الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال فما بال القرون الأولى قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى .

والبال : كلمة دقيقة المعنى ، تطلق على الحال المهم ، ومصدره الباله بتخفيف اللام ، قال تعالى ( كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم ) ، أي حالهم . وفي الحديث " كل أمر ذي بال . . " إلخ ، وتطلق على الرأي يقال : خطر كذا ببالي . ويقولون : ما ألقى له بالا ، وإيثار هذه الكلمة هنا من دقيق الخصائص البلاغية .

[ ص: 234 ] أراد فرعون أن يحاج موسى بما حصل للقرون الماضية الذين كانوا على ملة فرعون ، أي قرون أهل مصر ، أي ما حالهم ، أفتزعم أنهم اتفقوا على ضلالة . وهذه شنشنة من لا يجد حجة فيعمد إلى التشغيب بتخييل استبعاد كلام خصمه ، وهو في معنى قول فرعون وملئه في الآية الأخرى ( قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا ) .

ويجوز أن يكون المعنى أن فرعون أراد التشغيب على موسى حين نهضت حجته بأن ينقله إلى الحديث عن حال القرون الأولى : هل هم في عذاب بمناسبة قول موسى ( أن العذاب على من كذب وتولى ) ، فإذا قال : إنهم في عذاب ، ثارت ثائرة أبنائهم فصاروا أعداء لموسى ، وإذا قال : هم في سلام ، نهضت حجة فرعون لأنه متابع لدينهم . ولأن موسى لما أعلمه بربه وكان ذلك مشعرا بـ الخلق الأول خطر ببال فرعون أن يسأله عن الاعتقاد في مصير الناس بعد الفناء ، فسأل : ما بال القرون الأولى ؟ وما شأنهم وما الخبر عنهم ؟ وهو سؤال تعجيز وتشغيب .

وقول موسى في جوابه ( علمها عند ربي في كتاب ) صالح للاحتمالين ، فعلى الاحتمال الأول يكون موسى صرفه عن الخوض فيما لا يجدي في مقامه ذلك الذي هو المتمحض لدعوة الأحياء لا البحث عن الأموات الذين أفضوا إلى عالم الجزاء . وهذا نظير قول النبيء - صلى الله عليه وسلم - لما سئل عن ذراري المشركين فقال : الله أعلم بما كانوا عاملين .

وعلى الاحتمال الثاني يكون موسى قد عدل عن ذكر حالهم خيبة لمراد فرعون وعدولا عن الاشتغال بغير الغرض الذي جاء لأجله .

والحاصل أن موسى تجنب التصدي للمجادلة والمناقضة في غير ما جاء لأجله لأنه لم يبعث بذلك . وفي هذا الإعراض فوائد كثيرة [ ص: 235 ] وهو عالم بمجمل أحوال القرون الأولى وغير عالم بتفاصيل أحوالهم وأحوال أشخاصهم .

وإضافة ( علمها ) من إضافة المصدر إلى مفعوله . وضمير ( علمها ) عائد إلى القرون الأولى لأن لفظ الجمع يجوز أن يؤنث ضميره .

وقوله ( في كتاب ) يحتمل أن يكون الكتاب مجازا في تفصيل العلم تشبيها له بالأمور المكتوبة ، وأن يكون كناية عن تحقيق العلم لأن الأشياء المكتوبة تكون محققة كقول الحارث بن حلزة : وهل ينقض ما في المهارق الأهواء

ويؤكد هذا المعنى قوله ( لا يضل ربي ولا ينسى ) والضلال : الخطأ في العلم ، شبه بخطأ الطريق . والنسيان : عدم تذكر الأمر المعلوم في ذهن العالم .

التالي السابق


الخدمات العلمية