الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            دخول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البيت وصلاته فيه

            قال ابن هشام : وحدثني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة ومعه بلال ، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وتخلف بلال ، فدخل عبد الله بن عمر على بلال ، فسأله : أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ولم يسأله كم صلى ، فكان ابن عمر إذا دخل البيت مشى قبل وجهه ، وجعل الباب قبل ظهره ، حتى يكون بينه وبين الجدار قدر ثلاث أذرع ، ثم يصلي ، يتوخى بذلك الموضع الذي قال له بلال .

            وعند محمد بن عمر عن شيوخه : فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالكعبة فأغلقت . ولفظ الإمام مالك : فأغلقاها عليه ، وفي رواية ابن عوف : فأجاف عليهم عثمان الباب . زاد حسان بن عطية : من داخل .

            وفي حديث صفية بنت شيبة عند ابن إسحاق ، فوجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في البيت حمامة من عيدان ، فكسرها بيده ، ثم طرحها .

            وعند ابن أبي شيبة عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ، ويحيى بن عبد الرحمن ابن حاطب - رحمهما الله تعالى - قالا : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما دخل الكعبة كبر في زواياها وأرجائها ، وحمد الله تعالى ، ثم صلى ركعتين بين أسطوانتين ، قال يونس : فمكث نهارا طويلا ، ولفظ فليح : زمانا طويلا ، ولفظ جويرية : فأطال ، ولفظ ابن عوف : فمكث فيها مليا ، ولفظ أيوب : فمكث فيها ساعة . وفي رواية ابن أبي مليكة عن نافع : فوجدت شيئا فذهبت ثم جئت سريعا فوجدت النبي - صلى الله عليه وسلم - خارجا ، ولفظ سالم : فلما فتحوا الباب وكنت أول والج ، وفي رواية فليح : فتبادر الناس الدخول فسبقتهم . وفي رواية أيوب : وكنت رجلا شابا قويا فبادرت الناس فبدرتهم ، وفي رواية ابن عوف : فرقيت الدرجة فدخلت البيت ، وفي رواية مجاهد ، وابن أبي مليكة عن ابن عمر : وأجد بلالا قائما بين البابين . وفي رواية سالم : فلقيت بلالا فسألته :

            زاد مالك فقلت : ما صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي رواية سالم . هل صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه ؟ قال : نعم . وفي رواية مجاهد ، وابن أبي مليكة : فقلت هل صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، في الكعبة ؟ قال : نعم ، وفي رواية العلاء بن عبد الرحمن عن ابن عمر : أنه سأل بلالا ، وأسامة وفي رواية أبي الشعثاء عن ابن عمر قال : أخبرني أسامة بن زيد أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى فيه ههنا . وفي رواية خالد بن الحرث عن ابن عوف عن مسلم ، والنسائي عن ابن عمر : فرقيت الدرجة فدخلت البيت ، فقلت أين صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قالوا : ههنا . وفي رواية جويرية .

            ويونس ، وجمهور أصحاب نافع : فسألت بلالا : أين - صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال : بين العمودين اليمانيين - ولفظ جويرية : المقدمين - وفي رواية مالك : جعل عمودا عن يمينه ، وعمودا عن يساره . وفي رواية : عمودا عن يمينه وعمودين عن يساره ، وجعل ثلاثة أعمدة وراءه ، وفي رواية عنه : عمودا عن يساره ، وعمودين عن يمينه . قال البيهقي : وهو الصحيح ، وفي رواية فليح : صلى بين ذينك العمودين المقدمين من السطر وكان البيت على ستة أعمدة سطرين .

            صلى بين العمودين من السطر المقدم ، وجعل باب البيت خلف ظهره ، وعند المكان الذي صلى فيه مرمرة حمراء ، وفي رواية موسى بن عقبة عند البخاري ، ومالك في رواية ابن قاسم عن النسائي عن نافع : أن بين موقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين الجدار نحو ثلاثة أذرع . وفي رواية ابن مهدي عند أبي داود ، وابن وهب عند الدارقطني في الغزوات - كلاهما عن مالك ، وهشام ، وابن سعد عن أبي عوانة عن نافع : صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبينه وبين الجدار ثلاثة أذرع .

            قال الحافظ أبو الفضل العراقي - رحمه الله تعالى - ملخصا من طرق الأحاديث - : أن مصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من البيت أن الداخل من الباب يسير تلقاء وجهه حين يدخل إلى أن يجعل بينه وبين الجدار ثلاثة أذرع أو ذراعين أو ما بينهما لاختلاف الطرق . قال : ولا ينبغي أن يجعل بينه وبين الجدار أقل من ثلاثة أذرع ، فإن كان الواقع أنه ثلاثة أذرع فقد صادف مصلاه ، وإن كان ذراعين فقد وقع وجه المصلي وذراعاه في مكان قدمي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا أولى من المتقدم . قال الحافظ : لا يعارض إثبات أسامة في رواية ابن عمر عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في البيت ما رواه ابن عباس عن أسامة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصل في البيت لإمكان الجمع بينهما ، لأن أسامة حين أثبتها اعتمد في ذلك على غيره ، وحيث نفاها أراد ما في علمه بكونه لم يره - صلى الله عليه وسلم - حين صلى ، وقال الحافظ في موضع آخر : تعارضت الرواية عن أسامة في ذلك فتترجح رواية بلال من جهة أنه مثبت وغيره ناف ، ومن جهة أنه لم يختلف عليه في الإثبات ، واختلف على من نفى .

            وقال الإمام النووي وغيره : يجمع بين إثبات بلال ، ونفي أسامة بأنهم لما دخلوا الكعبة اشتغلوا بالدعاء ، فرأى أسامة النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو ، فاشتغل أسامة بالدعاء في ناحية ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - في ناحية ، ثم صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرآه بلال لقربه منه ولم يره أسامة لبعده منه واشتغاله بالدعاء ، ولأن بإغلاق الباب تكون ظلمة مع احتمال أن يحجبه بعض الأعمدة ، فنفاها عملا بظنه .

            وقال الإمام المحب الطبري : يحتمل أن يكون أسامة غاب عنه بعد دخوله لحاجة فلم يشهد صلاته - انتهى . ويشهد له ما رواه أبو داود الطيالسي في مسنده بإسناد جيد رجاله ثقات عن ابن أبي ذؤيب عن عبد الرحمن بن مهران عن عمير مولى ابن عباس عن أسامة قال :

            «دخلت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الكعبة فرأى صورا ، فدعا بدلو من ماء ، فأتيته به ، فضرب به الصور” ، قال القرطبي فلعله [استصحب النفي] بسرعة عوده انتهى قلت : هو مفرع على أن هذه

            القصة وقعت عام الفتح ، فإن لم يكن فقد روى عمر بن شبة في كتاب مكة من طريق علي بن بذيمة بالموحدة ، وزن عظيمة التابعي ، قال : «دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكعبة . ودخل معه بلال ، وجلس أسامة على الباب ، فلما خرج وجد أسامة قد احتبى ، فأخذ بحبوته فحلها” .

            الحديث فلعله احتبى فاستراح فنعس ، فلم يشاهد صلاته ، فلما سئل عنها نفاها مستصحبا للنفي ، لقصر زمن احتبائه ، وفي كل ذلك إنما نفى رؤيته ، لا ما في نفس الأمر . وبعض العلماء حمل الصلاة المثبتة على اللغوية ، والمنفية على الشرعية ، ويرد هذا الحمل ما تقدم في بعض طرقه الصحيحة : أنه صلى ركعتين ، فظهر أن المراد الشرعية لا مجرد الدعاء . وقال المهلب شارح البخاري : يحتمل أن يكون دخول البيت وقع مرتين . صلى في إحداهما ولم يصل في الأخرى ، وقال ابن حبان : الأشبه عندي في الجمع ، أن يجعل الخبران في وقعتين ، فيقال ، لما دخل الكعبة في الفتح صلى فيها على ما رواه ابن عمر عن بلال ، ويجعل نفي ابن عباس الصلاة في الكعبة في حجته التي حج فيها ، لأن ابن عباس نفاها وأسند ذلك إلى أسامة وأخيه الفضل ، وابن عمر أثبتها ، وأسند ذلك إلى أسامة ، وإلى بلال وأسامة أيضا ، فإذا حمل الخبر على ما وصفنا بطل التعارض . قال الحافظ : وهو جمع حسن لكن تعقبه النووي بأنه لا خلاف أنه - صلى الله عليه وسلم - دخل يوم الفتح لا في حجة الوداع ، ويشهد له ما رواه الأزرقي عن سفيان بن عيينة عن غير واحد من أهل العلم : أنه - صلى الله عليه وسلم - إنما دخل الكعبة مرة واحدة عام الفتح ، ثم حج فلم يدخلها ، وإذا كان الأمر كذلك فلا يمتنع أن يكون دخلها عام الفتح مرتين ويكون المراد بالواحدة التي في خبر ابن عيينة واحدة السفر لا الدخول ، وقد وقع عند الدارقطني من طريق ضعيفة ما يشهد لهذا الجمع . قلت : قال الدارقطني في سننه : واعتمد القاضي عز الدين بن جماعة ذلك . واستدل له أيضا بأن الإمام أحمد قال في مسنده : حدثنا هشيم قال : أخبرنا عبد الملك عن عطاء ، قال : قال أسامة بن زيد : دخلت مع النبي - صلى الله عليه وسلم البيت فجلس فحمد الله تعالى وأثنى عليه وهلله وكبره ، وخرج ولم يصل ، ثم دخلت معه في اليوم الثاني ، فقام ، ودعا ثم صلى ركعتين ، ثم خرج فصلى ركعتين خارج البيت مستقبل وجه الكعبة ، ثم انصرف ، فقال : «هذه القبلة” ورواه أحمد بن منيع . قلت : لم أقف على هذا الحديث في مجمع الزوائد للهيثمي ، ولا في إتحاف المهرة للأبوصيري ، لا في كتاب الصلاة ، ولا في كتاب الحج فالله أعلم . والذي

            في مجمع الزوائد عن ابن عباس قال : دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - الكعبة ، فصلى بين الساريتين ركعتين ، ثم خرج وصلى بين الباب وبين الحجر ركعتين ، ثم قال : «هذه القبلة” ثم دخل مرة أخرى ، فقام يدعو ولم يصل . رواه الطبراني في الكبير ،

            قال الهيثمي : فيه أبو مريم ، روى عن صغار التابعين ، ولم أعرفه ، وبقية رجاله موثقون ، وفي بعضهم كلام .

            وروى الأزرقي عن عبد المجيد بن عبد العزيز عن أبيه قال : بلغني أن الفضل ابن عباس دخل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ - أي يوم الفتح - فقال : لم أره صلى فيها ، قال أبي : وذلك فيما بلغني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استعانه في حاجة فجاء وقد صلى ولم يره .قال عبد المجيد : قال أبي ، وذلك أنه بعثه فجاء بذنوب من ماء زمزم يطمس به الصور التي في الكعبة ، فلذلك لم يره صلى . قلت : وأيضا أنه - صلى الله عليه وسلم - أرسله وأسامة في ذلك - كما تقدم في أسامة - واعتمد الإمام تقي الدين الفاسي في تاريخه من هذه الأجوبة ما رواه أبو داود الطيالسي عن أسامة ، وتعقب ما سواه بكلام نفيس جدا فراجعه فإنك لا تجده في غير كتابه ، وذكره هنا ليس من غرضنا . وقد تقدم أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى في الكعبة ، وأنه جعل عمودين عن يساره وعمودا عن يمينه وثلاثة أعمدة وراءه ، وفي رواية جعل عمودا عن يساره وعمودين عن يمينه وفي أخرى عمودا عن يساره وعمودا عن يمينه وفي رواية بين العمودين اليمانيين ، وفي أخرى بين العمودين تلقاء وجهه ، وبين العمودين المقدمين ، قال المحب الطبري في الأحكام الكبرى : وهذا يؤيد رواية من روى أنه جعل عمودين عن يمينه وعمودا عن يساره لأن الباب قريب من الحجر الأسود ، جانح إلى جهة اليمين ، ويفتح في جهة المشرق فإذا دخل منه وصلى تلقاء وجهه بين العمودين المقدمين اليمانيين والبيت يومئذ على ستة أعمدة فقد جعل عمودين عن يمينه وعمودا عن يساره ، وثلاثة أعمدة وراءه ، وصلى إلى جهة المغرب ، وقوله اليمانيين قد يشكل فإنها ثلاثة صف وجعل اثنين منها يمانيين ليس بأولى من جعلهما شاميين ، والجواب : أنه إنما جعل اثنين منهما يمانيين لأن مقر الثلاثة بصفة يماني وبصفة شامي ، فمن وقف بين المتمحض يمانيا وبين المشترك بين اليمن والشام جاز أن يقال فيه : وقف بين اليمانيين باعتبار ما نسب منه إلى اليمن تجوزا ومن وقف بين المتمحض شاميا وبين المشترك جاز أن يقال فيه : وقف بين الشاميين لما ذكرناه ، أو تقول لما وقف بينهما كان هو إلى جهة اليمن أقرب ، فأطلق عليهما يمانيين اعتبارا به ، والأول أظهر ، ولا تضاد بين هذا وبين قوله عمودا عن يمينه وعمودا عن يساره ، فإن من ضرورة جعل عمودين عن يمينه أن يكون عمودا عن يمينه والآخر مسكوتا عنه ، وليس في اللفظ ما ينفيه ، وقال الحافظ : ليس بين رواية : جعل عمودا عن يمينه وعمودا عن يساره مخالفة ، لكن قوله في رواية مالك : وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة مشكل ، لأنه يشعر بكون ما عن يمينه أو يساره كان اثنين ، ويمكن الجمع بين الروايتين بأنه حيث ثنى أشار إلى ما كان عليه البيت في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وحيث أفرد أشار إلى ما صار إليه بعد ذلك ، ويرشد إلى ذلك .

            قوله : وكان البيت يومئذ ، لأن فيه إشعارا بأنه تغير عن هيئته الأولى . قال الكرماني : لفظ العمود جنس يشمل الواحد والاثنين فهو مجمل بينته رواية «وعمودين” ويحتمل أن يقال : لم تكن الأعمدة الثلاثة على سمت واحد ، بل اثنان على سمت ، والثالث على غير سمتهما ، ولفظ المقدمين في الحديث السابق مشعر به قال الحافظ : ويؤيده رواية مجاهد عن ابن عمر عند البخاري في باب «واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى” ، «فإن فيها بين الساريتين اللتين عن يسار الداخل” وهو صريح في أنه كان هناك عمودان على اليسار ، وأنه صلى بينهما ، فيحتمل أنه كان ثم عمود آخر عن اليمين ، لكنه بعيد أو على غير سمت العمودين فيصح قول من قال :

            جعل عن يمينه عمودين ، وقول من قال : جعل عمودا عن يمينه ، وجوز الكرماني احتمالا آخر ، وهو أن يكون هناك ثلاثة أعمدة مصطفة ، فصلى إلى جنب الأوسط فمن قال : جعل عمودا عن يمينه وعمودا عن يساره لم يعتبر الذي صلى إلى جنبه ، ومن قال : عمودين اعتبره وجمع بعض المتأخرين باحتمال تعدد الواقعة ، وهو بعيد لاتحاد مخرج الحديث ، وقد جزم البيهقي بترجيح رواية أنه جعل عمودين عن يمينه وعمودا عن يساره . وقال المحب الطبري في صفوة القرى إنه الأظهر .

            و: لا خلاف في دخوله - صلى الله عليه وسلم - الكعبة يوم الفتح ، وقيل أنه دخل في ثاني الفتح ، وذكر بعضهم أنه دخلها في عمرة القضية ، والصحيح خلافه ، فقد قال البخاري عن عبد الله بن أبي أوفى - رضي الله عنه - إنه لم يدخلها ، وذكر بعضهم أنه دخلها في عمرة القضية وحجة الوداع ، وسيأتي هناك تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية