الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا كان كلامه الحكيم الفيصل بين الحق؛ والباطل؛ وأبلغ ما يكون؛ ردا للاتهام الذي لا يقوم إلا بمجرى العادات؛ فتبين لهم أنه فوق مجرى العادات الحاكمة؛ التي يحسبها فلاسفتهم؛ أن الأسباب والمسببات قانون لا يقبل التخلف؛ ونسوا أن خالق الأسباب والمسببات فوق كل نظام; لأنه خالق كل نظام؛ وفعال لما يريد.

                                                          ونلاحظ قبل أن نتكلم في معاني هذه الآيات أنها عندما واجهت القوم لم تقل كما أمرت: إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا ولكنها نفذت الأمر بالفعل؛ فلم تتكلم معهم؛ بل أشارت إليه أن يرد؛ فهي نفذت مدلول الأمر؛ ولم تنطق به؛ ولو نطقت لكان ذلك نقضا للصوم الذي نذرته.

                                                          وقد أثار العلماء بحثا حول نطقه صغيرا بهذا الكلام الذي لا ينطق به إلا نبي يوحى إليه؛ أكان هذا الكلام نتيجة بعثه نبيا؛ وأنه بذلك بعث وهو صبي في المهد؟! وقد أجاب الأكثرون عن ذلك بأنه تكلم في المهد ليتحقق وفاء أمه بنذرها؛ ولتحقق براءة أمه من اتهامها بالزنا؛ وهي البريئة العذراء البتول؛ التي اصطفاها الله على نساء العالمين؛ ثم عاد إلى ما يكون عليه الأطفال؛ حتى بلغ المبلغ الذي ينطق فيه من يكون في سن النطق؛ وأثاروا بحثا حول ما جاء بقوله من أنه أوتي الكتاب؛ وجعله نبيا؛ وإيصائه بالصلاة والزكاة؛ وبره بأمه؛ ونطقه بقوله: والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا وأجيب عن ذلك بأن كل هذا الذي أخبر به سبق بلفظ الماضي؛ ومعناه للمستقبل؛ كقوله (تعالى): أتى أمر الله فلا تستعجلوه ؛ وذلك [ ص: 4634 ] لتأكيد الوقوع; ولأن الأزمان عند الله واحدة؛ لا فرق فيها بين ماض وقابل؛ فكلها في علم الله (تعالى) واحد؛ ولكن كون بعضها ماضيا؛ وبعضها قابلا؛ إنما هو بالنسبة لعلمنا نحن وحدنا؛ فالله في علمه المكنون ألهم عيسى - عليه السلام - في المهد؛ أن ينطق بهذه الأمور على أنها واقعة؛ وهي ستكون لا محالة.

                                                          أول قول لعيسى في المهد: قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا ابتدأ بإظهار العبودية لله - سبحانه وتعالى -؛ وكأنه - عليه السلام - يرد على الذين أخرجوه من مرتبة العبد الخالص الزكي الطاهر؛ إلى مرتبة الألوهية؛ وهو لن يستنكف أن يكون عبدا لله؛ والثاني: أنه آتاه كتابا يدعو الناس إلى اتباعه؛ وهو التوراة والإنجيل؛ فهو يدعو إلى العمل بهما؛ والثالث: أنه جعله نبيا؛ وهذا الجعل في علم الله (تعالى) أكنه إلى أن يبلغ من ينبأ ويحمل رسالة؛ وهو بالنسبة لنا - هذا الوقت - الذي قاله إخبار بالماضي للدلالة على مؤكد في المستقبل.

                                                          والكتاب ذكر بالتعريف بـ "ال "؛ وقد أشرنا إلى أنه التوراة والإنجيل؛ فإن الإنجيل لم ينسخ التوراة؛ ولكن نسخ بعض أحكامها؛ وما يغاير فيها لا يؤخذ به؛ وما لم ينص عليه فيها؛ يؤخذ بأحكامها.

                                                          وقد بين عيسى - عليه السلام - على لسانه؛ وهو في المهد؛ أنه سيكون مباركا؛ فقال (تعالى) عنه:

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية