الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            عن أنس بن مالك - رضي الله تعالى عنهما - لما استقبلنا وادي حنين انحدرنا في واد أجوف خطوط له مضايق وشعاب ، وإنما ننحدر فيه انحدارا ، وفي عماية الصبح ، وقد كان القوم سبقونا إلى الوادي فمكثوا في شعابه وأجنابه ومضايقه وتهيئوا ، فو الله ما راعنا ونحن منحطون إلا الكتائب قد شدوا علينا شدة رجل واحد ، وكانوا رماة .

            قال أنس - رضي الله عنه - استقبلنا من هوازن شيء ، لا والله ما رأيت مثله في ذلك الزمان قط ، من كثرة السواد ، قد ساقوا نساءهم وأبناءهم وأموالهم ثم صفوا صفوفا ، فجعلوا النساء فوق الإبل وراء صفوف الرجال ، ثم جاءوا بالإبل والبقر والغنم ، فجعلوها وراء ذلك لئلا يفروا بزعمهم فلما رأينا ذلك السواد حسبناه رجالا كلهم ، فلما انحدرنا في الوادي ، فبينا نحن في غبش الصبح إن شعرنا إلا بالكتائب قد خرجت علينا من مضيق الوادي وشعبه ، فحملوا حملة رجل واحد ، فانكشفت أوائل الخيل - خيل بني سليم - مولية وتبعهم أهل مكة وتبعهم الناس منهزمين ما يلوون على شيء وارتفع النقع فما منا أحد يبصر كفه .

            وقال جابر : وانحاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات اليمين ، ثم قال : «أيها الناس هلم إلي أيها الناس ، هلم إلي أنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنا محمد بن عبد الله” .

            قال : فلا شيء وحملت الإبل بعضها على بعض ، فانطلق الناس .


            وذكر كثير من أهل المغازي : أن المسلمين لما نزلوا وادي حنين تقدمهم كثير ممن لا خبرة لهم بالحرب ، وغالبهم من شبان أهل مكة ، فخرجت عليهم الكتائب من كل جهة ، فحملوا حملة رجل واحد والمسلمون غارون ، فر من فر ، وبلغ أقصى هزيمتهم مكة ، ثم كروا بعد .

            عن إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه قال : غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينا ، فلما واجهنا العدو تقدمت فأعلو ثنية فاستقبلني رجل من المشركين فأرميه بسهم ، وتوارى عني ، فما دريت ما صنع ، ثم نظرت إلى القوم فإذا هم قد طلعوا من ثنية أخرى ، فالتقوا هم وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فولى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرجع منهزما ، وعلي بردتان متزرا بإحداهما مرتديا بالأخرى ، قال : فاستطلق إزاري فجمعتها جمعا ومررت على النبي صلى الله عليه وسلم وأنا منهزم ، وهو على بغلته الشهباء ، فقال صلى الله عليه وسلم : " لقد رأى ابن الأكوع فزعا " . فلما غشوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عن البغلة ، ثم قبض قبضة من تراب من الأرض واستقبل به وجوههم ، وقال : " شاهت الوجوه " . فما خلق الله منهم إنسانا إلا ملأ عينيه ترابا من تلك القبضة ، فولوا مدبرين ، فهزمهم الله ، وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائمهم بين المسلمين . . وفي الصحيح عن البراء بن عازب - رضي الله عنهما - قال : عجل سرعان القوم - وفي لفظة : شبان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس عليهم سلاح أو كثير سلاح ، فإنا لما حملنا على المشركين انكشفوا ، فأقبل الناس على الغنائم ، وكانت هوازن رماة فاستقبلتنا بالسهام كأنما رجل جراد ، لا يكاد يسقط لهم سهم انتهى .

            قال : وكان رجل على جمل له أحمر ، بيده راية سوداء على رمح طويل أمام هوازن ، وهوازن خلفه ، إذا أدرك طعن برمحه ، وإن فاته الناس ، رفع رمحه لمن وراءه فاتبعوه . فبينما هو كذلك إذ هوى له علي بن أبي طالب ، ورجل من الأنصار يريدانه ، فأتاه علي بن أبي طالب من خلفه فضرب عرقوبي الجمل ، فوقع على عجزه ، ووثب الأنصاري على الرجل فضربه ضربة أطن قدمه بنصف ساقه ، فانجعف عن رحله ، واجتلد الناس ، فو الله ما رجعت راجعة الناس من هزيمتهم حتى وجدوا الأسرى مكتفين عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم . فائدة جواز عقر فرس العدو ومركوبه إذا كان ذلك عونا على قتله ، كما عقر علي - رضي الله عنه - جمل حامل راية الكفار ، وليس هذا من تعذيب الحيوان المنهي عنه . وعن أبي إسحاق سمع البراء بن عازب - وسأله رجل من قيس : أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين؟ - فقال : لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفر; كانت هوازن رماة ، وإنا لما حملنا عليهم انكشفوا ، فأكببنا على الغنائم ، فاستقبلتنا بالسهام ، ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء ، وإن أبا سفيان آخذ بزمامها ، وهو يقول : " أنا النبي لا كذب " . وروى محمد بن عمر عن أبي قتادة - رضي الله عنه - قال : مضى سرعان الناس من المنهزمين ، حتى دخلوا مكة ، ساروا يوما وليلة - يخبرون أهل مكة بهزيمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعتاب بن أسيد بوزن أمير ، على مكة ومعه معاذ بن جبل ، فجاءهم أمر غمهم ، وسر بذلك قوم من أهل مكة وأظهروا الشماتة ، وقال قائل منهم : ترجع العرب إلى دين آبائها ، وقد قتل محمد وتفرق أصحابه ، فتكلم عتاب بن أسيد يومئذ فقال : إن قتل محمد ، فإن دين الله قائم - والذي يعبده محمد حي لا يموت ، فما أمسوا من ذلك اليوم حتى جاء الخبر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوقع بهوازن ، فسر عتاب بن أسيد ، ومعاذ بن جبل ، وكبت الله - تعالى - من هناك ممن كان يسره خلاف ذلك .

            فرجع المنهزمون إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلحقوه بأوطاس وقد رحل منها إلى الطائف . موقف صفوان بن أمية من خبر هزيمة المسلمين وهو يومئذ مشرك وقال ابن هشام : كلدة بن الحنبل - وأسلم بعد ذلك ، وهو مع أخيه لأمه صفوان بن أمية ، وصفوان مشرك في المدة التي جعل له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إلا بطل السحر اليوم!! فقال له صفوان : اسكت فض الله فاك! والله أن يربني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن . .

            قال ابن هشام : وقال حسان بن ثابت يهجو كلدة :


            رأيت سوادا من بعيد فراعني أبو حنبل ينزو على أم حنبل     كأن الذي ينزو به فوق بطنها
            ذراع قلوص من نتاج ابن عزهل



            أنشدنا أبو زيد هذين البيتين ، وذكر لنا أنه هجا بهما صفوان بن أمية ، وكان أخا كلدة لأمه . وبعث صفوان غلاما له فقال : اسمع لمن الشعار فجاءه فقال : سمعتهم يقولون : يا بني عبد الرحمن يا بني عبيد الله ، يا بني عبد الله ، فقال :

            ظهر محمد وكان ذلك شعارهم في الحرب.

            التالي السابق


            الخدمات العلمية