغطة ولو كان أحد ناجيا منها لنجا سعد بن معاذ .

            نزول سبعون ألف ملك يشهدوا جنازة سعد بن معاذ

            وعن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد هبط يوم مات سعد بن معاذ سبعون ألف ملك إلى الأرض لم يهبطوا قبل ذلك ولقد ضمه القبر ضمة قال : ثم بكى نافع .

            وعن نافع ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد نزل لموت سعد بن معاذ سبعون ألف ملك ما وطئوا الأرض قبلها وقال حين دفن : سبحان الله لو انفلت أحد من ضغطة القبر لانفلت منها سعد .

            وعن مجاهد ، عن ابن عمر قال : اهتز العرش لحب لقاء الله سعد بن معاذ . قال : فقال : إنما يعني السرير . ورفع أبويه على العرش ( يوسف : 1 ) قال : تفسخت أعواده . قال : ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبره فاحتبس ، فلما خرج قيل له : يا رسول الله ، ما حبسك ؟ قال : " ضم سعد في القبر ضمة ، فدعوت الله فكشف عنه .

            قال البخاري : عن جابر قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " اهتز العرش لموت سعد بن معاذ وعن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله ، فقال رجل لجابر : فإن البراء بن عازب يقول : اهتز السرير . فقال : إنه كان بين هذين الحيين ضغائن ، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ .

            وعن ابن جريج ، أخبرني أبو الزبير ، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وجنازة سعد بن معاذ بين أيديهم : اهتز لها عرش الرحمن .

            وعن الحسن البصري قال : اهتز عرش الرحمن فرحا بروحه .

            وعن أنس قال : لما حملت جنازة سعد قال المنافقون : ما أخف جنازته . وذلك لحكمه في بني قريظة ، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : لا ، ولكن الملائكة كانت تحمله .

            لمناديل سعد في الجنة أفضل أو خير منها

            وقال البخاري : سمعت البراء بن عازب يقول : أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم حلة حرير ، فجعل أصحابه يمسونها ، ويعجبون من لينها ، فقال : " أتعجبون من لين هذه ، لمناديل سعد بن معاذ خير منها أو ألين " ثم قال : رواه قتادة والزهري ، سمعنا أنسا ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .

            وقال أحمد : عن أنس بن مالك ، أن أكيدر دومة أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبة ، وذلك قبل أن ينهى عن الحرير فلبسها ، فعجب الناس منها ، فقال : والذي نفسي بيده ، لمناديل سعد في الجنة أحسن من هذه .

            قال محمد وكان واقد من أحسن الناس وأعظمهم وأطولهم - قال : دخلت على أنس بن مالك فقال لي : من أنت ؟ قلت : أنا واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ . فقال : إنك بسعد لشبيه . ثم بكى وأكثر البكاء ، وقال : رحمة الله على سعد ، كان من أعظم الناس وأطولهم . ثم قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشا إلى أكيدر دومة ، فأرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بجبة من ديباج ، منسوج فيها الذهب ، فلبسها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقام على المنبر أو جلس فلم يتكلم ، ثم نزل فجعل الناس يلمسون الجبة ، وينظرون إليها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أتعجبون منها ، لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن مما ترون " .

            قال ابن إسحاق ، : بعد ذكر اهتزاز العرش لموت سعد بن معاذ وفي ذلك يقول رجل من الأنصار :


            وما اهتز عرش الله من موت هالك سمعنا به إلا لسعد أبي عمرو



            كل البواكي يكذبن إلا أم سعد

            قال : وقالت أمه - يعني كبيشة بنت رافع بن معاوية بن عبيد بن ثعلبة الخدرية الخزرجية - حين احتمل سعد على نعشه تندبه :


            ويل ام سعد سعدا     صرامة وحدا
            وسؤددا ومجدا     وفارسا معدا
            سد به مسدا     يقد هاما قدا

            قال : يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : كل نائحة تكذب إلا نائحة سعد بن معاذ .

            وقت وفاة سعد بن معاذ

            قلت : كانت وفاته بعد انصراف الأحزاب بنحو من خمس وعشرين ليلة ، وكان قدوم الأحزاب في شوال سنة خمس كما تقدم ، فأقاموا قريبا من شهر ، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لحصار بني قريظة فأقام عليهم خمسا وعشرين ليلة ، ثم نزلوا على حكم سعد ، فمات بعد حكمه عليهم بقليل ، فيكون ذلك في أواخر ذي القعدة أو أوائل ذي الحجة من سنة خمس . والله أعلم وهكذا قال محمد بن إسحاق : إن فتح بني قريظة كان في ذي القعدة وصدر ذي الحجة . قال : وولي تلك الحجة المشركون .

            حسان بن ثابت يرثي سعد بن معاذ

            قال ابن إسحاق وقال حسان بن ثابت يرثي سعد بن معاذ رضي الله عنه :


            لقد سجمت من دمع عيني عبرة     وحق لعيني أن تفيض على سعد
            قتيل ثوى في معرك فجعت به     عيون ذواري الدمع دائمة الوجد
            على ملة الرحمن وارث جنة     مع الشهداء وفدها أكرم الوفد
            فإن تك قد ودعتنا وتركتنا     وأمسيت في غبراء مظلمة اللحد
            فأنت الذي يا سعد أبت بمشهد     كريم وأثواب المكارم والحمد
            بحكمك في حيي قريظة بالذي     قضى الله فيهم ما قضيت على عمد
            فوافق حكم الله حكمك فيهم     ولم تعف إذ ذكرت ما كان من عهد
            فإن كان ريب الدهر أمضاك في الألى     شروا هذه الدنيا بجناتها الخلد
            فنعم مصير الصادقين إذا دعوا     إلى الله يوما للوجاهة والقصد

            التالي السابق


            الخدمات العلمية