الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            [ كتاب حاطب إلى قريش وعلم الرسول بأمره ] قال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن جعفر ، عن عروة بن الزبير وغيره من علمائنا قالوا : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أجمع السير إلى مكة ، كتب حاطب بن أبي بلتعة - رضي الله عنه - كتابا إلى قريش يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأمر في المسير إليهم ، ثم أعطاه امرأة ، قال ابن إسحاق ، زعم محمد بن جعفر أنها من مزينة - قال محمد بن عمر : يقال لها كنود ، قال ابن إسحاق : وزعم لي غير ابن جعفر : أنها سارة مولاة لبعض بني المطلب ، وجعل لها جعلا ، قال محمد بن عمر دينارا ، وقيل عشرة دنانير ، على أن تبلغه أهل مكة ، وقال لها : أخفيه ما استطعت ، ولا تمري على الطريق ، فإن عليه حرسا ، فجعلته في رأسها ، ثم فتلت عليه قرونها ، ثم خرجت به ، فسلكت غير نقب عن يسار المحجة في الفلوق حتى لقيت الطريق بالعقيق .

            وذكر السهيلي - رحمه الله - تعالى - إنه قد قيل إنه كان في كتاب حاطب : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد توجه إليكم بجيش كالليل ، يسير كالسيل ، وأقسم بالله لو سار إليكم وحده لنصره الله تعالى عليكم ، فإنه منجز له ما وعده فيكم ، فإن الله - تعالى - ناصره ووليه .

            وفي تفسير ابن سلام أنه كان فيه : أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - قد نفر فإما إليكم ، وإما إلى غيركم ، فعليكم الحذر . انتهى .

            وذكر ابن عقبة أن فيه : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد آذن بالغزو ، ولا أراه إلا يريدكم ، وقد أحببت ، أن يكون لي يد بكتابي إليكم .

            وأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخبر من السماء بما صنع حاطب ، فبعث علي بن أبي طالب ، والزبير بن العوام - زاد أبو رافع : المقداد بن الأسود وفي رواية عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي : أبا مرثد ، بدل المقداد ،

            فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أدرك امرأة قد كتب معها حاطب بكتاب إلى قريش ، يحذرهم ما قد أجمعنا له في أمرهم” ، ولفظ أبي رافع «انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ ، فإن بها ظعينة معها كتاب” فخرجوا - وفي لفظ : فخرجا ، حتى إذا كان بالخليقة ، خليقة بني أحمد

            وقال ابن عقبة : أدركاها ببطن ريم ، فاستنزلاها فالتمساه في رحلها ، فلم يجدا شيئا ، فقال لها علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - : إني أحلف بالله ما كذب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما كذبنا ، ولتخرجن لنا هذا الكتاب أو لنكشفنك ، فلما رأت الجد ، قالت : أعرضا . فحلت قرون رأسها ، فاستخرجت الكتاب منها ، فدفعته إليه فأتي به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا فيه : من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين من أهل مكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعا حاطبا ، فقال : يا حاطب ، ما حملك على هذا ؟ قال : يا رسول الله . إني والله لمؤمن بالله ورسوله ، ما غيرت ، ولا بدلت ، ولكني كنت امرأ ليس لي في القوم من أصل ولا عشيرة ، وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل ، فصانعتهم عليهم .

            ولفظ أبي رافع - فقال : يا رسول الله لا تعجل علي ، إني كنت امرأ ملصقا في قريش ، ولم أكن من أنفسهم ، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابة يحمون أموالهم بها وأهليهم بمكة ، ولم يكن لي قرابة ، فأحببت إذ فاتني ذلك من بينهم أن أتخذ فيهم يدا أحمي بها قرابتي ، وما فعلت ذلك كفرا بعد إسلام . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أنه قد صدقكم” . فقال عمر لحاطب : قاتلك الله!! ترى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأخذ بالأنقاب وتكتب إلى قريش تحذرهم ؟

            دعني يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أضرب عنقه ، فإن الرجل قد نافق ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «ما يدريك يا عمر إن الله عز وجل اطلع إلى أصحاب بدر يوم بدر فقال : «اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم” فاغرورقت عينا عمر ، وقال : الله ورسوله أعلم ، حين سمعه يقول في أهل بدر ما قال .


            وأنزل الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أي كفار مكة أولياء تلقون توصلون إليهم قصد النبي غزوه الذي أسره إليكم - وروي بخبر بالمودة بينكم وبينهم وقد كفروا بما جاءكم من الحق دين الإسلام والقرآن يخرجون الرسول وإياكم من مكة بتضييقهم عليكم لأجل أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهادا للجهاد في سبيلي وابتغاء مرضاتي وجواب الشرط دل عليه ما قبله : أي فلا تتخذوهم أولياء تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم أي إسرار خبر النبي إليهم فقد ضل سواء السبيل أخطأ طريق الهدى ، والسواء في الأصل : الوسط إن يثقفوكم يظفروا بكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم بالقتل والضرب وألسنتهم بالسوء بالسب ، والشتم وودوا تمنوا لو تكفرون . لن تنفعكم أرحامكم قراباتكم ولا أولادكم المشركون ، الذين لأجلهم أسررتم الخبر من العذاب في الآخرة يوم القيامة يفصل بالبناء للمفعول والفاعل بينكم وبينهم فتكونون في الجنة ، وهم في جملة الكفار في النار والله بما تعملون بصير [الممتحنة 1 : 3] .

            وفيها : جواز قتل الجاسوس وإن كان مسلما ؛ لأن عمر - رضي الله عنه - سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتل حاطب بن أبي بلتعة لما بعث يخبر أهل مكة بالخبر ولم يقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا يحل قتله إنه مسلم ، بل قال : " وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر ، فقال : اعملوا ما شئتم " فأجاب بأن فيه مانعا من قتله وهو شهوده بدرا ، وفي الجواب بهذا كالتنبيه على جواز قتل جاسوس ليس له مثل هذا المانع ، وهذا مذهب مالك ، وأحد الوجهين في مذهب أحمد ، وقال الشافعي وأبو حنيفة : لا يقتل ، وهو ظاهر مذهب أحمد ، والفريقان يحتجون بقصة حاطب . والصحيح : أن قتله راجع إلى رأي الإمام ، فإن رأى في قتله مصلحة للمسلمين ، قتله ، وإن كان استبقاؤه أصلح استبقاه . والله أعلم . فصل

            وفيها : جواز تجريد المرأة كلها وتكشيفها للحاجة والمصلحة العامة ، فإن عليا والمقداد قالا للظعينة : لتخرجن الكتاب أو لنكشفنك ، وإذا جاز تجريدها لحاجتها إلى ذلك حيث تدعو إليها ، فتجريدها لمصلحة الإسلام والمسلمين أولى .

            وفيها : أن الرجل إذا نسب المسلم إلى النفاق والكفر متأولا وغضبا لله ورسوله ودينه لا لهواه وحظه ، فإنه لا يكفر بذلك ، بل لا يأثم به ، بل يثاب على نيته وقصده ، وهذا بخلاف أهل الأهواء والبدع ، فإنهم يكفرون ويبدعون لمخالفة أهوائهم ونحلهم ، وهم أولى بذلك ممن كفروه وبدعوه .

            وفيها : أن الكبيرة العظيمة مما دون الشرك قد تكفر بالحسنة الكبيرة الماحية ، كما وقع الجس من حاطب مكفرا بشهوده بدرا ، فإن ما اشتملت عليه هذه الحسنة العظيمة من المصلحة وتضمنته من محبة الله لها ورضاه بها وفرحه بها ومباهاته للملائكة بفاعلها ، أعظم مما اشتملت عليه سيئة الجس من المفسدة وتضمنته من بغض الله لها ، فغلب الأقوى على الأضعف فأزاله وأبطل مقتضاه ، وهذه حكمة الله في الصحة والمرض الناشئين من الحسنات والسيئات ، الموجبين لصحة القلب ومرضه ، وهي نظير حكمته تعالى في الصحة والمرض اللاحقين للبدن ، فإن الأقوى منهما يقهر المغلوب ويصير الحكم له ، حتى يذهب أثر الأضعف ، فهذه حكمته في خلقه وقضائه وتلك حكمته في شرعه وأمره .

            وهذا كما أنه ثابت في محو السيئات بالحسنات لقوله تعالى : ( إن الحسنات يذهبن السيئات ) [ هود : 14 ] ، وقوله تعالى : ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ) [ النساء : 31 ] ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : " وأتبع السيئة الحسنة تمحها " فهو ثابت في عكسه ، لقوله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ) [ البقرة : 264 ] ، وقوله ( ياأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون ) [ الحجرات : 2 ] . وقول عائشة عن زيد بن أرقم أنه لما باع بالعينة : "إنه قد أبطل جهاده مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أن يتوب " ، وكقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه البخاري في " صحيحه " :" من ترك صلاة العصر حبط عمله " إلى غير ذلك من النصوص والآثار الدالة على تدافع الحسنات والسيئات وإبطال بعضها بعضا ، وذهاب أثر القوي منها بما دونه ، وعلى هذا مبنى الموازنة والإحباط .

            وبالجملة فقوة الإحسان ومرض العصيان متصاولان ومتحاربان ، ولهذا المرض مع هذه القوة حالة تزايد وترام إلى الهلاك ، وحالة انحطاط وتناقص ، وهي خير حالات المريض ، وحالة وقوف وتقابل إلى أن يقهر أحدهما الآخر ، وإذا دخل وقت البحران وهو ساعة المناجزة فحظ القلب أحد الخطتين ، إما السلامة ، وإما العطب ، وهذا البحران يكون وقت فعل الواجبات التي توجب رضى الرب تعالى ومغفرته ، أو توجب سخطه وعقوبته ، وفي الدعاء النبوي : " أسألك موجبات رحمتك " وقال عن طلحة يومئذ : " أوجب طلحة " ورفع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل وقالوا : يا رسول الله إنه قد أوجب فقال : "أعتقوا عنه " .

            وفي الحديث الصحيح " أتدرون ما الموجبتان ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : " من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ، ومن مات يشرك بالله شيئا دخل النار " ، يريد أن التوحيد والشرك رأس الموجبات وأصلها ، فهما بمنزلة السم القاتل قطعا ، والترياق المنجي قطعا .

            وكما أن البدن قد تعرض له أسباب رديئة لازمة توهن قوته وتضعفها ، فلا ينتفع معها بالأسباب الصالحة والأغذية النافعة ، بل تحيلها تلك المواد الفاسدة إلى طبعها وقوتها ، فلا يزداد بها إلا مرضا ، وقد تقوم به مواد صالحة وأسباب موافقة توجب قوته وتمكنه من الصحة وأسبابها ، فلا تكاد تضره الأسباب الفاسدة ، بل تحيلها تلك المواد الفاضلة إلى طبعها ، فهكذا مواد صحة القلب وفساده .

            فتأمل قوة إيمان حاطب التي حملته على شهود بدر ، وبذله نفسه مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإيثاره الله ورسوله على قومه وعشيرته وقرابته وهم بين ظهراني العدو وفي بلدهم ، ولم يثن ذلك عنان عزمه ، ولا فل من حد إيمانه ومواجهته للقتال لمن أهله وعشيرته وأقاربه عندهم ، فلما جاء مرض الجس برزت إليه هذه القوة ، وكان البحران صالحا فاندفع المرض ، وقام المريض كأن لم يكن به قلبة ، ولما رأى الطبيب قوة إيمانه قد استعلت على مرض جسه وقهرته ، قال لمن أراد فصده : لا يحتاج هذا العارض إلى فصاد ، "وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر ، فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " وعكس هذا ذو الخويصرة التميمي وأضرابه من الخوارج الذين بلغ اجتهادهم في الصلاة والصيام والقراءة إلى حد يحقر أحد الصحابة عمله معه كيف قال فيهم : " لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد " وقال : " اقتلوهم فإن في قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم " . وقال : " شر قتلى تحت أديم السماء " فلم ينتفعوا بتلك الأعمال العظيمة مع تلك المواد الفاسدة المهلكة واستحالت فاسدة .

            وتأمل في حال إبليس لما كانت المادة المهلكة كامنة في نفسه ، لم ينتفع معها بما سلف من طاعاته ، ورجع إلى شاكلته وما هو أولى به ، وكذلك الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها ، فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ، وأضرابه وأشكاله ، فالمعول على السرائر ، والمقاصد ، والنيات ، والهمم ، فهي الإكسير الذي يقلب نحاس الأعمال ذهبا ، أو يردها خبثا ، وبالله التوفيق .

            ومن له لب وعقل يعلم قدر هذه المسألة وشدة حاجته إليها وانتفاعه بها ، ويطلع منها على باب عظيم من أبواب معرفة الله سبحانه وحكمته في خلقه وأمره وثوابه وعقابه وأحكام الموازنة ، وإيصال اللذة والألم إلى الروح والبدن في المعاش والمعاد ، وتفاوت المراتب في ذلك بأسباب مقتضية بالغة ممن هو قائم على كل نفس بما كسبت . اختلفت الروايات فيمن أرسله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليأتي بكتاب حاطب : ففي

            رواية أبي رافع عن علي قال : بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنا والزبير والمقداد .

            وفي رواية أبي عبد الرحمن السلمي عن علي قال : بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبا مرثد الغنوي ، والزبير بن العوام ، قال الحافظ : فيحتمل أن يكون الثلاثة كانوا معه ، وذكر أحد الراويين عنه ما لم يذكر الآخر ، ثم قال : والذي يظهر ، أنه كان مع كل واحد منهما آخر تبعا له .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية