الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            من الفوائد والنكت الحكمية في غزوة حنين قال ابن القيم رحمه الله تعالى: كان الله عز وجل قد وعد رسوله وهو صادق الوعد ، أنه إذا فتح مكة دخل الناس في دينه أفواجا ، ودانت له العرب بأسرها ، فلما تم له الفتح المبين اقتضت حكمته تعالى أن أمسك قلوب هوازن ومن تبعها عن الإسلام ، وأن يجمعوا ويتألبوا لحرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين ؛ ليظهر أمر الله وتمام إعزازه لرسوله ونصره لدينه ، ولتكون غنائمهم شكرانا لأهل الفتح ، وليظهر الله - سبحانه - رسوله وعباده ، وقهره لهذه الشوكة العظيمة التي لم يلق المسلمون مثلها ، فلا يقاومهم بعد أحد من العرب ، ولغير ذلك من الحكم الباهرة التي تلوح للمتأملين ، وتبدو للمتوسمين .

            واقتضت حكمته سبحانه أن أذاق المسلمين أولا مرارة الهزيمة والكسرة مع كثرة عددهم وعددهم ، وقوة شوكتهم ليطامن رءوسا رفعت بالفتح ، ولم تدخل بلده وحرمه كما دخله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واضعا رأسه منحنيا على فرسه ، حتى إن ذقنه تكاد تمس سرجه تواضعا لربه وخضوعا لعظمته ، واستكانة لعزته ، أن أحل له حرمه وبلده ، ولم يحل لأحد قبله ولا لأحد بعده ، وليبين سبحانه لمن قال : ( لن نغلب اليوم عن قلة ) أن النصر إنما هو من عنده ، وأنه من ينصره فلا غالب له ، ومن يخذله فلا ناصر له غيره ، وأنه سبحانه هو الذي تولى نصر رسوله ودينه ، لا كثرتكم التي أعجبتكم ، فإنها لم تغن عنكم شيئا ، فوليتم مدبرين ، فلما انكسرت قلوبهم أرسلت إليها خلع الجبر مع بريد النصر ( ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها ) وقد اقتضت حكمته أن خلع النصر وجوائزه إنما تفيض على أهل الانكسار ، ( ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون ) [ القصص : 6 ] .

            ومنها : أن الله سبحانه لما منع الجيش غنائم مكة ، فلم يغنموا منها ذهبا ، ولا فضة ولا متاعا ، ولا سبيا ، ولا أرضا ، كما روى أبو داود ، عن وهب بن منبه قال : سألت جابرا : ( هل غنموا يوم الفتح شيئا ؟ قال لا ) وكانوا قد فتحوها بإيجاف الخيل والركاب ، وهم عشرة آلاف ، وفيهم حاجة إلى ما يحتاج إليه الجيش من أسباب القوة ، فحرك سبحانه قلوب المشركين لغزوهم ، وقذف في قلوبهم إخراج أموالهم ونعمهم وشائهم وسبيهم معهم نزلا ، وضيافة وكرامة لحزبه وجنده ، وتمم تقديره سبحانه بأن أطمعهم في الظفر ، وألاح لهم مبادئ النصر ليقضي الله أمرا كان مفعولا ، فلما أنزل الله نصره على رسوله وأوليائه ، وبردت الغنائم لأهلها ، وجرت فيها سهام الله ورسوله ، قيل : لا حاجة لنا في دمائكم ، ولا في نسائكم وذراريكم ، فأوحى الله سبحانه إلى قلوبهم التوبة والإنابة ، فجاءوا مسلمين . فقيل : إن من شكر إسلامكم وإتيانكم أن نرد عليكم نساءكم وأبناءكم وسبيكم و ( إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم ) [ الأنفال : 70 ] .

            ومنها : أن الله سبحانه افتتح غزو العرب بغزوة بدر ، وختم غزوهم بغزوة حنين ، ولهذا يقرن بين هاتين الغزاتين بالذكر ، فيقال : بدر وحنين ، وإن كان بينهما سبع سنين ، والملائكة قاتلت بأنفسها مع المسلمين في هاتين الغزاتين ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - رمى في وجوه المشركين بالحصباء فيهما ، وبهاتين الغزاتين طفئت جمرة العرب لغزو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين ، فالأولى : خوفتهم وكسرت من حدهم ، والثانية استفرغت قواهم ، واستنفدت سهامهم ، وأذلت جمعهم ، حتى لم يجدوا بدا من الدخول في دين الله .

            ومنها : أن الله سبحانه جبر بها أهل مكة ، وفرحهم بما نالوه من النصر والمغنم ، فكانت كالدواء لما نالهم من كسرهم ، وإن كان عين جبرهم وعرفهم تمام نعمته عليهم بما صرف عنهم من شر هوازن ، فإنه لم يكن لهم بهم طاقة ، وإنما نصروا عليهم بالمسلمين ، ولو أفردوا عنهم لأكلهم عدوهم ، إلى غير ذلك من الحكم التي لا يحيط بها إلا الله تعالى . من تمام التوكل استعمال الأسباب من تمام التوكل استعمال الأسباب التي نصبها الله لمسبباتها قدرا وشرعا ، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه أكمل الخلق توكلا ، وإنما كانوا يلقون عدوهم وهم متحصنون بأنواع السلاح ، ودخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة ، والبيضة على رأسه ، وقد أنزل الله عليه ( والله يعصمك من الناس ) [ المائدة : 67 ] .

            وكثير ممن لا تحقيق عنده ، ولا رسوخ في العلم يستشكل هذا ، ويتكايس في الجواب تارة بأن هذا فعله تعليما للأمة ، وتارة بأن هذا كان قبل نزول الآية . ووقعت في مصر مسألة سأل عنها بعض الأمراء ، وقد ذكر له حديث ذكره أبو القاسم بن عساكر ، في " تاريخه الكبير " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان بعد أن أهدت له اليهودية الشاة المسمومة لا يأكل طعاما قدم له حتى يأكل منه من قدمه .

            قالوا : وفي هذا أسوة للملوك في ذلك . فقال قائل : كيف يجمع بين هذا ، وبين قوله تعالى : ( والله يعصمك من الناس ) فإذا كان الله سبحانه قد ضمن له العصمة فهو يعلم أنه لا سبيل لبشر إليه .

            وأجاب بعضهم بأن هذا يدل على ضعف الحديث ، وبعضهم بأن هذا كان قبل نزول الآية ، فلما نزلت لم يكن ليفعل ذلك بعدها . ولو تأمل هؤلاء أن ضمان الله له العصمة لا ينافي تعاطيه لأسبابها ، لأغناهم عن هذا التكلف ، فإن هذا الضمان له من ربه تبارك وتعالى لا يناقض احتراسه من الناس ، ولا ينافيه ، كما أن إخبار الله سبحانه له بأنه يظهر دينه على الدين كله ويعليه لا يناقض أمره بالقتال وإعداد العدة والقوة ورباط الخيل ، والأخذ بالجد والحذر والاحتراس من عدوه ، ومحاربته بأنواع الحرب والتورية ، فكان إذا أراد الغزوة ورى بغيرها ، وذلك لأن هذا إخبار من الله سبحانه عن عاقبة حاله ومآله بما يتعاطاه من الأسباب التي جعلها الله مفضية إلى ذلك مقتضية له ، وهو - صلى الله عليه وسلم - أعلم بربه ، وأتبع لأمره من أن يعطل الأسباب التي جعلها الله له بحكمته موجبة لما وعده به من النصر والظفر إظهار دينه وغلبته لعدوه ، وهذا كما أنه سبحانه ضمن له حياته حتى يبلغ رسالاته ، ويظهر دينه ، وهو يتعاطى أسباب الحياة من المأكل والمشرب والملبس والمسكن ، وهذا موضع يغلط فيه كثير من الناس ، حتى آل ذلك ببعضهم إلى أن ترك الدعاء ، وزعم أنه لا فائدة فيه ؛ لأن المسئول إن كان قد قدر ناله ، ولا بد وإن لم يقدر لم ينله ، فأي فائدة في الاشتغال بالدعاء ؟ ثم تكايس في الجواب ، بأن قال : الدعاء عبادة ، فيقال لهذا الغالط : بقي عليك قسم آخر - وهو الحق - أنه قد قدر له مطلوبه بسبب إن تعاطاه حصل له المطلوب ، وإن عطل السبب فاته المطلوب ، والدعاء من أعظم الأسباب في حصول المطلوب ، وما مثل هذا الغالط إلا مثل من يقول : وإن كان الله قد قدر لي الشبع فأنا أشبع أكلت أو لم آكل ، إن لم يقدر لي الشبع لم أشبع أكلت أو لم آكل فما فائدة الأكل ؟ وأمثال هذه الترهات الباطلة المنافية لحكمة الله تعالى وشرعه وبالله التوفيق .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية