الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            إرادته- صلى الله عليه وسلم- أن يكتب لأصحابه كتابا فاختلفوا فلم يكتب

            روى الشيخان عن سعيد بن جبير قال : قال ابن عباس يوم الخميس وما يوم الخميس ثم بكى حتى بل دمعه الحصى ، قلت يا ابن عباس يوم الخميس وما يوم الخميس ؟ قال : اشتد برسول الله- صلى الله عليه وسلم- وجعه فقال : ائتوني أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا ، فقال عمر : إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مد عليه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله فاختلف أهل البيت ، فاختصموا ، فمنهم من يقول : قربوا يكتب لكم ومنهم من يقول ما قال عمر . فتنازعوا ولا ينبغي عند النبي التنازع ، فقالوا : ما شأنه أهجر ؟ استفهموه ! فذهبوا يعيدون عليه فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- : «قوموا» لما أكثروا اللغو والاختلاف عنده ، دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعونني إليه . فقال : وأوصاهم عند موته بثلاث فقال : «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ، وأجيزوا الوفد بنحو مما كنت أجيزهم قال : وسكت عن الثالثة ، أو قال : فنسيها فقال ابن عباس إن الرزيئة سحل الرزيئة ما حال بين رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وبين أن يكتب لهم هذا الكتاب لاختلافهم ولغطهم» .

            وروى أبو يعلى بسند صحيح عن جابر - رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- دعا عند موته بصحيفة ليكتب فيها كتابا لا يضلون بعده وفي رواية : «يكتب فيهما كتابا لأمته .

            لا يظلمون ولا يظلمون» وكان في البيت لغط فنكل عمر فرفضها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- .


            وروى الطبراني من طريق ليث بن أبي سليم- وبقية رجاله ثقات- عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما- قال دعا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بكتف فقال : ائتوني بكتف أكتب لكم كتابا لا تختلفون بعدي فأخذ من عنده من الناس وفي لفظ : «فقالت امرأة ممن حضر ويحكم عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إليكم فقال بعض القوم اسكتي فإنه لا عقل لك فقال النبي- صلى الله عليه وسلم- أنتم لا أحلام لكم .

            وروى الإمام أحمد وابن سعد - وفي سنده ضعف- عن علي- رضي الله تعالى عنه- قال أمرني رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن آتيه بطبق أكتب فيه ما لا تضل أمتي من بعدي قال : فخشيت أن تسبقني نفسه قال : قلت إني أحفظ وأوعى قال : أوصي بالصلاة والزكاة وما ملكت أيمانكم» . وهذا الحديث مما قد توهم به بعض الأغبياء من أهل البدع من الشيعة وغيرهم ، كل يدعي أنه كان يريد أن يكتب في ذلك الكتاب ما يرمزون إليه من مقالاتهم ، وهذا هو التمسك بالمتشابه وترك المحكم ، وأهل السنة يأخذون بالمحكم ويردون ما تشابه إليه ، وهذه طريقة الراسخين في العلم ، كما وصفهم الله ، عز وجل ، في كتابه ، وهذا الموضع مما زل فيه أقدام كثير من أهل الضلالات ، وأما أهل السنة فليس لهم مذهب إلا اتباع الحق يدورون معه كيفما دار ، وهذا الذي كان يريد عليه الصلاة والسلام أن يكتبه قد جاء في الأحاديث الصحيحة التصريح بكشف المراد منه ; فإنه قد قال الإمام أحمد : حدثنا مؤمل ، ثنا نافع بن عمر ، ثنا ابن أبي مليكة ، عن عائشة قالت : لما كان وجع رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قبض فيه قال : " ادعوا لي أبا بكر وابنه فليكتب ; لكي لا يطمع في أمر أبي بكر طامع ولا يتمنى متمن " ثم قال يأبى الله ذلك والمؤمنون مرتين . قالت عائشة : فأبى الله ذلك والمؤمنون . وقال البيهقي والذهبي : وإنما أراد عمر التخفيف عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حين رآه شديد الوجع لعلمه أن الله تبارك وتعالى قد أكمل ديننا ، ولو كان ذلك الكتاب وحيا لكتبه النبي- صلى الله عليه وسلم- ولما أخل به لاختلافهم ولغطهم لقول الله تعالى : بلغ ما أنزل إليك من ربك [المائدة : 67] كما لم يترك تبليغ غيره لمخالفة من خالفه ومعاداة من عاداه ، وإنما أراد ما حكى سفيان بن عيينة عن أهل العلم قبله ، أن يكتب استخلاف أبي بكر ، ثم ترك كتابته اعتمادا على ما علم من تقدير الله تعالى ، كما هم به في ابتداء مرضه حين قال : «وارأساه» . ثم بدا له أن لا يكتب ثم قال : «يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر»

            ثم نبه أمته على خلافته باستخلافه إياه في الصلاة حين عجز عن حضورها ، وبسط البيهقي الكلام في ذلك .

            وقال المازري : إنما جاز للصحابة الاختلاف في هذا الكتاب مع صريح أمره بذلك ، لأن الأوامر قد يقارنها ما ينقلها من الوجوب ، فكأنه ظهرت منه قرينة دلت على أن الأمر ليس على التحتم بل على الاختيار ، فاختلف اجتهادهم وصمم عمر على الامتناع لما قام عنده من القرائن بأنه- صلى الله عليه وسلم- قال ذلك عن غير قصد جازم [وعزمه- صلى الله عليه وسلم- كان إما بالوحي وإما بالاجتهاد ، وكذلك تركه إن كان بالوحي فبالوحي وإلا فبالاجتهاد أيضا] .

            وقال النووي : اتفق العلماء على أن قول عمر «حسبنا كتاب الله» من قوة فقهه ودقيق نظره ، لأنه خشي أن يكتب أمورا ربما عجزوا عنها فيستحقوا العقوبة لكونها منصوصة وأراد أن لا يسد باب الاجتهاد من العلماء ، وفي تركه- صلى الله عليه وسلم- الإنكار على عمر الإشارة إلى تصويبه وأشار بقوله : «حسبنا كتاب الله» إلى قوله تعالى : ما فرطنا في الكتاب من شيء [الأنعام : 38] ولا يعارض ذلك قول ابن عباس : أن الرزية . . . . . . إلخ ، لأن عمر كان أفقه منه قطعا ، ولا يقال : أن ابن عباس لم يكتف بالقرآن مع أنه حبر القرآن وأعلم الناس بتفسيره ولكنه أسف على ما فاته من البيان وبالتنصيص عليه لكونه أولى من الاستنباط والله تعالى أعلم .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية